منذ الأيام الأولى للثورة
الإيرانية التي جاءت بالراحل الخميني إلى سدة السلطة الدينية والسياسية والاقتصادية في إيران، دأبت طهران على محاولاتها التي لم تنقطع لتصدير "الثورة الإسلامية" بمعناها الطائفي خارج إيران، وعلى وجه الخصوص إلى البلدان العربية بهدف استراتيجي واضح، يتمثل في قلب المعادلات الجيوسياسية بشكل يهيئ لإيران تصدر المشهد السياسي والاقتصادي والثقافي في المنطقة، وبما يكفل لإيران "زعامة العالم الإسلامي".
والواقع أن محاولات إيران التاريخية في تسيّد العالم الإسلامي غالباً ما تنصدم بحقيقة مرة بالنسبة لإيران، وهي أنها تمثل "أقلية طائفية" في بحر من الأكثرية السنية في العالم الإسلامي، وهذا ما يصيبها بمرارات لا تنقضي. وهذا يسلط الضوء على حقيقة مفادها بأن الخلاف السني الشيعي في وجه من الوجوه، أو لنقل في جوهره السياسي هو خلاف قومي عربي إيراني أو عربي فارسي بالتحديد. وهذا ما جعل معظم - ما لم يكن- كل صراعات إيران سياسياً وعسكرياً تقع مع العرب والمسلمين دون غيرهم.
إن الطموح الإمبراطوري لإيران اليوم، يمثل نزعة قومية فارسية تحديداً للسيطرة على ما تعده إيران مناطق نفوذها التاريخية في
الخليج واليمن والدول المطلة على بحر قزوين، وهذه النزعة الإمبراطورية الاستعلائية هي التي توجه سياسات إيران المندفعة اليوم في ثوب ديني طائفي، وبمضامين قومية فارسية تعود إلى أحلام المجد الإمبراطوري القديم.
وبالنسبة لليمن، فقد كان
اليمن قبل الإسلام تابعاً للإمبراطورية الفارسية بفعل ذهاب ملك الحميريين سيف بن ذي يزن إلى كسرى للاستنجاد به لمواجهة الغزو الحبشي لبلاده على إثر مجزرة نصارى نجران التي تورط فيها الملك الحميري ذونواس الحميري، وهي قصة مشهورة سجلها القرآن الكريم في سورة البروج. وقد أرسل كسرى مع سيف بن ذي يزن، مئات من السجناء في فارس على أمل التخلص منهم بقتلهم حال الهزيمة، أو أن يكسب بهم منطقة نفوذ أخرى إذا انتصروا، كما تحدثنا الرواية التاريخية.
وقد كان لسيف ما أراد، وانتصرت معركة اليمنيين ضد "الأحباش المسيحيين" بمساعدة "الفرس المجوس" في ذلك الوقت. غير أن حكم اليمن آل – بعد ذلك - إلى ولاة معينين من قبل كسرى، ويتبعونه سياسياً، وكان آخرهم "باذان" الذي دخل الإسلام أيام النبي صلى الله عليه وسلم.
واليوم تعيد إيران صياغة علاقاتها باليمن من منظورها التاريخي لهذا البلد المهم بالنسبة لها، لموقعه الجغرافي على الممرات الدولية البحرية، ولقربه من الخصم اللدود لإيران، المتمثل في المملكة العربية السعودية.
وبعد دخول الحوثيين الذين يسمون أنفسهم "أنصار الله"، إلى العاصمة اليمنية صنعاء، صدرت عن الإيرانيين إشارات واضحة مرحبة بـ"النصر المؤزر"، كما سماه الرئيس حسن روحاني، ومبتهجة لسقوط "العاصمة العربية الرابعة" في يد طهران كما عبر محمد رضا كازاني المندوب في البرلمان الإيراني عن مدينة طهران. (القدس العربي، 24/09/2014).
وقد استغلت إيران الفراغ الذي خلفته دول الخليج في اليمن إثر موقف نظام الرئيس السابق من الحرب على العراق عام 1990، لتملأه مستغلة – كذلك - فترة الانفتاح السياسي الذي ساد اليمن بعد توحيد شطريه، لتنشط عن طريق بعض المراكز الطبية التي كانت تغطي أنشطة إيران الاستخبارية والتعبوية لصالح تقوية الحركة الحوثية التي اتخذت اسماً تنظيمياً آنذاك تحت مسمى "الشباب المؤمن"، قبل أن تأخذ اسمها الجديد "أنصار الله"، عام 2010.
انظر: (مجموعة باحثين: الحوثية في اليمن: الأطماع المذهبية في ظل التحولات الدولية، مركز الجزيرة العربية للدراسات والبحوث، صنعاء، ص 33،34).
وبالعودة إلى أسباب اهتمام إيران باليمن من الناحية الجيوسياسية، يمكن الحديث عن بعدين:
البعد الداخلي:
يهتم النظام في إيران باليمن لطبيعة البلد الجغرافية والديمغرافية، ويتمثل اهتمامها في محاولات تمكين وكلائها الحوثيين في اليمن من السيطرة الفعلية على السلطة، حتى وإن كانت هذه السيطرة غير ظاهرة للعيان، وهو ما تفضله إيران في هذه المرحلة التي لا يشكل فيها
الحوثيون أغلبية يمكن أن تسيطر سيطرة ظاهرية على البلاد. لذلك سعت إيران إلى إعطاء الحوثيين في اليمن وضعاً يشبه إلى حد كبير وضع حزب الله في لبنان. وفي هذه الحالة تتمكن إيران من تمرير سياساتها في اليمن بما يخدم مشروعها التوسعي في المنطقة.
