من 7 أكتوبر 2023 إلى 7 أكتوبر 2024 ليست
سنة مما يعد عموم الناس، وليست 365 يومًا بتقويم الأجندة. إنها سنة من كتابة
التاريخ، وأي تاريخ؟ إنه تاريخ مقاومة الاحتلال، وسنة من رفرفة العلم بألوانه
الأربعة في كل الساحات، وأجملها وأروعها ساحات الجامعات العريقة في العالم،
والشوارع التي ما زالت تتكلم بلغة العدالة والسلام والأخوة الإنسانية في الشرق
والغرب. إنها سنة ظهور الكوفية المرقطة على أعناق الشباب والشابات من كل الأديان
والأعراق والثقافات في الجهات الأربع من العالم، وسماع اسم
فلسطين مقرونًا بكلمة
حرية “Free”.
من 7 أكتوبر 2023 إلى 7 أكتوبر 2024 تراجع
مشروع الاستسلام للهمجية الإسرائيلية، وتوقف قطار التطبيع قبل أن يصل إلى أرض
الحرمين الشريفين. تراجعت هيبة الردع التي كان المشروع الصهيوني يحكم بها العقل
العربي الرسمي ويجمع بها شتات اليهود الخائفين الذين لا يجمع بينهم شيء، وتعرّت
إسرائيل البربرية والعنصرية أمام
الرأي العام العالمي. أصبحت الدولة "الديمقراطية"
الوحيدة في غابة الاستبداد العربي متهمة بالإبادة الجماعية للفلسطينيين وأطفالهم،
وقادة الكيان الغاصب على لوائح الاعتقال في مطارات دول كثيرة ما زالت تقيم بعض
الوزن للقانون الدولي. وهذه النكسة للمشروع الصهيوني ما هي إلا البداية، ومن يعش
سيحكي كيف ومتى بدأ العد العكسي للوجود الإسرائيلي على أرض السلام؛ هذا الوجود
الذي نشأ ضد الطبيعة وضد القانون الدولي وضد التاريخ، وقريبًا سيصير ضد الواقع
أيضًا.
عام ليس كباقي الأعوام، فيه رويت النفوس العطشى للحرية والعدالة والإنصاف والسلام الدولي الحقيقي، لا سلام الرومان المفروض بقوة السلاح. عام ظهرت فيه أصوات حرة بعمق إنساني وأخلاقي عزّ نظيره في الشرق والغرب، لم تخشَ في كلمة الحق لومة لائم، ولا سلاح ظالم، ولا إعلامًا منحازًا إلى صاحب القوة والنفوذ والمال.
سيذوب المشروع الصهيوني ليس من قوة سلاح المقاومة ولا من تخلي الغرب
الأوروبي والأمريكي عنه، بل سيذوب من الداخل جراء الإحساس الجماعي بالخوف والرفض
وعدم الأمان. من سيقبل من الإسرائيليين العيش في فلسطين بكلفة نفسية غالية، وأمامه
خيار العيش بأمان في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا؟ هذا هو المفعول غير المرئي
لطوفان الأقصى، الذي لا يرى بالعين غير المدربة على رصد التحولات العميقة في بنية
المجتمعات والأمم والعلاقات الدولية.
فكرة إقامة دولة خاصة لليهود وُلدت في عقل
الصحفي والمنظّر الصهيوني تيودور هرتزل أثناء تغطيته لمحاكمة ضابط يهودي اسمه
ألفرد دريفوس في فرنسا. هرتزل، الذي يُعتبر من مؤسسي الحركة الصهيونية، قام بتغطية
محاكمة دريفوس. كان صحفيًا في ذلك الوقت، وحضر المحاكمة في عام 1894 وشهد على
الظلم الذي تعرض له ألفرد دريفوس، الضابط اليهودي الفرنسي الذي اتُّهم زورًا
بالخيانة وحُكم عليه بالإعدام، قبل مراجعة الحكم بتدخل إميل زولا وغيره من
المثقفين. هنا وُلدت لدى هرتزل فكرة إقامة وطن آمن لليهود خارج أوروبا التي كانت
آنذاك تفيض بمعاداة السامية وكراهية اليهود فقط لأنهم يهود. إذًا، عندما تسقط
مرتكزات إقامة وطن آمن لليهود في فلسطين، سينهار المشروع الصهيوني على المدى
البعيد. سنكون أمام احتمالين: إما إقامة دولة واحدة للشعبين الفلسطيني
والإسرائيلي، وتعايش الأديان الثلاثة، الإسلام واليهودية والمسيحية، على أرض واحدة
وفي كنف دولة ديمقراطية، أو سنشهد هجرة معاكسة لليهود نحو مواطنهم الأصلية التي
تخلصت إلى حد بعيد من آفة معاداة السامية. وقد نشهد أيضًا حربًا أهلية داخل كيان
هجين أُسس على أساطير وعلى جريمة طرد شعب آخر ليحل محله.
