قضايا وآراء

الرد الإسرائيلي على إيران وإعادة تعريف ديناميكيات الصراع في الشرق الأوسط

عمر عوض
انتقدت أوساط سياسية ووسائل إعلام الرد على إيران، واصفة إياه بـ"الركيك" و"التافه"- الأناضول
انتقدت أوساط سياسية ووسائل إعلام الرد على إيران، واصفة إياه بـ"الركيك" و"التافه"- الأناضول
في فجر يوم السبت (26 تشرين الأول/ أكتوبر)، أعلنت "إسرائيل" عن تنفيذ هجوم استهدف مواقع عسكرية في عدة محافظات إيرانية، وذلك ردّا على مشاركة إيران في الهجمات ضد "إسرائيل" منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وخاصة عملية "الوعد الصادق 2" التي نفذتها إيران ضد مواقع عسكرية إسرائيلية في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر.

وصرّح الجيش الإسرائيلي بأن الهجوم كان "دقيقا" واستهدف نحو 20 موقعا عسكريّا، من بينها مواقع تصنيع وإطلاق الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، وبطاريات الدفاع الجوي، بمشاركة عشرات الطائرات من سلاح الجو الإسرائيلي.

وقد جاء الهجوم الإسرائيلي على شكل عدة موجات استمرت على مدار ساعات، ومن المرجح أن الموجة الأولى استهدفت القدرات الدفاعية الإيرانية؛ تمهيدا لشن الضربات التالية على مواقع الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية، كما جاء في تقارير الإعلام الإسرائيلي.

في حين اعتبرت "إسرائيل" مع انتهاء العملية أنها حققت "جميع الأهداف"، تحدثت تقارير إعلامية مقربة من طهران، عن نجاح الدفاعات الجوية الإيرانية في التصدي لنسبة عالية من الأهداف المعادية، وعن عدم تعرض مراكز عسكرية تابعة للحرس الثوري الإسلامي للاستهداف في مناطق غرب وجنوب غرب طهران.

وأشارت البيانات الرسمية للجيش الإيراني إلى نجاح "المنظومة الشاملة للدفاع الجوي" في مواجهة الهجوم الإسرائيلي على إيران، ووصفت الأضرار التي لحقت "ببعض" مواقعها العسكرية بأنها "محدودة".

وادعى مسؤولون إسرائيليون مشاركة 100 طائرة، بين مقاتلات وطائرات مسيرة، في الهجوم على إيران، بينما نفت وكالة "تسنيم" الإيرانية هذا الادعاء، بالإضافة إلى نفي تعرض "20" موقعا عسكريّا إيرانيّا للهجوم، معتبرة أن هذه الأرقام محض أكاذيب إسرائيلية، تهدف إلى تعزيز زخم الهجوم المحدود، وتندرج في إطار الحرب النفسية.

يعتبر الكثير من المطلعين، أن الرد الإسرائيلي جاء محدودا ومدروسا بعناية، إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم القوة التي أظهرتها إيران في عملية "الوعد الصادق 2"، والتهديدات الإسرائيلية المكثفة عقب انتهاء تلك العملية، لكن يبدو أن "إسرائيل" اختارت عملية ضيقة نسبيا لتجنب رد إيراني محتمل عليها.

حدود الرد الاسرائيلي

يعتبر الكثير من المطلعين، أن الرد الإسرائيلي جاء محدودا ومدروسا بعناية، إذا أخذنا بعين الاعتبار حجم القوة التي أظهرتها إيران في عملية "الوعد الصادق 2"، والتهديدات الإسرائيلية المكثفة عقب انتهاء تلك العملية، لكن يبدو أن "إسرائيل" اختارت عملية ضيقة نسبيا لتجنب رد إيراني محتمل عليها. وتشير التصريحات الرسمية الإيرانية والبيانات الإعلامية الإيرانية التي قللت من حجم الرد، إلى أن إيران قادرة على احتواء هجوم إسرائيلي بهذا المستوى، بحيث لا يستدعي ردّا إيرانيّا أوسع قد يؤدي إلى اندلاع حرب شاملة.

مع ذلك، يمكن القول؛ إن "إسرائيل" أضافت إنجازا محددا في هذه الضربة؛ فبمراجعة العمليات الإسرائيلية السابقة ضد إيران، نجد أنها كانت تعتمد بشكل أكبر على الضربات الأمنية لجهاز الموساد، مثل اغتيال علماء النووي الإيراني. حتى في ردها على عملية "الوعد الصادق 1"، استخدمت "إسرائيل" طائرات مسيرة لضرب أهداف عسكرية في أصفهان، انطلقت إما من داخل إيران أو من الحدود العراقية مع إيران.

