يعد هو والشيخ حسن الترابي من أشهر المجتهدين على صعيد الفكر والفقه الإسلامي المعاصرين، وهو أقرب إلى الجانب الفكري والتنظير منه إلى الجانب الفقهي والشرعي.
استوعب الأوضاع السياسية في العالم العربي وتحديدا في المغرب العربي، وأحسن فهم اللعبة السياسية الداخلية في بلده
تونس وفي الوطن العربي، فصار هو وإسلاميو تونس إلى بر الأمان رغم كثافة الهجمة التي استهدفت إفشال الإسلاميين في تونس بعد أن نجحت الماكينة الإعلامية والمال السياسي العربي في إزاحة
الإخوان المسلمين عن السلطة في مصر.
مرن، قادر على استيعاب الأخر، ليس من السهل جره إلى معارك جانبية، أو استفزازه لقول ما لا يحمد عقباه.
ميوله الأولى كانت ناصرية ودفعته برغبة غير قابلة للرفض للذهاب إلى مصر للدراسة في أوج المد الناصري، لكنه لم يستقر بمصر طويلا بسبب تدخل السفارة التونسية، نتيجة للصراع الدائر آنذاك في تونس بين الرئيس الحبيب بورقيبة والقيادي في الحزب الدستوري صالح بن يوسف الذي قتل فيما بعد في ألمانيا، ولذلك انتقل راشد
الغنوشي إلى دمشق، التي حصل منها على شهادة الفلسفة عام 1968.
في 1965، ذهب راشد الغنوشي، المولود عام 1941 بالحامة في ولاية قابس، في رحلة لمدة ستة أشهر إلى أوروبا، وزار تركيا، بلغاريا، يوغسلافيا، النمسا، ألمانيا، وفرنسا. في حوار صحافي.. اعتبر الغنوشي أن هذه الرحلة وهذه التجربة شجعته على نقد
القومية العربية على أساس "أنها غربية، وليست إسلامية " ومن هنا ستبدأ تتبلور المعالم الأولى لفكره الإسلامي.
بعد هزيمة العرب في حرب حزيران/ يونيو 1967، اقتنع بضرورة " تقديم الدعم للخطاب الإسلامي"، وهنا حسب قوله بدأ "التحول إلى الإسلام"، وبدأ يتضامن مع الشخصيات الإسلامية، وتحديدا من الإخوان المسلمين، حيث كان قد قرأ كتب سيد قطب ومحمد قطب وأبو الأعلى المودودي ومحمد إقبال ومالك بن نبي وأبو حامد الغزالي وابن تيمية وغيرهم.
وانتهز الغنوشي، فرصة انتقاله إلى جامعة السوربون في فرنسا، ليبدأ نشاطه الإسلامي وسط الطلبة العرب، كما تعرف على تجربة جماعة التبليغ، وانخرط فيها للدعوة وسط العمال المغاربيين.
وفي نهاية عام 1969 عاد إلى وطنه حاملا مشروعا إسلاميا للإصلاح، والتحق بكلية الشريعة في تونس حيث حصل على شهادة التأهيل للبحث من خلال رسالة حول "القدر عند ابن تيمية"، ثم حال الاضطهاد دون مناقشة أطروحته حول "الحريات العامة في الدولة الإسلامية".
نشط في الدعوة وسط الطلاب وتلاميذ المعاهد الثانوية وعامة الناس في المساجد ونوادي الثقافة، وهنا تشكلت النواة الأولى للجماعة الإسلامية التي عقدت مؤتمرها الأول عام 1979 وبلغ عدد الذين حضروا هذا الاجتماع السري نحو 40 رجلا وذلك بهدف السعي إلى الدخول في الحياة السياسية، وانتخب الغنوشي رئيسا لها، ثم تطورت الجماعة إلى حركة الاتجاه الإسلامي عام 1981 وطالبت باعتمادها حزبا سياسيا.
