أفكَار

مسالك مقاصد الشريعة عند الإمام الشاطبي.. قراءة معاصرة

تبين المقصد الإلهي من مجرد الأمر والنهي الواردين في النصوص، فالأمر دال بذاته على أن المقصد الانتهاء عن المنهي عنه.. فيسبوك
تبين المقصد الإلهي من مجرد الأمر والنهي الواردين في النصوص، فالأمر دال بذاته على أن المقصد الانتهاء عن المنهي عنه.. فيسبوك
نظرية المقاصد هي واحدة من أبرز الإسهامات الفكرية في الفقه الإسلامي، وقد تطورت بشكل كبير من خلال جهود علماء بارزين مثل الإمام الشاطبي والشيخ الطاهر بن عاشور.

فقد أصل  الإمام الشاطبي (ت 790هـ) لنظرية المقاصد كركيزة أساسية للشريعة، فهو هو أول من وضع الأسس الفكرية لنظرية المقاصد بشكل شامل في كتابه "الموافقات". ويرى أن الشريعة الإسلامية وُضعت لتحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة.

وقسّم المقاصد إلى ثلاث مراتب: 
الضروريات: الأمور التي لا تستقيم الحياة بدونها، كالدين، النفس، العقل، النسل، والمال.
الحاجيات: ما يُرفع به الحرج عن الناس ويُيسّر حياتهم.
التحسينيات: الأمور التي ترتقي بحياة الإنسان إلى مستوى الكمال والجمال.

وركّز على ضرورة أن يُراعي المجتهد مقاصد الشريعة في فهم النصوص واستنباط الأحكام، مشيرًا إلى أن الغفلة عن المقاصد قد تؤدي إلى تعطيل روح الشريعة.

أما  الطاهر بن عاشور (ت 1973م)، فقد وسّع نطاق المقاصد في كتابه "مقاصد الشريعة الإسلامية"، محاولًا إبرازها كمنهج شامل يصلح للتعامل مع المستجدات في العصر الحديث.

ورأى أن المقصد العام للشريعة هو "حفظ نظام الأمة وضمان استمرارها بتحقيق الصلاح في الدنيا والآخرة". هذه الرؤية أضافت بعدًا اجتماعيًا وتنمويًا لنظرية المقاصد.

ودعا بن عاشور إلى استخدام نظرية المقاصد في مواجهة القضايا المعاصرة، مثل قضايا التنمية، حقوق الإنسان، والمساواة. وقد ركّز على أن المقاصد يجب أن تكون موجهة للإصلاح وتيسير حياة الناس.

وأضاف بن عاشور مقاصد مثل الحرية والعدالة كأهداف أساسية للشريعة، مما يُظهر عمق تفكيره في توسيع المفهوم التقليدي للمقاصد.

الكاتب والمفكر التونسي الدكتور عبد المجيد النجار وهو أحد المفكرين والباحثين في مجال الفقه والفكر الإسلامي المعاصر، ويعتبر من المساهمين في تأصيل الاجتهاد المقاصدي كمنهج للتعامل مع النصوص، ومؤكدا على أهمية النظر إلى مقاصد الشريعة لتحقيق المصلحة العامة، يقدم في هذه السلسلة من المقالات التي تنشرها "عربي21" بالتزامن مع نشرها على صفحته على منصة "فيسبوك"، مسالك المقاصد عند ابن عاشور.. مقارنة بالإمام الشاطبي.


3 ـ منهج الكشف عن مقاصد الشريعة عند الشاطبي:

عقد الشاطبي فصلا في خاتمة الجزء الذي خصصه للمقاصد ترجم له بقوله "فصل في بيان ما يعرف به مقصود الشارع من تشريع الأحكام"، وقد جعله خاتمة لأنه اعتبر ما جاء فيه كالتلخيص المنظم لما جاء مبثوثا من المعاني والبيانات الجزئية في أثناء الكتاب، فقام هذا الفصل مقام التنظير لكتاب المقاصد، وهو ما عبر عنه المؤلف في فاتحة الفصل بقوله: "لا بد من خاتمة تكر على كتاب المقاصد بالبيان، وتعرّف بتمام المقصود فيه بحول الله، فإن للقائل أن يقول: إن ما تقدم من المسائل في هذا الكتاب مبني على المعرفة بمقصود الشارع، فبماذا يعرف ما هو مقصود له مما ليس بمقصود له؟".

وبعد تقرير المنهج العام الذي اختاره في البحث عن المقاصد، والذي يجمع كما مر بيانه بين اعتبار اللفظ والمعنى معا بحيث لا يخلّ أحدهما بالآخر، يعرض مسالك أربعة يتم بها تبين المقاصد وتمثلها، وهي التالية:

المسلك الأول:

تبين المقصد الإلهي من مجرد الأمر والنهي الواردين في النصوص، فالأمر دال بذاته على أن المقصد الانتهاء عن المنهي عنه، وقد قال الشاطبي في التعقيب على هذا المسلك: إنه وجه ظاهر عام لمن اعتبر مجرد الأمر والنهي من غير نظر إلى علة، ولمن اعتبر العلل والمصالح.