أما في العملية الأخيرة، فقد انطلقت الطائرات الإسرائيلية من  القواعد الإسرائيلية، وقطعت مسافة طويلة أظهرت قدرات تشغيلية لسلاح الجو الإسرائيلي، حيث شاركت طائرات مزودة بالوقود إلى جانب المقاتلات والطائرات المسيرة. من المهم التذكير بأن "إسرائيل" تمكنت سابقا من ضرب أهداف في اليمن، حيث قطع سلاح الجو مسافة مشابهة للمسافة بين "إسرائيل" وإيران.

على الرغم من ذلك، ليس من المؤكد أن المقاتلات الإسرائيلية قد دخلت الأجواء الإيرانية بالفعل. فقد نقلت تقارير إيرانية، أن الدفاعات الجوية الإيرانية بحالة جيدة ولم تتعرض للتدمير، في حين أشار محللون عسكريون إلى أن دخول المقاتلات الإسرائيلية نطاق الدفاع الجوي الإيراني، يفترض تدمير هذه الأنظمة، وهو ما لم يحدث على الأرجح. يبدو إذن أن المقاتلات الإسرائيلية قد استهدفت أهدافها من الحدود العراقية مع إيران، أي من خارج نطاق الدفاع الجوي الإيراني، بينما حاولت طائرات مسيرة إسرائيلية دخول الأجواء الإيرانية، وقد اعترضتها إيران حسب روايتها.

من الناحية العسكرية، يمكن القول؛ إن إسرائيل أعلنت في عمليتها الأخيرة بداية نمط جديد في الحرب مع إيران؛ فقد نفذت ضربات بسلاح الجو على أهداف عسكرية انطلاقا من قواعدها، معتمدة بالكامل على قدراتها الذاتية.

إذن، من الناحية العسكرية، يمكن القول؛ إن إسرائيل أعلنت في عمليتها الأخيرة بداية نمط جديد في الحرب مع إيران؛ فقد نفذت ضربات بسلاح الجو على أهداف عسكرية انطلاقا من قواعدها، معتمدة بالكامل على قدراتها الذاتية، حيث تمكنت من تزويد مقاتلاتها بالوقود لقطع مسافة طويلة للوصول إلى الأجواء الإيرانية، دون الاعتماد على أي من حلفائها، كما حدث في عدوانها على اليمن.

أما في إيران، فقد أظهرت أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية قدرة جيدة على حماية البلاد، حيث تمكنت من إسقاط نسبة محددة -غير معروفة- من الطائرات المسيرة والصواريخ الإسرائيلية، كما فضل الإسرائيليون إبقاء مقاتلاتهم خارج نطاق الدفاع الجوي الإيراني. فإسقاط مقاتلة إسرائيلية في الأجواء الإيرانية كان سيشكل فشلا كبيرا لـ"إسرائيل".

لكن السؤال الأهم في هذا السياق هو: لماذا لم توجه "إسرائيل" ضربات إلى مواقع نووية في إيران، خاصة أن سلاح الجو الإسرائيلي أظهر قدرته على الوصول إلى الأراضي الإيرانية؟

الدور الأمريكي في رسم الرد الاسرائيلي

في الواقع، انتقد زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد عدم استهداف "أهداف استراتيجية واقتصادية إيرانية"، واعتبر ذلك قرارا "خاطئا"؛ لأن "إسرائيل" كانت قادرة على إلحاق خسائر أكبر بإيران. وإذا نظرنا إلى سلوك "إسرائيل" في المنطقة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، نجد أنها تصرفت بحرية في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن، دون ردع يذكر من المنظمات الدولية أو الولايات المتحدة، على الأقل بناء على تصريحات مسؤولين أمريكيين في عدة فترات خلال الحرب.

في هذه المرة، يبدو أن "إسرائيل" لم تتصرف وفق منطق امتلاكها "القوة الفائضة" القادرة على تدمير أعدائها كما تروج عادة، بل اختارت ردّا "عاقلا" ومدروسا بعناية. في هذا السياق، كان التعليق الأمريكي على العملية الإسرائيلية ضد إيران الأكثر أهمية لفهم البعد السياسي لهذا الهجوم.

