قضايا وآراء

دروس سياسية عبر الأطلسي.. كيف يستفيد الإسلاميون من تجربة زهران ممداني؟

طارق الزمر
"استطاع أن يحوّل انتماءه إلى رصيد سياسي، لا إلى عبء ثقافي أو هويّاتي"- حسابه الشخصي
"استطاع أن يحوّل انتماءه إلى رصيد سياسي، لا إلى عبء ثقافي أو هويّاتي"- حسابه الشخصي
أثار فوز زهران ممداني في الانتخابات الأمريكية نقاشا واسعا في الأوساط الإسلامية والعربية، خصوصا لدى الحركات السياسية التي تبحث عن موقع جديد بعد سنوات من التراجع أو الانكماش أو الصدام. ورغم التباين العميق بين السياق الأمريكي الذي تشكّلت فيه تجربة ممداني، وبين السياقات العربية والإسلامية، إلا أن التجربة لا تخلو من دروس قابلة للاقتباس إذا أُخذت ضمن شروطها الموضوعية، بعيدا عن النقل الحرفي أو المحاكاة السطحية.

فالمسألة هنا ليست في "استلهام النموذج الأمريكي"، بل في تحليل منطق الفعل السياسي الذي اعتمده زهران ممداني، وكيف استطاع أن يحوّل انتماءه إلى رصيد سياسي، لا إلى عبء ثقافي أو هويّاتي. وفهم هذا المنطق يساعد الإسلاميين في عالمنا العربي على إعادة النظر في أدوات العمل السياسي، وفي كيفية بناء الحضور داخل المجتمع، بدل الارتهان إلى صيغ تنظيمية مغلقة أو خطاب تعبوي تجاوزه الزمن.

أولا: السياسة معالجةٌ للمصالح قبل أن تكون تمثيلا للهويات
الدرس هنا ليس إهمال الهوية، بل تحديد موضعها؛ فهي ليست شعارا انتخابيا ولا عنوانا للصراع، بل مضمونٌ قيميّ يُترجم إلى سياسات عامة يشعر الناس بفائدتها

أحد أبرز دروس تجربة ممداني هو اعتماده لغة المصالح العامة لا لغة الهوية الخاصة. فهو لم يقدّم نفسه بوصفه "المرشح المسلم"، بل بوصفه صاحب رؤية تتصل بقضايا الإسكان، والعدالة الاجتماعية، والتمييز العرقي، والعنف الشرطي. وقد جعل من موقفه الأخلاقي تجاه فلسطين امتدادا طبيعيا لمنظومة القيم التي يدافع عنها داخل دائرته المحلية.

هذه النقلة من "خطاب الهوية" إلى "خطاب المعنى العام" مفصلية، إذ إن الحركات الإسلامية غالبا ما تبني حضورها على تمييز نفسها عن المجتمع، لا على اتصالها العضوي به. وفي بيئات يغلب عليها الضغط الأمني والتضييق السياسي، تحوّلت الهوية إلى ملاذ دفاعي بدل أن تكون قاعدة للتواصل.

الدرس هنا ليس إهمال الهوية، بل تحديد موضعها؛ فهي ليست شعارا انتخابيا ولا عنوانا للصراع، بل مضمونٌ قيميّ يُترجم إلى سياسات عامة يشعر الناس بفائدتها.

ثانيا: بناء التحالفات على أساس القيم المشتركة لا الانتماءات الضيقة

اعتمد ممداني في صعوده على تحالفات متعدّدة، ضمّت جماعات السود، واللاتينيين، وحركات العدالة الاجتماعية، ويهودا تقدميين. وهذا لا يعني ذوبانا أو تنازلا عن الموقف من فلسطين؛ بل إن وضوح هذا الموقف هو ما أكسبه احترام هذه التيارات.

أما الحركات الإسلامية، فغالبا ما تعمل داخل جزر معزولة أو ضمن "جمهورها العضوي" فقط، ما يفقدها القدرة على التأثير في المجال العام.

الدرس هنا هو إعادة تعريف التحالفات بوصفها ترتيبات مصلحية متغيّرة، لا إعلان اتحاد عقائدي، ولا اعتماد على كتلة تأييد ثابتة. فالتحالف يصبح أداة لإدارة المجال العام، لا التزاما هوياتيا مفتوحا.

ثالثا: الانتقال من التنظيم الهرمي إلى الشبكة المجتمعية

يقوم العمل السياسي الذي أوصل ممداني إلى موقعه على تنظيم قاعدي شبكي يعتمد على: مجموعات متطوعين، وتمويل صغير واسع الانتشار، وطرق الأبواب والاتصال المباشر، وحضور مستمر بين السكان.

هذه البنية مرنة، قابلة للتوسع والانكماش بحسب الحاجة، ولا تعتمد على مركز قيادي مغلق أو تراتبية صارمة.

أما التيارات الإسلامية، فحين تنشأ داخل بيئات قمعية تميل نحو المركزية التنظيمية التي تجعل أي صدمة أمنية قادرة على تعطيل العمل بأكمله.

وتشير تجربة ممداني إلى إمكانية تحويل العمل الشعبي إلى شبكة سقفها السياسي متغيّر، وقاعدتها المجتمعية ثابتة.

رابعا: خطاب الواقع بدل خطاب الأجيال التاريخية

الجيل الذي انتخب ممداني لا يحمل الحساسية الأيديولوجية ذاتها التي حملها جيل الحركات الإسلامية الأولى، إنه جيل مكوَّن من: طلاب، وفقراء المدن، وأقليات عرقية، وناشطين بيئيين، وشبكات حقوقية.

خطاب هذا الجيل عملي ومباشر، لا لغوي ولا تاريخي. وقد بنى ممداني خطابه على هذا الأساس: لا استحضار تراثيا متكررا، ولا إنشائية رمزية، ولا استدعاء للماضي كمرجعية للصراع.

وعلى الإسلاميين أن يعيدوا بناء لغة السياسة، لتصبح لغة تربط الحرية بالاقتصاد، والعدالة بالمدينة، والهوية بالكرامة اليومية.

يمثّل ممداني نموذجا جديدا في الدفاع عن فلسطين، لا بالصوت المرتفع، بل بلغة قانونية وحقوقية وتحليلية، تحوّل الحدث الإنساني إلى موقف سياسي قابل للتصويت والتشريع

خامسا: فلسطين كقاعدة أخلاقية لا شعار تعبوي

يمثّل ممداني نموذجا جديدا في الدفاع عن فلسطين، لا بالصوت المرتفع، بل بلغة قانونية وحقوقية وتحليلية، تحوّل الحدث الإنساني إلى موقف سياسي قابل للتصويت والتشريع.

وهذا درس بالغ الأهمية؛ فالتحوّل من "الانفعال" إلى "الإجراء" هو الحدّ الفاصل بين الشعار والسياسة.

فلسطين في خطاب ممداني ليست قضية انتماء شعوري، بل اختبار لمصداقية العدالة. وهذه قاعدة يمكن لأي تيار إسلامي أن يتبنّاها دون صدام مع الواقع أو الدولة.

وهكذا، لا يمكن استنساخ تجربة زهران ممداني داخل العالم العربي؛ فالسياق مختلف، واللغة مختلفة، وشروط العمل السياسي مختلفة.

لكن يمكن فهم منطقها: خطاب مصالح لا هويات، وتحالفات واسعة لا مغلقة، وتنظيم شبكي لا هرمي، وسياسة لا شعارات، وفلسطين معيار أخلاقي لا هتاف.

الإسلاميون الذين يريدون الاستمرار لا يحتاجون إلى نموذج جديد بقدر ما يحتاجون إلى منهج جديد في العمل؛ منهج يرى الإنسان قبل التنظيم، والمجتمع قبل الفصيل، والمعنى قبل الرمز.

هذا هو الدرس، والبقية تتوقف على الإرادة.
التعليقات (0)

خبر عاجل