وقد وضح الشاطبي هذا المسلك بقيدين: أولهما أن يكون الأمر أو النهي ابتدائياً احترازا من المقصود بالقصد الثاني كالنهي عن البيع في قوله تعالى: (الجمعة،9). وثانيهما أن يكون تصريحيا احترازا من الأمر الذي لا يتم الأمر إلا به، أو الأمر بخلاف المنهي عنه. إلا أنه مع هذا التوضيح يبقى هذا المسلك مفتقرا إلى البيان وإلى معالجة جملة من القضايا التي تتعلق به.

لقد تضمن هذا المسلك أن وقوع الفعل مقصد شرعي يتوصل إلى معرفته بمجرد الأمر، وهو ما يطرح بعض التوقفات؛ ذلك لأن هذا المعنى لا يكون صحيحا مطلقا إلا في صورته المجردة إذا ما نظرنا إلى مقتضى الأمر وهو الوقوع بقطع النظر عن تحققات هذا الوقوع، أما إذا نظرنا إلى هذه التحققات فهل يصح القول بأن كل تطبيق فعلي للأمر هو في ذاته مقصود للشرع والحال أننا نجد أفرادا من تطبيقات الأوامر تكون مناقضة لمقصود الشارع، أو على الأقل غير محققة له؟ وذلك كما إذا طبق مقتضى الأمر بقطع يد السارق في حالة المجاعة، وهو ما يجعلنا نتساءل: هل وقوع الفعل الذي يقتضيه الأمر مقصد شرعي في ذاته، أم إن المقصد الشرعي هو ما يحققه ذلك الوقوع فلا يكون إذاً الوقوع مقصداً إذا لم يؤدّ إلى ثمرته؟

إن هذه التوقفات جديرة بالبيان في سياق هذا المسلك من قبل الشاطبي، وعدم بيانها يجعلنا نلجأ إلى التقدير في تبين مقصوده منها. فلعله قصد بما ذكر أن مقصد الشارع من ظاهر الأمر هو إيقاع المأمور به من جهة الانصياع للأمر الإلهي والتسليم له، وهو مقصد عام لا تنقضه جزئيات من التحققات قد لا تكون مؤدية إلى مقصد من المقاصد القريبة فتؤخذ حينئذ بعين الاعتبار ظروف وملابسات الوقوع من تلك الجهة، فإذا ما لم يتحقق وقوع مقتضى الأمر في هذه الحالة لم يقع الإخلال بهذا المقصد العام الذي هو الانصياع، لأن عدم الوقوع ليس متجها بالنقض إلى الانصياع بل لتحقيق مقصد آخر قريب، كمثل عدم وقوع القطع في عام المجاعة.

وعلى أية حال فإن هذا المسلك الذي رسمه الشاطبي إذا كان ينقصه البيان كما ذكرنا فإن فيه تحوطا ظاهرا من أن يقع الإخلال في إيقاع مقتضى الأمر والنهي تعللا في ذلك بأن المصلحة ( أي المقصد الشرعي) لا تكون في ذلك الإيقاع بل تكون في عدمه، وهو مسلك الباطنية قديما، ومسلك الدعاة إلى تعطيل النصوص حديثا، ففي جعل مجرد الإيقاع مقصدا شرعيا قطع لهذه الذريعة.

المسلك الثاني:

هو أن لا يقتصر على مجرد الأمر والنهي بل يتعدى ذلك إلى اعتبار العلل في الأمر والنهي، فيقع البحث عن هذه العلل لتعيينها بمسالك العلة المعلومة في أصول الفقه، فإذا ما عرفت عرف بها مقصد الشرع فيقع العمل بمقتضاها أينما وجدت. أما إذا لم تعلم بعد البحث والاجتهاد فإن المقصد الشرعي يبقى غير معلوم تبعا لذلك، وفي هذه الصورة: إما أن يؤدي النظر إلى التوقف عن تعيين مقصد الشرع لعدم توفر الدليل عليه فيقع المزيد من البحث للظفر بالدليل وغالبا ما يكون هذا في المعاملات، وإما أن يؤدي النظر إلى التوقف عن تعيين المقصد مع الجزم بأن الحكم المنظور فيه لا ينبغي تعديته إلى غيره مما ليس فيه حكم، لأن المقصد وإن لم يعلم في ذاته فإنه يعلم أنه ليس مرادا في غير محله، وغالبا ما يكون هذا في العبادات.