بداية، صرّح مسؤول أمريكي لقناة الجزيرة بأن بلاده لم تشارك في العملية ضد إيران، على الرغم من وصول سرب طائرات F-16 إلى قاعدة أمريكية في الشرق الأوسط مؤخرا. كما قال مسؤول أمريكي لوكالة "رويترز"؛ إن "إسرائيل" أبلغت واشنطن بشن الضربات قبل تنفيذها، واعتبر أن "الهجوم الإسرائيلي يجب أن يكون نهاية للتبادل المباشر لإطلاق النار بين طهران وتل أبيب". وأضاف مسؤول أمريكي آخر، أن "واشنطن تطلب من طهران عدم الرد على هجوم إسرائيل".

إذن، قامت الولايات المتحدة بخطوتين في سياق العملية: أولا، أرسلت مقاتلات F-16  قبل تنفيذ الضربة، لكنها لم تشارك في الهجوم؛ ويبدو أن دورها اقتصر على حماية "إسرائيل" من أي رد محتمل من إيران، كما أرسلت قبلها منظومة "ثاد" للغرض ذاته. ثانيا، يُحتمل أن الإدارة الأمريكية أقنعت "إسرائيل" أو ضغطت عليها لتقليل حجم الرد على إيران، بعد أن رفع مسؤولون إسرائيليون سقف التوقعات بشكل كبير عقب عملية "الوعد الصادق 2".

أسهمت هذه التحركات الأمريكية في احتواء التصعيد بين إيران و"إسرائيل" على مستويين: الأول بزيادة القدرات الدفاعية لـ"إسرائيل" في مواجهة إيران، والثاني بتخفيف شدة الضربة الإسرائيلية على إيران، مما قلل من الحاجة الإيرانية للرد. وبهذا، تم احتواء التصعيد بين الطرفين، على الأقل في هذه المرحلة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأمريكية.

في هذه المرة، فقد تمكنت واشنطن من ضبط الطرف الذي غالبا ما يكون المعتدي الأول في الصراعات، أي "إسرائيل"، رغم سلوكها العدائي، ورغم إيلائها أهمية "وجودية" لردع إيران. كذلك أوحت لطهران بأهمية الدور الأمريكي في كبح جماح إسرائيل عن استهداف مواقع استراتيجية نفطية ونووية، خاصة أن طهران صرحت منذ بداية الأحداث، بعدم رغبتها في حرب شاملة، رغم استعدادها لها.

يبدو أن الولايات المتحدة نجحت في تحقيق رؤيتها باحتواء التصعيد بين إيران وإسرائيل، على الأقل من الجانب الإسرائيلي، بانتظار تقييمات وردود فعل أكثر وضوحا من الجانب الإيراني. ويحقق هذا الاحتواء للأمريكيين إنجازا على مستويين:

الأول، على صعيد النفوذ الأمريكي ككل؛ فخلال الحرب الإسرائيلية على غزة، ومؤخرا على لبنان، ظهرت واشنطن، وخاصة إدارة بايدن، غير قادرة على ضبط نتنياهو. أما في هذه المرة، فقد تمكنت واشنطن من ضبط الطرف الذي غالبا ما يكون المعتدي الأول في الصراعات، أي "إسرائيل"، رغم سلوكها العدائي، ورغم إيلائها أهمية "وجودية" لردع إيران. كذلك أوحت لطهران بأهمية الدور الأمريكي في كبح جماح إسرائيل عن استهداف مواقع استراتيجية نفطية ونووية، خاصة أن طهران صرحت منذ بداية الأحداث، بعدم رغبتها في حرب شاملة، رغم استعدادها لها.

كذلك، وجّهت واشنطن رسالة إلى دول المنطقة، مفادها أنها ما زالت قادرة على حفظ الاستقرار وحماية المصالح الاستراتيجية، إذ إن ردّا إسرائيليّا واسع النطاق كان يعني احتمال استهداف المنشآت النفطية في المنطقة. هذا كله بمنزلة رسالة أمريكية، تؤكد أن واشنطن استعادت إدارة المشهد في المنطقة، وأن "إسرائيل" لا تستطيع المضي بعيدا دون مرافقة أمريكية.

أما المستوى الثاني، فيتعلق بإدارة بايدن، فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية في أمريكا، تمكن بايدن من تحقيق إنجاز مهم في الشرق الأوسط عبر منع التصعيد في المنطقة، وإعادة تعريف الدور الأمريكي كما كان تاريخيا. كما أنه قطع الطريق على ترامب للاستفادة من ورقة التصعيد العسكري في الشرق الأوسط، التي طالما تغنى بها. فقد ساهم الدور الأمريكي في تحديد وتيرة الضربة الإسرائيلية، مما أسهم في احتواء الرد ومنع التصعيد العسكري، الذي كان من الممكن أن يستفيد منه ترامب قبل بدء الانتخابات الرئاسية.

