كثيرا ما كان يقال أن محمود
عباس «أبو مازن» مثل آخرين في
السلطة، رجل «الخارج
الفلسطيني» جاء «رجل الخارج» ليكون «خيار الخارج» فيما مضى، وليصبح بعد رحيل ياسر عرفات «خيار الداخل» أيضا بعد أن انتخب في عام 2004 رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية خلفا للرئيس عرفات، ومرشحا لحركة
فتح للرئاسة الفلسطينية، «فتح» التي ستتحول مع مرور الوقت والفوضى الفلسطينية إلى حزب حاكم.
ولا يختلف أحد أن «أبو مازن» لا يتمتع بالشعبية، ولا يمتلك الكاريزما التي كانت لدى «أبو عمار» أو أحمد ياسين، أو الأسير مروان البرغوثي الذي تنازل عن الترشيح مرتين في ظروف غامضة، أو الحكيم جورج حبش .
في موازاة «فلسطيني الداخل»، و«شبيبة فتح» يأتي محمود عباس «أبو مازن» الذي تم تعيينه رئيسا للوزراء في عام 2003 بضغط دولي بهدف إدخال "إصلاحات"، والحد من نفوذ عرفات الذي اختلف معه حول تعيين محمد دحلان.
وربما دون رغبة من «الختيار» جاء أبو مازن، فكثيرا ما كان يوصف بأنه نقيض عرفات، وكان دائما يتطلع إلى العمل مع جورج بوش الابن وأرئيل شارون، لكن معاناة "أبو مازن" الحقيقة كانت مع بوش وشارون أكثر من عرفات.
شارون لم يعط «أبو مازن» شيئا، وبوش كان مترددا في تقديم المساعدة وتركه في عهدة شارون ليغرق وحده.
بعد أيام قليلة من إعلان تكليف «أبو مازن» برئاسة الحكومة أعلن أمين عام الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين نايف حواتمه أن حكومة «أبو مازن» تحمل أزمتها في معدتها، و شكك الجميع في مهمة الحكومة وهي تجريد الانتفاضة من البزة العسكرية ونزع «الفوتيك» المرقط عنها، وإنهاء عسكرة الانتفاضة، وهو مشروع سبق أن طرحه «أبو مازن» حتى قبل أن يرشح لأي منصب رسمي.
كان ذلك في عام 2002 حين دعا "أبو مازن" إلى وقف "الكفاح المسلح"، والعودة إلى وسائل الانتفاضة الأولى أي الحجارة والتظاهرات السلمية.
لكن الحكومة التي كانت عسيرة الهضم ما لبثت أن استقالت في نفس العام من تشكيلها بعد أن فشلت في إحراز أي تقدم بسبب العراقيل الإسرائيلية.
ولادة الحكومة الفلسطينية الأولى كانت عسيرة ومضنية بعد أن وصل «أبو عمار» و«أبو مازن» إلى طريق مسدود، وأعطى «أبو عمار» انطباعا بأن الحكومة هي خيار الإدارة الأمريكية، وبعد أن رأت واشنطن التآكل والصدأ ينجزان بالحصار وبالمقاطعة المفروضة على عرفات، وحتى تعيد ترميم عملية «العزل» فقد رحب بوش بزيارة «أبو مازن» لواشنطن ولكن وحده دون مرافقة عرفات له، وكان هذا الإقصاء لعرفات والترحيب بـ«أبو مازن» قبلة الموت التي طبعتها واشنطن على جبين «أبو مازن» الذي عاد بسلة تفيض حتى أذنيها بالشروط والمطالب والتأويلات، في موازاة تراجع كبير في شعبيته.
ورغم أن «أبو مازن» المولود في عام 1935 في بلدة صفد في الجليل الفلسطيني يعد خبيرا في العمل الاستخباراتي، وأمضى نحو 30 عاما في مفاوضات سرية مع الإسرائيليين إما مباشرة أو عبر وسطاء، إلا أنه لم يتمكن من زحزحة الإسرائيليين قيد أنملة، ولم يمنحه هذا أي إنجاز يستطيع أن يتكئ عليه لكسب بعض الشعبية.
ولم ينفعه توليه في عام 1970 لدور أمني في منظمة التحرير الفلسطينية، وقيامه بإنشاء شبكة من الصلات القوية مع رؤساء أجهزة استخبارات عربية وعالمية لتحقيق أي شيء على الأرض.
يمتلك «أبو مازن» خبرة نظرية طويلة في التفاوض مع الإسرائيليين بدأت مع عام 1977 حين قاد المفاوضات مع الجنرال الإسرائيلي نتنياهو بيليد التي أدت إلى إعلان مبادئ على أساس الحل بإقامة "دولتين"، كما واصل حواره مع «اليسار» الإسرائيلي .
ليدخل في عام 1989 في محادثات سرية مع الإسرائيليين من خلال وسطاء هولنديين ونسق استراتيجية تفاوض شاملة أثناء «مؤتمر مدريد للسلام» عام 1991، واعتبر أحد مهندسي «اتفاق أوسلو» في 1993 ليعود في العام التالي إلى فلسطين ويتولى إدارة شؤون التفاوض التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيس العلاقات الدولية في "م.ت.ف".
