كتب

هل العلاقة بين الصوفية التونسيّة والاحتلال الفرنسي متجانسة؟ كتاب جديد

موقف الطرق الصوفيّة من السياسات الاستعمارية في تونس لم يكن موحدا، حيث انقسم الموقف إلى موال وآخر مقاوم..
موقف الطرق الصوفيّة من السياسات الاستعمارية في تونس لم يكن موحدا، حيث انقسم الموقف إلى موال وآخر مقاوم..
على أهميّة الدّراسات الجامعيّة المنجزة في جامعات بلدان المغرب العربي فيما يتعلّق بثنائية الطرق الصوفية والاحتلال الأوروبي، الفرنسي على وجه التحديد، طوال القرنين التاسع عشر والعشرين، فإنّ مخرجاتها ظلّت أسيرة الإجابة الاختزاليّة والحاسمة إمّا بالسّلب أو الإيجاب حول سؤال: هل كانت الصوفية ضد الاحتلال أم متعاونة معه وخاضعة له؟ نلمس ذلك ونحن نتصفّح أهمّ الدّراسات التّاريخيّة التي تناولت المبحث الطرقي وعلائقه الاجتماعية والسياسيّة ببلدان المغرب العربي، والتي تأتي في مقدّمتها دراسة الأستاذ التليلي العجيلي حول "الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية (1881 ـ 1939)" الصادرة سنة 1992 عن كلية الآداب بمنوبة (العجيلي، 1992)، و دراسة  محمد الكحلاوي، صاحب "مقاربات وبحوث في التصوف المقارن" و"الفكر الصوفي في إفريقية والغرب الإسلامي (القرن التاسع هجري/ الرابع عشر ميلادي).

وعلى عكس ما انتهت إليه هذه الدراسات الاختزاليّة التي تجمع كل الطرق في صف واحد مثلما كان موقف الحركة الوطنية المغربية أو التونسية بين الحربين من النشاط الطّرقي ووصمه بالعمالة، "فيه تجن لا يخلو من التأثر بواقع المرحلة، وتعميم لسياسة طريقة أو بعض الطرق (مثل الوزانية والتيجانية) على كل الطرق"، فإنّ التعاطي مع المسألة بعقل بارد من خارج تلك التجاذبات والحفرَ أعمق من "الاكتفاء بالمسح الشامل إلى التخصص وتضييق دائرة البحث بتسليط الأضواء على طرق بعينها" أبان عن حقيقة بحثيّة جديدة مفادها: "إنّ العلاقة بين الطرق الصوفية والاستعمار الأوروبي لم تكن متجانسة ولا واحدة. لقد تنوع الموقف من طريقة إلى أخرى، ومن فرع طرقي إلى فرع آخر داخل نفس الطريقة بحسب المجال والزمن، بل تباين موقف نفس الطريقة أو الفرع من فترة إلى أخرى بحسب تطور المعطيات التي تتحكم في الموقف من الاستعمار".

هذا ما خلُص إليه الباحثون الثلاثة: الدكتور عبد الرّحمان الهذلي والدكتور محمّد التّومي والدّكتور فتحي أولاد بوهدّة، ضمن مؤلّفهم المشترك والمعنون بـ" الطرق الصوفية ومقاومة الاستعمار الأوروبي في بلاد المغارب: تونس - الجزائر – المغرب الأقصى وموريتانيا"، الصّادر حديثا عن دار المنارة التونسيّة بتاريخ جويلية -يوليو 2024، والذين اهتدوا إلى استنتاجين أساسيين عابرين لأقطار المغرب العربي. أمّا الاستنتاج الأوّل فيتعلق بالطريقة التيجانية التي تلتقي فروعها عبر أقطار المغرب العربي في مهادنة الاستعمار حد التنسيق معه. ولا تزال الطريقة وفية لمنهج مؤسسيها في علاقاتها بمراكز القرار السياسي. في حين يتعلّق الاستنتاج الثاني ببقية الطرق وعلى رأسها الطريقة القادرية وتفريعاتها: اختلفت عن سابقتها بموقفها المناهض للاستعمار في الأصل. لكن مواقف فروعها وتفريعاتها سجلت تمايزات كبيرة استجابة لواقعها المحلي وما واجهته من تحديات. وذهب هذا التمايز من النقيض إلى النقيض: من رفع السلاح وجهاد الغازي (مثال الأمير عبد القادر في الجزائر والشيخ ماء العينين في صحراء موريتانيا) إلى المهادنة بل وحتى التنسيق معه (الوزانية نموذجا). في الجزء الأوّل من الكتاب، أبان الدكتور محمّد التومي التباين الواضح في مواقف الصوفيّة الطّرقيّة من الاحتلال الفرنسي. ففي حين انتحت الطّريقة  التيجانيّة موقف المهادنة والتعاون مع المحتل الفرنسي،  فإنّ الطّريقة الرّحمانيّة اختارت نهج الرّفض والمقاومة.

