قضايا وآراء

في البحث عن فلسطين

نزار السهلي
"العثور على فلسطين كقضية عادلة يتطلب إزالة معيقات كثيرة ميزت الحالة الفلسطينية المتردية، ومن ورائها حالة عربية أكثر رداءة ومخيبة للآمال"- الأناضول
"العثور على فلسطين كقضية عادلة يتطلب إزالة معيقات كثيرة ميزت الحالة الفلسطينية المتردية، ومن ورائها حالة عربية أكثر رداءة ومخيبة للآمال"- الأناضول
الاتكاء على معنى فرض وقف إطلاق النار في غزة، وجهود الوساطة العربية والدولية في ملف القضية الفلسطينية، بعد عامي حرب الإبادة، أصبح مرادفا لمقولة غربية وإسرائيلية عن نزع العقبة الأساسية من هذا المسار، لرفع الحصار عن غزة ودخول المساعدات والبدء بإعادة الإعمار، بالتركيز على نقطة نزع سلاح المقاومة وتدمير بنيتها التحتية، وكأن مخزون سلاحها الفردي "الخطير" من وجهة نظر الضاغطين يقارن بما بين يدي الاحتلال. في صدارة العناوين السياسية تتربع هذه النقطة، لضمان أن لا يكون لحركة "حماس" دور في حكم غزة، مع نقطة مهمة أيضا تتعلق بمهام القوة الدولية في غزة، حول تشكيلها وطبيعة عملها وجنسياتها. في هذا الجدل يسقط مجددا تداول استمرار العدوان على غزة والحصار المشدد وعدم التزام إسرائيل ببقية بنود وقف إطلاق النار.

تفاصيل لا نهائية تركز عليها إسرائيل، للحيلولة دون وقف فعلي للعدوان، وهذا ميدانها الرابح، عبر جر كل الأطراف نحو مربع الغرق والتيه في التفاصيل، بينما ينشغل الوسطاء والضامنون لتثبيت وقف إطلاق النار في غزة، للحفاظ عليه وتنفيذ بنوده التي لم ينفذ منها ما يتعلق بالسماح بدخول المساعدات لتلبي حاجات القطاع الهائلة وبكافة المجالات. وهنا سؤال من أسئلة عديدة: من بمقدوره الضغط على إسرائيل مجددا للامتثال بشروط وبنود وقف إطلاق النار؟

الضعف والعجز العربي، والأزمات التي تلاحق الوضع الفلسطيني الداخلي؛ ستزيد الأعباء عمقا وستتحول لكارثة سياسية قاتلة تخدم الخطط الإسرائيلية

الخروقات كثيرة والتفاصيل عديدة، والمعاناة مستمرة، وهنا نقول إنه من المعروف أن طموح الشعب الفلسطيني هو المنهل الطبيعي الذي تعود إليه القيادة السياسية للشعب الرازح تحت الاحتلال، كي تستقي منه أدواتها، لتؤطر بواسطتها وحولها الشارع لمتابعة معركتها لتحقيق التطلعات الوطنية. لكن ما يجري على هذا الصعيد معاكس في الجوهر والمطلق لهذه الطموحات، إن كان على الساحة الفلسطينية أو في دهاليز السياسات العربية والدولية.

على ما تقدم، أصبحت القضية الفلسطينية من بوابة الإبادة الجماعية في غزة، المدخل الرئيس لتخفيض الآمال المتوقعة حولها، بسياسة عربية وفلسطينية يتمحور فيها كل شيء على تنفيذ الشروط الإسرائيلية الأمريكية، والخضوع المطلق لتنفيذ الشروط انطلاقا من قبولها بالوضع الراهن كأنظمة عربية وسلطة فلسطينية، مختلفة حول رؤيتها للقضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني مرتبطة بثوابت وحقوق متعلقة بالأرض والسكان ودحر الاحتلال، لكن مع قبولها في المضمون والواقع بوجود إسرائيل ضمن تحالف والتطبيع معها بالحديث عن وجوب تحقيق "السلام" بترجمته الإسرائيلية الاستعمارية على الأرض، بدون مواقف عربية رسمية لا تصل لمسامع الحكومة الإسرائيلية ولا للإدارة الأمريكية؛ تتعلق بالضغط على الاحتلال، أو بوجوب خضوع إسرائيل للمحاكم الدولية لإدانتها بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. أي أن الضعف والعجز العربي، والأزمات التي تلاحق الوضع الفلسطيني الداخلي؛ ستزيد الأعباء عمقا وستتحول لكارثة سياسية قاتلة تخدم الخطط الإسرائيلية.