قبل ذلك بقليل وفي نهاية عام 1960 قام الحبيب بورقيبة بتغيير النظام التعليمي بهدف دعم الدراسة الدينية لمواجهة التوجهات الماركسية في الحركات النقابية والجامعية، و سمحت السلطات بتشييد جوامع وبيوت صلاة في الجامعات والمصانع.
وفي سياق المشاركة الاجتماعية والسياسية، قام إسلاميو الحزب الدستوري الاشتراكي بتقديم عدة مقار لجمعية المحافظة على القرآن التي أسستها إدارة الأديان، والتحق بها الغنوشي وعبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر، وهنا بدأ الغنوشي بالتدريس في المدارس الثانوية، الجامعات والمساجد، مع مجموعة من الشباب منهم عبد الفتاح مورو وحبيب المكني وصالح كركر، الذين أسسوا فيما بعد الجماعة الإسلامية.
أخذ مثقفو هذه الجماعة بالاتصال المباشر مع العامة عبر صحيفة المعرفة التي بدأت إصدارها الأول في 1974، وفي هذه المرحلة أيضا بدأ الغنوشي صدامه مع الرئيس التونسي بورقيبة الذي اتهمه بأنه يحاول تركيز العلمانية في تونس بمحاربته الإسلام، وكان الحزب الحاكم في تونس يواجه أوضاعا خارجية وداخلية غير مريحة بعد أن اندلعت الاضطرابات النقابية والعمالية بعد سقوط السياسة الاشتراكية التي كان يتبعها أحمد بن صالح.
وتقارب الغنوشي وزملاؤه من الجماعة الإسلامية في تلك السنوات مع خطاب الزعيم الليبي معمر القذافي الذي يدعو إلى الوحدة العربية، والتي كان يدعمها أيضا في تونس السياسي التونسي محمد المصمودي وأحد قادة فتح الفلسطيني صلاح خلف (أبو أياد)، ونددت الجماعة بانسحاب بورقيبة من برنامج الجمهورية العربية الإسلامية الموقع في كانون الثاني/ يناير 1974، غير أن الغنوشي وحلفاءه الإسلاميين ما لبثوا أن ابتعدوا عن فكر القذافي القومي العربي والفكر الناصري.
واستهدفت الحركة من قبل السلطات التونسية بسبب اتهامها بأعمال "إرهابية" ومنها حرق عدة مراكز تعليمية، وخطف مسؤولين، واستهدفت الحركة أمام المحاكم من قبل القضاء ووقف الغنوشي عدة مرات أمام المحاكم، وحوكم في أول مرة بإحدى عشرة سنة سجنا قضى منها ثلاث سنوات من 1981 حتى 1984 بعد خروجه في إطار عفو عام، ولكنه عاد ثانية للاحتجاجات والنشاط السياسي.
وحوكم ثانية بالأشغال الشاقة والسجن المؤبد في 1987، هذا الحكم لم يكن كافيا بالنسبة للرئيس بورقيبة، حيث قدم طلبا برفع الحكم إلى عقوبة الإعدام، ولم يتم تنفيذ الحكم بسبب انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 من قبل الرئيس الجديد زين العابدين بن علي، الذي أمر بإطلاق سراح الغنوشي في أيار/ مايو 1988.
وكثيرا ما ندد الغنوشي بالعنف، مؤكدا دائما أن الإسلاميين لن يخترقوا الجيش والشرطة، ورغم اعتراف أحد أبرز قادة حركة
النهضة صالح كركر بأن الحركة كانت ستقوم بانقلاب في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر، عبر أنصارها الذين اخترقوا الجيش، إلا أن الغنوشي وفي 1994، فسر التحضير لمحاولة الانقلاب هذه بالتالي: "أنصار حركة الاتجاه الإسلامي المنتمون للجيش، كانوا يحضرون لانقلاب مقرر في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر، هذا القرار كان قد أصدر من قبل المكتب السياسي للحركة الإسلامية (...) لم يكن لدينا خيار أخر (...) النظام أعلن علينا الحرب (...) وهذا المخطط كان قد اتخذ خارج إطار الحركة التي كانت معظم مؤسساتها مشتتة وغائبة".