الاحتلال الفرنسي حاول تحييد الطرق الصوفيّة في تونس

يشير الدكتور محمّد التّومي في الجزء الأوّل من المؤلّف الجماعي " الطرق الصوفية ومقاومة الاستعمار الأوروبي في بلاد المغارب: تونس ـ الجزائر ـ المغرب الأقصى وموريتانيا" إلى الدّور الكبير والمحوري الذي شغلته الطرق الصوفية بالبلاد التونسية إلى حدود النصف الأوّل من القرن العشرين. فقد شغلت دور الأحزاب السياسية المهيكلة والمنظمة تنظيما تراتبيا محكما، وتوزعت على كامل أرجاء البلاد فسيطرت القادرية على الكاف وعموم الشمال الغربي وخصّت ابنتها الرحمانية التي تفرعت عنها قبائل الفراشيش وماجر، وانتشرت التيجانية والسنوسية في الجنوب بشقيه الشرقي والغربي.

وانتبهت السلطات الاستعمارية سريعا إلى هذه الخاصية التي تحظى بها الطرق الصوفية من انتشار واسع بين الأهالي ومن كلمة مسموعة لشيوخها، مع ما لمسته انطلاقا من تجربتها في الجزائر، من تحفّز هؤلاء الشيوخ إلى الربح المادي والمحافظة على مواقعهم في الزاوية لما توفره من قيمة معنوية ومادية ظاهرة.

صمود بعض الطرق وقيادتها لثورات متعددة بالجزائر جعل فرنسا تتوجس من الطرق الصوفية التونسية مخافة أن تلقى نفس ما لقيت من مثيلاتها في الجزائر والتي، وإن هادن البعض منها الاستعمار الفرنسي وكرس نفوذه الروحي لخدمته مثلما فعلت الطريقة التيجانية مثلا، فإن البعض منها كان وراء العديد من الثورات التي عرفتها البلاد خلال فترة الاستعمار..
وقد سعت السلطة الجديدة إلى توسيع هذا الاهتمام وجعله سياسة من سياساتها تقوم عليه مكاتب الشؤون الأهلية في طول البلاد وعرضها، وهو ما وجد قبولا عند بعض الزوايا، ورفضا مبرما من زوايا أخرى قاومت الاستعمار ولم ترضخ للإغراءات المتكاثرة من حولها. وقد سعت إدارة الاحتلال الفرنسي إلى "تحييد هذه المؤسسات الطرقية واكتساب صداقتها عن طريق إغرائها وإغراقها بمسائل إدارية وإلهائها بالمصلحة"، ثمّ إلى "توظيف هذه المؤسسات بهدف مقاومة الوعي الوطني الناشئ الذي أصبح يهدد بصفة جدّية الكيان الاستعماري بداية من ثلاثينات القرن العشرين".

كما أنّ صمود بعض الطرق وقيادتها لثورات متعددة بالجزائر جعل فرنسا تتوجس من الطرق الصوفية التونسية مخافة أن تلقى نفس ما لقيت من مثيلاتها في الجزائر والتي، وإن هادن البعض منها الاستعمار الفرنسي وكرس نفوذه الروحي لخدمته مثلما فعلت الطريقة التيجانية مثلا، فإن البعض منها كان وراء العديد من الثورات التي عرفتها البلاد خلال فترة الاستعمار، ونخص الطريقة الرحمانية المتفرعة عن القادرية. والحقيقة أن فرنسا ظلت حتى قبيل احتلالها لتونس في صراع مع بعض الطرق الصوفية على الحدود بين البلدين وهو ما انتهى إلى لجوء بعض القيادات والزعمات الصوفية في الجزائر إلى تونس حيث أسّست زوايا لها مثل إبراهيم بن أحمد الكبير مؤسس زاوية القادرية في نفطة وهو الذي عرف بمعارضته للاستعمار وعدم مهادنة سياساته. وكذلك فعل محمد بن عزوز الذي أسس زاوية في الجنوب التونسي، مما اضطر فرنسا إلى الضغط على الإيالة التونسية من أجل تسليمهم. ومن خلال تجربته في الجزائر فإن الاستعمار الفرنسي سلك نفس السياسات حيال الطرق الصوفية التونسية بالتمكين للموالية منها والتضييق على المناهضة.