تريد إيران للحوثيين أن تكون لهم اليد الطولى في البلاد، بحيث لا يستطيع رئيس الجمهورية ولا رئيس الوزراء اتخاذ أي من القرارات على الصعيدين الداخلي والحارجي إلا بموافقة الحوثيين. وفي هذا الوضع نكون إزاء تخلق حالة لبنانية على الساحة اليمنية وهي الحالة التي تكون لدينا فيها سلطة صورية تتحكم فيها مجموعة مسلحة، تستفيد من السلطة دون أن تتحمل مسؤوليتها، بعد أن تتوفر للحوثيين خصائص ما يعرف في لبنان بـ"الثلث المعطل"، وهو ما يعطيهم حق الاعتراض على أي قرار لا يتفق ومصالحهم السياسية التي لا تنفصل عن المصالح الإيرانية في المنطقة.
البعد الإقليمي:
كما تهتم إيران باليمن لطبيعته الداخلية، تهتم به – كذلك - لموقعه الجغرافي مطلاً على مضيق باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر. وقد سعت إيران منذ فترة إلى التواجد ضمن هذه المساحات المائية من الممرات البحرية الدولية. وتربط إيران بدولة إريتريا علاقات متينة، وتحدثت تقارير استخبارية عن استئجار إيران لبعض الجزر الإرتيرية لغرض تدريب المقاتلين الحوثيين تحت إشراف ضباط من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في لبنان، وكذلك لغرض تخزين الأسلحة التي تهربها إيران إلى مخازن أعدت الغرض تخزين السلاح، حتى يتم نقله فيما بعد عبر قوارب صيد صغيرة إلى سواحل البحر الأحمر اليمنية، ومن ثم إلى معقل المقاتلين الحوثيين في محافظة صعدة شمال البلاد.
وبعد سقوط صنعاء تحدثت وسائل إعلام إيرانية، ومعلقون إيرانيون عن توسع مناطق النفوذ الإيراني في المنطقة العربية، بما يشمل باب المندب وبحر العرب والبحر الأحمر والبحر المتوسط، بعد ان ضمت صنعاء إلى مناطق نفوذ طهران في بغداد ودمشق وبيروت.
إن السيطرة على الممرات المائية في المساحات المائية المذكورة هدف إيراني واضح، أكده مسؤولون إيرانيون في المؤسستين السياسية والعسكرية، ذهبوا إلى أن حدود إيران ليست الحدود على الأرض، أو الحدود الجغرافية المعروفة، ولكنها أبعد من ذلك في إشارة إلى محاولات تثبيت وجود الإيرانيين على سواحل البحر المتوسط والأحمر والعربي على السواء. يراجع: (خيرالله خيرالله: أين تقف حدود إيران، العربية نت، 8/05/2014).
إن وجود إيران على هذه الممرات يكفل لها ورقة نفوذ أخرى بالإضافة إلى أوراق أخرى مثل أوراق نفوذها لدى وكلائها من أمثال حزب الله والحوثيين والمليشيات الطائفية في العراق، دون ان ننسى ورقة الملف النووي الذي تجري حوله محادثات بين إيران ومجموعة 5+1، تسعى من خلالها إيران حالياً إلى رفع عزلتها السياسية، وفك حصارها الاقتصادي، وتكريس نفسها لاعباً إقليميا كبيراً يدخل ضمن المعادلات الدولية لصياغة حاضر ومستقبل المنطقة.
وبعيداً عن البحار والممرات المائية، تسعى إيران من خلال دعم الحوثيين في اليمن إلى هدف استراتيجي آخر، وهو ضرب الأمن القومي العربي في خاصرته الجنوبية. وقد دلت زراعة الحوثيين في منطقة صعدة على الرغم من اتساع مناطق الزيدية التي كان من الممكن أن يزرعوا فيها، ودل اختيار الموقع الجغرافي لزراعة هذه الجماعة على الحدود بين المملكة العربية السعودية واليمن، على نوايا إيران في تطويق المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية برمتها من جميع جهاتها: من الشرق في العراق الذي يحكمه اليوم تيار شيعي سياسي يدين بالولاء لطهران، ومن الشمال في سوريا ولبنان، حيث النظام السوري الحليف وحزب الله الذي يعد ذراعاً متقدمة للحرس الثوري الإيراني، والجنوب في اليمن حيث جماعة الحوثيين التي لا تعدو كونها نسخة من حزب الله اللبناني في اليمن، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك محاولات إيرانية مستميتة لاختراق المجتمع السوداني بالوسائل ذاتها، وتوطيد العلاقات مع الخرطوم ليكون الإيرانيون بالقرب من السواحل الغربية للجزيرة العربية على البحر الأحمر.
ثم إن وجود الحوثي في صنعاء مهم لمقايضة العرب والسعوديين خاصة في ملفات إقليمية أخرى في لبنان والعراق وسوريا. وفوق ذلك فإن المناطق الحدودية بين اليمن والمملكة العربية السعودية من الجانب السعودية هي مناطق الإسماعيليين الشيعة، وتريد إيران أن تكون قريبة منهم ليتم تحريكهم في الوقت المناسب، على اعتبار أنها صوت الشيعة ومتبنية قضاياهم على اختلاف مذاهبهم.
وبالمجمل فإن الحوثيين يقدمون لطهران - اليوم - الدعم الذي قدمته هي لهم، ويردون الجميل الذي أسدته لهم من قبل، غير أن ما جنته إيران من الحوثيين، لا يقارن بما قدمته لهم. حيث خطت إيران خطوة لا بأس بها نحو تحقيق حلم النفوذ الإقليمي المسيطر على المخيال السياسي في طهران، على حساب العرب.