وفي عام 1988 أعيد تشكيل الحركة في صيغة جديدة "حركة النهضة" في مسعى للتوافق مع قانون يحظر تأسيس الأحزاب على أساس ديني، إلا أنه رفض اعتمادها مرة أخرى.
وبعد ما ظهرت شعبية الحركة الواسعة كما أبرزتها انتخابات 1989 التي فازت بها النهضة (حركة الاتجاه الإسلامي)، تم تزييف النتائج على نطاق واسع، مع التصميم على استئصال النهضة واعتماد خطة تجفيف ينابيع الإسلام السياسي في تونس، وهو سيناريو كان يتكرر في الجزائر المجاورة التي صادرت نتائج صناديق الاقتراع في الانتخابات البلدية التي جاءت لصالح الإسلاميين.
وما لبث الغنوشي أمام الضغط والتهديد والتضييق أن غادر البلاد بعد تزييف نتائج الانتخابات، وذهب إلى الجزائر ومن ثم إلى السودان، وفي عام 1991 أصبح رئيسا لـ"حركة النهضة " وأقام منذ العام 1991 في بريطانيا وحصل على حق اللجوء السياسي في عام 1993، وحكم عليه غيابيا مرة أخرى بالسجن مدى الحياة، وتكرر نفس السيناريو عام 1998 إذ حكم عليه غيابيا أيضا بنفس الحكم السابق.
أثناء فترة نفيه من تونس، منعت عدة دول الغنوشي من الدخول إليها مثل الولايات المتحدة، مصر، لبنان. في عام 1995، طرد الغنوشي من إسبانيا أثناء مشاركته في ندوة دولية عقدت في قرطبة حول الإسلام وعلاقته بالحداثة.
بقي في المنفى حوالي 21 سنة، عاد بعدها إلى تونس في كانون الثاني/ يناير 2011 بعد الثورة التونسية التي أدت إلى سقوط الرئيس زين العابدين بن علي، وأعلن فور وصوله إلى تونس أنه لن يترشح للرئاسة، وأن أولويته هي إعادة إنشاء حركة النهضة.
بقي الغنوشي رئيسا لحركة النهضة بعد الثورة التونسية، وبعد فوز الحركة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التونسي، بقي فاعلا في المجال السياسي الخاص بالحركة.
مرونته واهتمامه بالنتائج جنبت تونس تكرار السيناريو المصري، مؤكدا أن "النهضة" انسحبت من الحكومة وليس من الحكم" باعتبار أنها تملك حاليا الكتلة النيابية الأكبر في المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان)، مضيفاً أنها ستمارس صلاحياتها في إطار القانون ومصلحة الخيار الديمقراطي.
واقعيته دفعته إلى تأييد اختيار وزير الصناعة، مهدي جمعة، لرئاسة حكومة كفاءات مستقلة ستقود البلاد حتى إجراء الانتخابات العامة (البرلمانية) على حساب القيادي في حركة "النهضة" علي العريض، ونقل عن الغنوشي قوله إن "المسار الحكومي تجاوز مرحلة الخطر".
لم يتبقَّ الكثير ليفعله الغنوشي، الأب لأربعة بنات وصبيين، في عالم السياسة، فالعالم الإسلامي واسع بما فيه الكفاية ليحاضر فيه، ومنصبه كنائب لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين كافٍ.
كانت تجربة حركة النهضة في تونس أنضج من تجربة الإخوان المسلمين في مصر، وربما يعود ذلك إلى تفوق حركة النهضة في تجربة الحكم بتونس بتحالفها مع أحزاب علمانية ويسارية وهي خطوة مهمّة، حسب قول المفكر العربي فهمي هويدي.