الطريقة الرحمانية ترفض التسليم للاحتلال بالأمر الواقع

تُنسب الزاوية الرحمانيّة إلى مؤسسها سيدي محمد بن عبد الرحمان القشتولي في الجزائر، ودخلت إلى تونس عن طريق أحد أتباع الطريقة الرحمانية لزاوية لها بالكاف الشيخ مصطفى الطرابلسي، وخلفه أحمد بن علي بوحجر ثم احتكرت عائلة بوحجر القيام على الزاوية الرحمانية. ويشير الدّكتور التّومي إلى أنّ القوات الفرنسيّة حين دخلت التراب التونسي سنة 1881، عبر الكاف قادمة من الجزائر، كان على رأس الزاوية الشيخ علي بن عيسى الذي رفض التسليم بالأمرالواقع الذي دعت له الزاوية التيجانية وبعض أتباع القادرية، وتزعم الشيخ علي بن عيسى حركة المقاومة في الكاف. وفي نفطة من منطقة الجريد بالجنوب الغربي أسس أبناء الشيخ محمد بن عزوز القادمين من الجزائر زاوية الرحمانية بالمنطقة ويعدّ سيدي مصطفى بن عزوز أحد أشهر أقطاب الطريقة الرحمانية في الجريد، وبلغ إشعاعه إلى المناطق المجاورة حيث تأسست الزاوية العزوزية على الطريقة الرحمانية في القصرين وزاوية الشيخ مبارك بهنشير الشطّ (سليانة) وأخرى بتالة التي احتوت نسبة كبيرة من أتباعها من قبيلة الفراشيش التي كانت عماد مقاومة المستعمر، وعدم الرضوخ للقوة القاهرة الجديدة الرابضة على أعتاب مدنهم وقراهم، وقد بلغتهم أخبار القوات الاستعمارية من الجارة الجزائر، هتكا للعرض وتعدّيا على المقدّسات وسرقة للأرض والخيرات بجشع لا حدود له. وقد استبطن أتباع الرحمانيّة مقاومة المحتل مهما كان الثمن غاليا.

ومن أهم الطرق الصوفية التي حافظت على استقلاليتها وحرضت أتباعها على مجاهدة الاستعمار نجد الطريقة الرحمانية بأولاد عون التي عملت على عرقلة المشاورات المتعلقة بمشروع سدّ وادي بوزافة لريّ سهل سليانة حيث كان الاستعمار يرمي إلى استغلال الأراضي لصالحه، ووقفت له الطريقة الرحمانية شوكة في طريقه. كما قاد أتباع الطريقة القادرية ممثلة في رمز المنطقة سيدي عبد الله بوجليدة في تطاوين في أقصى جنوب البلاد ثورة الودارنة ضدّ المستعمر والتي استمرت بين سنتي 1915 و 1916 وتكبّد فيها المستعمر خسائر في الأرواح والمعدّات، رغم المحاولات اليائسة التي حرصت الطريقة التيجانية على تثبيتها بين القبائل الثائرة حيث عمد الشيخ سعد بالحاج ناصر القاضي مقدّم التيجانية في المنطقة إلى تجميع أتباعه وحثهم على عدم مقاومة فرنسا، كما أرسل شيخ الطريقة التيجانية بالجزائر الشيخ البشير بن محمد بن سي العيد أحد مقدميه إلى جهة تطاوين ليقوم بتهدئة الخواطر وحمل الناس على الانقياد إلى فرنسا. ولكن القبائل الثائرة لم تسمع لمثل هذه الدعوات واستفادت من تحريض الطريقة السنوسية في ليبيا بقيادة المجاهد خليفة بن عسكر إضافة إلى تحريض الطريقة الرحمانية والقادرية وهو ما لاقى صدى واسعا لدى القبائل الثائرة في وجه المستعمر في وقت شديد الحساسية لفرنسا المستعمرة التي تخوض الحرب على واجهات متعددة. وقد انتهت هذه المواجهات المسلحة بوضع كل المنطقة الجنوبية تحت السلطة العسكرية المباشرة.