إن المقاصد منها الأصلي ومنها التابع المؤكد له، مثل التناسل فهو مقصد أصلي للنكاح، والسكينة والتعاون مقصد تابع يؤكده، وإذا ما كان المقصد الأصلي معلوما فإن المقاصد المؤكدة له وهي الأكثر وجودا في واقع الأحكام تعرف بمقايستها بالمقصد الأصلي، فما كان مؤكدا له مقويا لحكمته فهو مقصد شرعي، وما كان مناقضا فهو ليس بمقصد شرعي،
ومن البيّن أن هذا المسلك يرجع إلى ما عرف عند الأصوليين بمسالك العلة، فتلك المسالك تصبح طرقاً لاستكشاف مقصد الشريعة، إلا أنه مما يلفت الانتباه أن الشاطبي لم يجعل في هذا الصدد علل الأحكام المبحوث عنها مقاصد في ذاتها، والحال أنها في الحقيقة مقاصد وإن تكن مقاصد قريبة، بل جعلها كالعلامة على المقاصد، أما المقاصد في ذاتها فهي مقتضى العلل من إيقاع الفعل أو عدم إيقاعه، وهذا ما يوافق ما جاء في المسلك الأول من اعتبار المقاصد في إيقاع الأفعال أو عدم إيقاعها وجعل مجرد الأمر والنهي طريقا لمعرفتها.

المسلك الثالث:

إن المقاصد منها الأصلي ومنها التابع المؤكد له، مثل التناسل فهو مقصد أصلي للنكاح، والسكينة والتعاون مقصد تابع يؤكده، وإذا ما كان المقصد الأصلي معلوما فإن المقاصد المؤكدة له وهي الأكثر وجودا في واقع الأحكام تعرف بمقايستها بالمقصد الأصلي، فما كان مؤكدا له مقويا لحكمته فهو مقصد شرعي، وما كان مناقضا فهو ليس بمقصد شرعي، فبهذا المسلك يعلم مثلا أن نكاح المتعة ونكاح التحليل للمطلقة ثلاثا لا يتحقق فيهما مقصد شرعي، لأنهما ينقضان المقصد الأصلي المعلوم من النكاح، وهو مقصد التناسل واستدامة التراحم والمعاشرة .

إن هذا المسلك هو بعينه ما بحثه الأصوليون في قضية المناسب، إذ المناسب ليس إلا وصفا في الأفعال يكون مناسبا ومتسقا ومحققا لتصرفات الشارع فكأنما هو مقصد فرعي بإزاء المقاصد العامة.

المسلك الرابع:

هو مسلك تعرف به مقاصد الشريعة في عدم الفعل لا في الفعل، وذلك أنه إذا سكت الشرع عن حكم مع وجود معنى يقتضي ذلك الحكم، يكون ذلك السكوت مسلكا يعلم منه أن مقصد الشارع في عدم ذلك الحكم المظنون بالمعنى الذي يقتضيه. ومثال هذا المسلك سجود الشكر على مذهب مالك، فلما كان الشارع ساكتا عن تشريع السجود شكرا لله على نعمة تحل بالإنسان، مع توفر المعنى الداعي لهذا السجود علم من ذلك أن مقصد الشريعة عدم السجود، ويعتبر السجود بذلك زيادة في الدين ..ومثال ذلك أيضا سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم (أي عدم عمله) عن الزكاة في الخضر والبقول مع قيام المعنى الداعي لذلك باعتبار مشابهتها لسائر المنتوجات الزراعية، فهو مسلك يعلم به أن عدم الزكاة فيها مقصد شرعي، وإجراء الزكاة زيادة في الدين، فذلك كله دل كما نص عليه الشاطبي، "على أن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان مقصودا، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فيبطل".

لقد ارتقى الشاطبي بهذا المبحث الذي تعرض له الأصوليون كمسألة جزئية إلى أن جعله مسلكا قائما لمعرفة مقاصد الشريعة ليجعله أساسا لمقاومة البدعة، وهو الرجل الذي عرف بمقاومته للبدع، فقد رأى أن أكثر البدع تأتي من الظن بأن ما سكت الشارع عن الحكم فيه مع قيام المعاني الداعية إليه تتنزل منزلة الأفعال المقصودة فتقام عليها الأحكام وتبنى عليها الأفعال. وهذا المسلك في معرفة المقاصد هو الذي كان أساسا يدور عليه تفصيل القول في البدع في الكتاب الذي خصصه الشاطبي لذلك وهو كتاب "الاعتصام"، ولما كان هذا المسلك يشبه أن يؤدي إلى حرج متمثل في أن ما يؤدي إليه من عدم اعتبار المقاصد فيما سكت عنه الشرع يتناقض مع القول بالمصلحة المرسلة التي هي عمدة من عمد المالكية في استنباط الأحكام عقد الشاطبي في "الاعتصام" باباً عظيم الفائدة ترجم له بقوله: "الباب الثامن في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان". بين فيه الفرق بين البدعة التي تنشأ عن إهمال هذا المسلك في معرفة مقاصد الشريعة وبين المصالح المرسلة التي تبنى على ما يناسب التصرف العام للتشريع.

اقرأ أيضا: مسالك المقاصد عند ابن عاشور.. مقارنة بالإمام الشاطبي.. مقدمات أولية

اقرأ أيضا: مقاصد الشريعة بين ظاهر النص وباطنه.. مقارنة بين ابن عاشور والإمام الشاطبي

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل