صدر في اليومين الماضيين في
ليبيا تقرير
جهاز الرقابة الإدارية الـ 53، وتناول التقرير للمرة الأولى عرضا للوضع المالي
للدولة، وحساب الإيرادات والنفقات خلال الأعوام 2012- 2023م، وذلك أن قانونا
أصدره مجلس النواب خلال العام الماضي يعطي الرقابة الإدارية الصلاحية لمتابعة
المالية العامة للدولة، والتي هي بالأساس مسؤولية ديوان المحاسبة.
من الجيد أن تظهر البيانات المالية الرسمية
ضمن تقرير لجهة سيادية ويغطي عقدا من الزمان أو يزيد، فهذا يعطي صورة أشمل عن
الوضع المالي للدولة، كما يسهل أعمال ونشاطات المعنيين بهذه البيانات من مؤسسات
علمية وأفراد، وغيرهم ممن يعنيهم هذا الملف.
بالنظر إلى ما ظهر من معلومات عن التقرير،
وملخصه الذي انتشر بين وسائل الإعلام، فإنه من الواضح أن الجهاز لم يقم بما ينبغي
عند تناوله للوضع المالي للدولة خلال الفترة التي أشار إليها التقرير، إذ لم يعدُ الأمر كونه إظهار حجم الإيرادات ومصادر الحصول عليها، وإجمالي الإنفاق خلال الـ 12 سنة،
وأهم بنوده.
وحتى عندما تمت الإشارة إلى فروق بين بيانات
وزارة المالية والمصرف الليبي الخارجي من جهة، وبيانات المصرف المركزي من جهة
أخرى، لم يقدم التقرير، أو ملخصه، أي تفسير لهذا التباين. وإلى أن يتم نشر التقرير
كاملا، فإننا نركز في نقاشنا على بيانات الإيرادات والنفقات وتوابعها.
أظهر التقرير أن إجمالي ما تم إنفاقه خلال
الفترة 2012- 2023م بلغ ما يزيد عن 722 مليار دينار ليبي، ذهب نحو 41% للمرتبات،
و19% للإنفاق التسييري، و18% للدعم، و12% للتنمية، وذلك بالإضافة إلى الترتيبات
الاستثنائية 8%، والطوارئ 2%.
مع افتراض عدم وقوع تغير كبير في الدخل (الإيرادات النفطية)، وهو السيناريو الراجح، فإن التراجع الطفيف في سعرف صرف الدولار في السوق الموازية لن يدوم كثيرا، حتى مع تماسك الاتفاق حول إدارة المصرف المركزي، وما لم ننتقل إلى استقرار سياسي ومؤسساتي، يعقبه تخطيط سليم وإدارة راشدة للاقتصاد، فإن الأزمة الاقتصادية مرشحة للتفاقم، وليس العكس.
بنظرة سريعة على هذه الأرقام يتأكد لنا أن
الاقتصاد الليبي ما يزال يعاني من خلل هيكلي ووضع مأزوم، وأن الخلل يتعاظم
والتأزيم يزداد، دون أي جهود للاستدراك على هذا الوضع الصعب. ذلك أن نحو 80% من
الإنفاق الاجمالي البالغ ما يزيد عن 722 مليار دينار هو انفاق استهلاكي، وأن
الباقي وهو الـ 20% لا يستغل بشكل إيجابي ليكون له مردود يصحح، ولو في المدى
المتوسط والطويل، الاختلال الراهن.
منذ ما يزيد عن 4 عقود والقطاع العام هو
مصدر التوظيف للمتدفقين الجدد إلى سوق العمل من الجامعات وغيرها، وأصبح ثقافة عامة
أن يتحصل كل من بلغ سن العمل من خريجين وغيرهم على وظيفة في الجهاز الحكومي ومرتب
من الخزانة العامة، وليس بالضرورة أن يقابل ذلك جهدا يشكل إضافة للاقتصاد الوطني،
ودون أن يقع تطورا مهما في مكانة القطاع الخاص وإسهامه في الناتج المحلي الإجمالي
ليكون قبلة للمقبلين على سوق العمل، وهذا ما يفسر ازداد عدد القوى العاملة في
الجهاز الحكومي بشكل كبير لتصل إلى نحو 2.1 مليون حسب تقرير الرقابة الإدارية الذي
هو محل النقاش، وإلى ما يزيد عن 2.3 مليون حسب مصادر حكومية أخرى منها مصلحة
الإحصاء والتعداد التابعة لوزارة التخطيط، وإلى 2.5 مليون حسب وزير العمل بحكومة
الوحدة الوطنية، علي العابد، في تصريح له مؤخرا، ولن ننقاش في هذه السانحة اختلاف
الأرقام والبيانات المتعلقة بالاقتصاد والاجتماع الليبي وغيرهما، فهذه المسألة
تحتاج إلى مقال خاص.
الظروف المحيطة السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والثقافية تدفع باتجاه تكريس هذا الوضع المختل، عليه فإن بعض
التقديرات تفترض أن العاملين في القطاع العام قد يبلغ عددهم 3 ملايين مع مطلع العقد
اللاحق، ما يعني ارتفاع بند المرتبات في الميزانية، وكذا البنود الثابتة من إنفاق
على الدعم والإنفاق التسييري.
وإذا كان الأمر كذلك، ومع افتراض عدم وقوع
تغير كبير في الدخل (الإيرادات النفطية)، وهو السيناريو الراجح، فإن التراجع
الطفيف في سعرف صرف الدولار في السوق الموازية لن يدوم كثيرا، حتى مع تماسك
الاتفاق حول إدارة المصرف المركزي، وما لم ننتقل إلى استقرار سياسي ومؤسساتي،
يعقبه تخطيط سليم وإدارة راشدة للاقتصاد، فإن الأزمة الاقتصادية مرشحة للتفاقم،
وليس العكس.