تُصر إسرائيل وقادتها وحكومتها الفاشية على التمسك بمواقفها الراهنة، التي تعبر عن رفضها المطلق لقيام أي كيان فلسطيني متحد الجغرافيا، وعلى المضي بسياسات الاستيطان الاستعمارية، وارتكاب المزيد من الجرائم في بقية المدن الفلسطينية في الضفة والقدس، وتستعر حملتها العنصرية حتى على سكان فلسطين التاريخيين في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948.

اعتادت المؤسسة الصهيونية على مواقف عربية وفلسطينية أثناء الإبادة الجماعية، باعتبارها محل اختبار أخلاقي وسياسي وقانوني ووطني وإنساني، سقط فيه الجميع، ويغرقون الآن في متابعة التفاصيل الإسرائيلية والعجز عن الفعل فيما يتعلق بإتمام عملية إنقاذ غزة ومدها بشريان الحياة، في ظل التركيز على التفصيل الإسرائيلي في متابعة استعادة جثث الأسرى الإسرائيليين في غزة، وضمان القضاء على المقاومة وجعل غزة منزوعة السلاح. وهذه تفاصيل يمكن أن تأخذ وقتا طويلا بحسب الرؤية الصهيونية التي تسمح بالمضي بعملية القضاء على الحقوق الفلسطينية وإحداث عملية تغيير جوهرية على الأرض، وهو ما يحصل.

أفرزت ظروف المجابهة في غزة، بين المقاومة والاحتلال، شكلا جديدا من التعاطي العربي مع القضية الفلسطينية، والذي بات معروفا بمفاهيم العجز والخذلان والتآمر الواضح

لذلك أفرزت ظروف المجابهة في غزة، بين المقاومة والاحتلال، شكلا جديدا من التعاطي العربي مع القضية الفلسطينية، والذي بات معروفا بمفاهيم العجز والخذلان والتآمر الواضح، وشكل آخر من التمايز في المواقف الدولية الرسمية والشعبية، بدلت من طبيعة السردية الصهيونية في الغرب، وانتقلت هذه السردية لنقاش عربي محمول على عبارات ملاينة السياسة الإسرائيلية، وتغليظ عبارات إدانة مقاومة الفلسطينيين؛ لتبرير ما أقدمت عليه السياسة العربية وما تنوي القيام به.

في البحث عن فلسطين في غزة، من تحت ركام المجازر الجماعية، وفي أروقة السياسة العربية، يعثر المرء على براهين وافية لاكتفاء الفلسطينيين من العذاب والخذلان، ومن الموت والمذابح والتآمر والانقسام والتشظي، والبحث عن فلسطين الأخرى في الضفة والقدس. أشياء كثيرة من العبث واللامعقول الذي أصبح مرادفا لأوهام فلسطينية وعربية رسمية لا يمكن الاتكاء عليها لمستقبل شعب يسعى للتحرر من الاحتلال، إلا إذا وُجدت آذان صاغية لكل هذا الصراخ والمطالب والمحاذير والمخاطر، ولتكون العين واسعة الرؤية لأبعد من خطط وتفاصيل ترمي لفرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني.

وبالبحث المستفيض عن فلسطين من غزة، الدرس الأكثر بؤسا وشراسة وبمواصفاته الإبادية اللامعقولة تماما، يمكن أن نعيد القول إن العثور على فلسطين كقضية عادلة يتطلب إزالة معيقات كثيرة ميزت الحالة الفلسطينية المتردية، ومن ورائها حالة عربية أكثر رداءة ومخيبة للآمال؛ بسخطها على مقاومة الاحتلال، لا على الاحتلال وعلى سياساته الاستعمارية.

ونحن نعرف الآن، والجميع أيضا، أن ما وُضع في خطة إنهاء الحرب على غزة هو من موقع الرغبة الأمريكية في تهدئة مواقف وشوارع دولية غاضبة من السياسة الإسرائيلية ومتغيرة باتجاه دعم عدالة قضية فلسطين، وليس من أجل لجم السياسة العدوانية الإسرائيلية المستعرة على كل أرض فلسطين التاريخية حتى لا يبقى ما نبحث عنه في فلسطين؛ الدولة والأرض والسكان والحقوق.

x.com/nizar_sahli
التعليقات (0)

خبر عاجل