تأثير حجم الرد الاسرائيلي على مشهدية الصراع

أما بالنسبة إلى الجانب الإيراني، فقد استفادت طهران من ضعف الرد الإسرائيلي، وأثبتت أنها باتت دولة قوية قادرة على التأثير في المسار الاستراتيجي للحروب العسكرية، ومن وراء ذلك في الصراع السياسي المتعلق بالنفوذ والمصالح الكبرى. لهذه التطورات دلالات متعلقة بمكانة إيران، التي ستظهر تباعا رغم محاولات تحجيم قوتها في الإعلام لسنوات.

من الجانب الإسرائيلي، انتقدت أوساط سياسية ووسائل إعلام الرد على إيران، واصفة إياه بـ"الركيك" و"التافه". إذ اعتاد المجتمع الإسرائيلي أن يرى جيشه متفوقا دائما على "أعداء إسرائيل" بشكل حاسم ومرعب، إلا أن "إسرائيل" لم تتمكن من تحقيق انتصار حاسم وقوي كما اعتادوا، ويبدو أنها ستضطر مستقبلا إلى "عقلنة" ضرباتها العسكرية بحكم الأمر الواقع.

"إسرائيل" قد تضطر إلى تعديل عقيدتها العسكرية؛ فبدلا من البحث عن انتصارات سريعة بعمليات أمنية خاطفة وبأثمان زهيدة، قد تضطر إلى خوض معارك عسكرية نظامية تمتد لفترات زمنية طويلة. لذلك، قد تكون العملية الأخيرة بمنزلة تمهيد "فني" لضربات أكبر في المستقبل، حيث ستصبح الحرب محكومة بمنطق "تسجيل النقاط" و"التصعيد التدريجي"، الذي يمثل الوعي العسكري لمحور المقاومة.

يشير هذا الافتراض، إلى أن "إسرائيل" قد تضطر إلى تعديل عقيدتها العسكرية؛ فبدلا من البحث عن انتصارات سريعة بعمليات أمنية خاطفة وبأثمان زهيدة، قد تضطر إلى خوض معارك عسكرية نظامية تمتد لفترات زمنية طويلة. لذلك، قد تكون العملية الأخيرة بمنزلة تمهيد "فني" لضربات أكبر في المستقبل، حيث ستصبح الحرب محكومة بمنطق "تسجيل النقاط" و"التصعيد التدريجي"، الذي يمثل الوعي العسكري لمحور المقاومة، والذي استطاع أن يوجه المشهد السياسي على هذا الأساس.

لكن هذا التوجه يطرح على "إسرائيل" عدة تساؤلات، أولها مدى قدرتها على تحمل حرب طويلة على الصعيد المدني والاقتصادي، وليس العسكري فقط، مقارنة بإيران التي عادة ما تنجح في إدارة هذا النمط من الحروب؟

كما أن هذا النمط لن يوفر للمجتمع الإسرائيلي مشاهد "هوليودية" لضربات وإنجازات جيشه، كما حدث في عدوان اليمن وعملية "البيجر" في لبنان، على الرغم من أن إيران تمكنت من رسم مشهد طاغ لإبراز القوة والرعب في عملية "الوعد الصادق 2". وهذا أمر مهم بالنسبة لنتنياهو، الذي يولي أهمية كبيرة للجانب النفسي في الحروب.

ومع ذلك، لم يتمكن الرد الإسرائيلي من تقديم ما يحب نتنياهو، حتى إن بعض المتأثرين بالبروباغندا الإسرائيلية في الشارع العربي، باتوا يسخرون من "إسرائيل" في الوقت الحالي، مما يعد مؤشرا على ضعف الرد الإسرائيلي في هذا الجانب.

بعيدا عن تقارير الإعلام الإيراني والتصريحات الرسمية، قد تكون "إسرائيل" قد نجحت في استهداف بعض النقاط أو القواعد الحساسة للمشروع الباليستي الإيراني، وهذا ربما أقصى ما يمكن افتراضه كإنجاز إسرائيلي. لكن المؤكد أن "إسرائيل" لم تتمكن من تنفيذ ما تشاء كعادتها، وأصبحت مجبرة على إعادة تعريف عقيدتها العسكرية، بما يتناسب مع تغيرات موازين القوة في المنطقة.

في جميع الأحوال، ما حدث يعد مؤشرا جديدا على حقيقة قديمة؛ فهذا هو حجم إسرائيل دون الدعم الأمريكي.
التعليقات (0)