الرحمانيّة في مواجهة مخطّطات التنصير

يؤكّد الدكتور التومي أنّ الزّاوية الرّحمانيّة أخذت على عاتقها مجابهة مخططات فرنسا في الإلهاء والتنصير من أجل الاستفراد بخيرات الأرض المغتصبة. وقد أشاد مالك بن نبيّ بالدور الفعال للزاوية الرحمانية بنفطة في تخريج أفواج الشيوخ والمتعلمين في تونس والجزائر، إذ يقول: "كان في تبسّة فوران في الأفكار، يحفظه ويرعاه العلماء الذين أخذوا يعودون من تونس. ولا يفوتنا أن نذكّر أنهم كانوا على سنّة سنّها شيخ من نفطة التونسيّة التي كانت آنذاك المركز الثقافي الذي يؤمه طلاب العلم الذين دأبوا على حفظ القرآن الكريم في زاوية سيدي بن سعيد أو زاوية سيدي عبد الرحمان وهم الذين لم يستطيعوا مزاولة تعلّمهم في جامع الزيتونة المعمور"، وظلّت الرحمانية في المناطق الحدودية التونسية الجزائرية من الكاف شمالا إلى نفطة والجريد جنوبا زاوية اللاجئين والهاربين من عسف المستعمر، واشتهر شيوخ الرحمانيّة بعدائهم العلني للاستعمار الفرنسي وخاصة الشيخ مصطفى بن عزوز والشيخ ابن عيسى، وقد دعمت هذه الزوايا الجهاد في الجزائر، من ذلك دعمها للشيخ عبد الحفيظ الحنفي الذي أعلن الجهاد في سريانة ومحمد الصغير بن الحاج الذي دعمته بالمؤونة والسلاح والمقاومين من أجل فك الحصار على الزعاطشة، كما احتضنت الثائر الطيب بن شندوقة الذي أعلن الثورة في الجلفة والأغواط كما ساعدت الزاوية الرحمانية بنفطة محي الدين بن الأمير عبد القادر في جهاده لجحافل المستعمرين في الجزائر.

أشاد مالك بن نبيّ بالدور الفعال للزاوية الرحمانية بنفطة في تخريج أفواج الشيوخ والمتعلمين في تونس والجزائر..
وسعت الطريقة الرحمانية إلى جمع شتات أنصارها في المغرب العربي والتحريض على مقاومة الاستعمار والاحتكاك بالحركات الوطنية وإرسال الوفود إلى المشرق من أجل كسب الدعم والتعريف بالقضية الوطنية وشعوبها المقهورة، وعملت من خلال الجامعة الإسلاميّة على توحيد كلمة المسلمين وكان سفيرها إليها الشيخ محمد الخضر حسين يساعده ثلّة من المنتسبين إلى هذه الزاوية من أمثال صالح الشريف وعلي باش حامبة وإسماعيل الصفايحي، وأرسلوا وفودهم إلى الآستانة واتخذوا من الصحف والدعاية والمنشورات من أجل توجيه سياساتهم الدعائية واستقطاب المهاجرين، كما راهنوا على مقاومة فرنسا من الداخل فاتصلوا بالمجنّدين والأسرى لدى الألمان لحملهم على التطوّع ضدّ فرنسا الاستعمارية وإثارة الثورات ضدّها كما أسّسوا لجنة تحرير المغرب العربي ولجنة المقاومة بتونس والجزائر ببرلين سنة 1911.

وعمل الرحمانيون على تطوير مرجعيتهم الجهاديّة واعتمدوا القلم وسيلة للتحريض والتعريف بقضيتهم. كما دعا الشيخ الخضر حسين إلى مقاطعة فرنسا اقتصاديا وتحريم بضاعتها والاقتصار على بضاعتهم المحلية. وربطت الزاوية الرحمانية صلات وثيقة بالطريقة السنوسية إبان جهادها ضدّ الغزو الفاشي الإيطالي واستطاعت أن تنظم الجهاد المشترك في الجنوب التونسي بقيادة أحد أهمّ أتباع السنوسية وهو القائد خليفة بن عسكر إضافة إلى القائد الليبي الرمز عمر المختار.

دور الطريقة التيجانيّة في إنفاذ السياسات الاستعمارية

على عكس الدّور المقاوم الذي كانت تضطلع به الزاوية الرحمانية، بالغت بعض الطرق الصوفية في موالاة المستعمر الفرنسي والتحيّز له وخدمته والوقوف في صفه. وعلى رأس الموالاة، يذكر الدكتور محمّد التّومي الطريقة التيجانيّة التي بررت هذا التموقع الاختياري في صفّ الاستعماريين بالقضاء والقدر الذي استغلّه المستعمر للنفاذ إلى المجتمع ومحاولة كسب ودّه بتعلات كثيرة منها حماية حدوده مع الجزائر من الخارجين على القانون وتأديب القبائل المتمردة والقضاء على القراصنة في البحر المتوسط وتحرير الانسان من العبوديّة والجهل..الخ وقد وجدت هذه التبريرات بعض القبول المتوجّس. وتبيّن رسالة شيخ التيجانيّة سيدي محمد الصغير التيجاني إلى الأمير عبد القادر هذه التعلّة المبالغ فيها والتي تركن إلى القضاء والقدر.

على عكس الدّور المقاوم الذي كانت تضطلع به الزاوية الرحمانية، بالغت بعض الطرق الصوفية في موالاة المستعمر الفرنسي والتحيّز له وخدمته والوقوف في صفه. وعلى رأس الموالاة، يذكر الدكتور محمّد التّومي الطريقة التيجانيّة التي بررت هذا التموقع الاختياري في صفّ الاستعماريين بالقضاء والقدر..
وقد ورد في ديباجة الرسالة: "همّنا البقاء في الهدوء الديني، ولا ننشغل إلا بأمور السماء، وليس لنا القوة أو التأثير في مقاومة جحافل جنود فرنسا.. وإذا كان قدر الله الذي جاء بالفرنسيين إلى بلد الإسلام أن يخرجوا ويعودوا إلى ما وراء البحار فإنه ليس بحاجة إلى يدي لفعل هذا العمل المقدّس.. إن هدوء الحياة الدينيّة التي نعيشها والتي ننسحب لأجلها هو الذي جعلني أقود أتباعي وأن أحافظ على أرواحهم خارج الصراعات المؤقتة التي لا معرف نهاياتها ومآلاتها".

ويشير الدكتور التّومي إلى أنّ بول كامبون المقيم العام الفرنسي صرّح  بالقول سنة  1885 "إن التيجانيّة بالنسبة إلى فرنسا، أداة من الطراز الرفيع من أجل الصمود في وجه دعاية الجامعة الإسلاميّة، وإن أعداء فرنسا هم الأعداء الطبيعيّون للطريقة التيجانية، ونخصّ الطريقة السنوسية". وتلقّطت الزاوية التيجانية هذا الاهتمام باهتمام مماثل عملت من خلاله إلى كسب ثقة الفرنسيين ودعت أتباعها إلى الهدوء وعدم مناكفة الجيش الاستعماري وتركه وشأنه في إتمام مهمته الحمائيّة للدولة التونسية ! وإبان ثورة الودارنة التي اندلعت في تطاوين سنة 1915 دُعيت الزاوية التيجانيّة إلى المساعدة في نزع فتيل الثورة المسلّحة التي أخافت المستعمر من إمكانيّة توسعها، وقد استجاب شيوخ التيجانيّة إلى هذه الدعوة وأكثروا من التجمعات الشعبية يتلون عليهم مراسلات الزاوية المركزية بتماسين، إضافة إلى الزيارات المتكررة من الزاوية المركزية إلى المنطقة المشتعلة في تطاوين من أجل سحب فتيلها وتهدئة القبائل الثائرة بتحريض من الزاوية السنوسية ومشاركة فاعلة من أتباعها وبعض أهم قياداتها العسكرية المتمثلة في القائد خليفة بن عسكر.

مساهمة الطريقة القادرية في إنفاذ السياسات الاستعمارية

لقد بدا واضحا أن ارتباط زوايا الطريقة القادرية في تونس والجزائر لم يكن متينا بالقدر الكافي وهو ما انجرّ عنه اختلافا جوهريا في تقدير الموقف السياسي من الاستعمار، حيث مثلت الزاوية القادرية في الشمال الغربي المتاخم للحدود مع الجزائر ونخصّ منها زاوية الكاف نصيرا للقوى الاستعمارية المنتهكة للحدود بتعلات الخوف على أبنائها من إزهاق أرواحهم وعلى ممتلكاتهم من التلف والمصادرة.  

وتؤكد وثائق الأرشيف الوطني أنّ زاوية القادرية بالكاف قد لعبت دورا هاما في تسهيل استيلاء الغزاة الفرنسيين على المدينة، وعلى مقدّرات المنطقة من ثروات منجمية مثل منجم الحديد والمعادن بالجريصة وآلاف الهكتارات من أراضيها الخصيبة. كما لعب "سيدي قدّور" دورا كبيرا في فتح أبواب مدينة الكاف للقوات الفرنسية حيث كان على اتصال وثيق طيلة شهر أفريل 1881، بالعون القنصلي الفرنسي "روا" إذ راسله سيدي قدّور مستفسرا إيّاه عن الدور الذي يمكن له أن يلعبه في خدمة القوات الفرنسية، فأشار عليه بأن يعمل ما في وسعه للحفاظ على تلك الصورة الحسنة التي بناها حول شخصه خلال سنين الصحبة.

ثم ما لبث سيدي قدّور، في نفس ذلك اليوم، أن أعلم "روا" أنّه على استعداد من أجل الذهاب إلى مقابلة اللواء لوجروا قائد القوات الفرنسية للإعراب له عن ولائه غير المشروط. وأبدى موافقته على أن يبذل الجهد في إقناع الناس في ولاية الكاف عن التخلي عن أيّ مقاومة من شأنها أن تؤدي إلى إراقة دماء لا طائل من ورائها.. فالاستعمار حسب سيدي قدور قدر مقدور لا رادّ له غير الدعاء والتضرّع إلى الله، وقد استطاع الشيخ قدور إقناع بعض المقاومين بالتخلي عن فكرة الجهاد مستعملا في ذلك نفوذه المادي والروحي بالمنطقة، بالإضافة إلى الدور التخذيلي الذي قام به قايد الكاف وبعض أعيانها، وفتحوا أبواب المدينة وقصبتها حيث سيقيم الجنرال وحاميته.

إنّ زاوية القادرية بالكاف كانت النموذج الأوضح في تخذيل المقاومين للاستعمار الفرنسي الذين جنحوا للدفاع عن مقدّرات الوطن وكرامته، وهم يشاهدون عن قرب ما يفعله أجناد الفرنسيين بإخوانهم في الجزائر التي سبقتهم في المحنة، وتكشف الوثائق الأرشيفيّة أنّ الشيخ أحمد قدور كان شريكا فلاحيا لمحافظ الحكومة الفرنسية بمنطقة الكاف روقارو Regaru، بل إن الشيخ قدور كان يؤلّب القوات الاستعمارية ضدّ شعبه بكشف مواقع الثوار وأسمائهم حتى يسهل ضربهم.

جماع القول، يؤكّد الدكتور محمّد التّومي في الجزء الأوّل من المؤلّف الجماعي القيّم جدّا "الطرق الصوفية ومقاومة الاستعمار الأوروبي في بلاد المغارب: تونس ـ الجزائر  ـ المغرب الأقصى وموريتانيا"، لمؤلّفيه الدكاترة محمّد التومي وفتحي أولاد هدّة وعبد الرّحمان الهذيلي، أنّ موقف الطرق الصوفيّة من السياسات الاستعمارية في تونس لم يكن موحدا، حيث انقسم الموقف إلى موال وآخر مقاوم، ولكن الفرقاء من المتصوفة الذين حشرتهم الزاوية التيجانية مثلا في حيز الموالاة لم يكونوا على قلب رجل واحد تجاه المستعمر، بل تباين الموقف من زاوية إلى أخرى، مثلما هو الحال في الزاوية التيجانيّة في أرض ورغمّة التي كانت لها اليد الطولى في مقاومة الاستعمار والتحالف مع غريمتها الزاوية السنوسيّة.
التعليقات (0)

خبر عاجل