وعاد ليطرح من جديد رؤيته لشكل المفاوضات مع الإسرائيليين في عام 2000 عبر "وثيقة أبو مازن-بيلين" كإطار لعقد اتفاق نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
انتخب رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية في كانون الثاني/ يناير من عام 2005، ولا يزال في المنصب على الرغم من انتهاء ولايته دستورياً في التاسع من كانون الثاني/ يناير عام 2009، علماً أنه بحسب القانون الأساسي الفلسطيني تؤول الرئاسة بحال خلو المنصب، أو فقدان الأهلية القانونية إلي رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني إلى أن تتم الانتخابات لاختيار الرئيس الجديد، وهذا لم يتم بعد انتهاء ولايته.
المعضلة في «فتح» ومع «أبو مازن» أن جيل المؤسسين لا يزال هو المسيطر في كافة أجهزة «فتح» ومنظمة التحرير ولم تتح فرصة لخلق جيل وسطي بين المؤسسين وبين جيل الشباب، وبين جيل الشتات والخارج وجيل الداخل أو الصامدين، وهذا ما ذهبت إليه فدوى البرغوثي زوجة الأسير مروان البرغوثي حين قالت: «أن بعض الشخصيات السياسية الفلسطينية القديمة الأكبر سنا، ستقاوم نهوض جيل أكثر شبابا من القادة بهدف الحفاظ على امتيازاتهم، إنهم بلا ريب سيقاتلون للإبقاء على مناصبهم".
و ثمة عداء غير مكشوف وغير معلن أيضا بين العديد من الشبان الفلسطينيين وقيادات «الحرس القديم» الذين أمضوا معظم حياتهم في المنفى ولم يمضوا أي فترة على الإطلاق في السجن، حتى أن بعضهم لم يكونوا ضمن الكادر العسكري لحركة «فتح» أو «منظمة التحرير» ولم يحملوا بندقية في حياتهم.
ومن بينهم أبو مازن نفسه الذي هاجر في عام 1948 من مدينته صفد، وبدأ نشاطه السياسي من سوريا، ثم انتقل إلى العمل مديرا لشؤون الأفراد في إدارة الخدمة المدنية في قطر ومن هناك قام بتنظيم مجموعات فلسطينية، واتصل بحركة التحرير الوطني الفلسطيني -فتح- التي كانت وليدة آنذاك لينضم في عام 1958 لحركة فتح، وينتخب فيما بعد في عام 1968 عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني.
ودرس القانون في القاهرة ، فيما حصل على الدكتوراه من موسكو في نهاية السبعينات، وكانت أطروحته عن "العلاقات السرية بين ألمانيا النازية والحركة الصهيونية: العلاقة بين قادة النازية وقادة الحركة الصهيونية"، التي طبعتها دار ابن رشد بعد ذلك في كتاب حمل العنوان نفسه.
وشارك في اللجنة المركزية الأولى لحركة فتح لكنه ظل بعيدا عن مركز الأحداث نظراً لوجوده في دمشق وقاعدة منظمة التحرير الفلسطينية كانت في بيروت.
أفقدته دعواته المتكررة لوقف العمليات العسكرية الفلسطينية ضد الاحتلال، وإصراره على التمسك بالمفاوضات رغم التجاهل الإسرائيلي، وموقفه السلبي من العدوان الإسرائيلي على غزة الكثير من الشعبية في صفوف الفلسطينيين، بمن فيهم أنصار حركة فتح، العمود الفقري للسلطة الفلسطينية، وكانت غزة مثل شوكة في خاصرته فقد ظهر كما لو كان مسؤولا عن أقل من نصف الشعب الفلسطيني في الداخل.
وبدت المصالحة الأخيرة بين غزة والضفة غير متوقعة الأمر الذي دفع بمندوب "إسرائيل" بالأمم المتحدة رون بروس أور إلى القول إن "اتحاد فتح وحماس هو زواج عرفي".
وهو اتفاق لا يمكن التحكم بمصيره فقد سبق للطرفين أن وقعا منذ عام 2006 تاريخ القطيعة بينهما اتفاقات مماثلة في مكة والدوحة وصنعاء والقاهرة من دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ، بيد أن الاتفاق الأخير يتميز عما سبق بحسن النية، والذي ترجم على الفور باستقالة رئيس الوزراء رامي الحمد الله والبدء بتشكيل حكومة تكنوقراط في مهلة خمسة أسابيع، وتلا ذلك حديث صريح من غزة بأن حكومة إسماعيل هنية مقالة أصلاً.
وكذلك تحديد مواعيد قريبة للمجلس الوطني الفلسطيني للبحث في إعادة هيكلة منظمة التحرير، بحيث تستوعب "
حماس"، وربما المنظمات الأخرى التي ما زالت خارج الأطر الرسمية للمنظمة، وبدت المصالحة مصلحة ل"أبو مازن" الذي تمر جهوده للتفاوض مع تل أبيب بمرحلة احتضار.
أبو مازن الذي دخل عامه الـ79 يحتاج لإنهاء حياته بمشروع وطني كبير، فالمؤشرات تقول بأنه قد يواجه عملية «عزل» تمهيدا لتسليم، ربما محمد دحلان للسلطة ضمن سيناريو شبيه بسيناريو إبعاد عرفات.