من 7 أكتوبر 2023 إلى 7 أكتوبر 2024 ظهر
قاموس جديد في الأرض المباركة وما حولها. ظهر
طوفان الأقصى، حيث عبقرية الشهادة
والمقاومة اللتين كسرتا قانون التفوق العسكري الإسرائيلي والأمريكي، وأظهرتا صلابة
المعدن الذي تشكل داخله الفلسطيني المتشبث بالأرض والعرض والهوية والحق الذي لا
يزول. ظهرت عبقرية الأنفاق التي دوخت الاحتلال الإسرائيلي واحتضنت الحلم الفلسطيني
في وقت عزّ فيه الظهير والنصير. ظهر اختراع وحدة الساحات ونصرة المظلوم، حتى أصبحت
الصواريخ من إيران والعراق واليمن ولبنان وغزة دائمة الزيارة إلى القبة المخرومة لإسرائيل،
معلنةً سياسيًا قبل عسكريًا أن نتنياهو وعصابته جسم سرطاني لا مكان له على خارطة
المنطقة، وأن المقاومة لا تتقيد بالسقف الواطئ للأنظمة العربية والإسلامية التي
وقفت تتفرج على الإبادة الجماعية للفلسطينيين. أعلن طوفان الأقصى عن ميلاد فاعل
إقليمي وسياسي وعسكري واستراتيجي جديد اسمه مشروع المقاومة، المدعوم من الشارع
العربي والإسلامي بكل فصائله وانتماءاته وتعبيراته السياسية والأيديولوجية التي
تختلف في كل شيء إلا فلسطين. وفلسطين اليوم هي المرادف الأصدق والأقوى لقيمة
الحرية، جذر الإنسانية.
من 7 أكتوبر 2023 إلى 7 أكتوبر 2024 قُتل
وجُرح وتيتم آلاف الأطفال الذين حُملوا في أكفان بيضاء إلى قبور صغيرة، أو ظلوا
تحت الدمار الذي عمّ
غزة من أقصاها إلى أقصاها. استشهد أكثر من 42 ألف مقاوم
ومقاومة، وفي مقدمتهم رموز هذه المسيرة الملحمية: إسماعيل هنية وحسن نصر الله
وإخوانهم الذين جادوا بالروح، وقدموا الدرس بأن البطولة ما زالت عملة قابلة للصرف
في الصحراء العربية. المقاومة ليست خطبًا وتنظيرات وعنتريات وصورًا وفيديوهات
للاستهلاك المحلي، بل هي قبل وبعد نبل دم يراق على مذبح التضحية، والدم دائمًا
أقوى وأعلى صوتًا وتأثيرًا وحضورًا. العالم لا يسمع للمظلومين الساكتين الخانعين
القابلين للهوان، بل يسمع المظلومين الذين يقاومون ويضحون ويبذلون الدم من أجل
قضيتهم. لأجل هؤلاء، يسمع أحرار العالم اليوم، ومن أجل هؤلاء يبدأ الرأي العام
الدولي في مراجعة أوراقه وخططه ومواقفه. وهذه لعمري زراعة طويلة الأمد ستظهر
ثمارها في السنوات المقبلة.
من 7 أكتوبر 2023 إلى 7 أكتوبر 2024 ظهر
النفاق الأوروبي والأمريكي في أقبح وجوهه دبلوماسيًا وسياسيًا وعسكريًا وإعلاميًا،
حيث انتشرت سردية مظللة ترى ما حدث في غزة يوم السابع من أكتوبر وكأن لا شيء قبله.
لا احتلال خارج القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لأكثر من سبعين عامًا؟ ولا
حصار مدمر وقاتل لكل مظاهر الحياة في غزة التي لا تتجاوز مساحتها 360 كيلومتر
مربع؟ ولا سجون مكتظة بالأسرى الذين يموتون بالتقسيط وراء القضبان؟ ولا تنكيل
وإهانات عند المعابر كل يوم؟ ولا صمت دولي وعربي على الحق الفلسطيني الذي يتآكل في
كل لحظة تحت ضربات اليمين الديني المتطرف الذي يزرع المستوطنات في ما بقي من أراضي
الفلسطينيين، ويعتدي يوميًا على الأماكن المقدسة للمسلمين والمسيحيين دون خجل أو
خوف من محاسبة أو عقاب؟ هذا ما تنبه له الأمين العام للأمم المتحدة الذي قال: “إن
السابع من أكتوبر له ما قبله”، وجرّ ذلك عليه نهش آلة الدعاية والتشهير الصهيونية
المنتشرة في كل العالم، والتي وصلت إلى دول الاتفاقات الإبراهيمية وصار لها موطن
وصوت ينطق بلغة الضاد لا يخجل لا من ضميره ولا من مشاعر الذين يعيش وسطهم.
سيذوب المشروع الصهيوني ليس من قوة سلاح المقاومة ولا من تخلي الغرب الأوروبي والأمريكي عنه، بل سيذوب من الداخل جراء الإحساس الجماعي بالخوف والرفض وعدم الأمان. من سيقبل من الإسرائيليين العيش في فلسطين بكلفة نفسية غالية، وأمامه خيار العيش بأمان في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا؟ هذا هو المفعول غير المرئي لطوفان الأقصى، الذي لا يرى بالعين غير المدربة على رصد التحولات العميقة في بنية المجتمعات والأمم والعلاقات الدولية.
الكيل بمكيالين ليس جديدًا على القوى الكبرى
في العالم، لكن أن تقف نخب الغرب الأوروبي والأمريكي مع جزار مثل نتنياهو، يقود
حكومة التعصب الديني والعنصري التي قتلت أكثر من 14 ألف طفل في غزة وحدها، وتخرق
يوميًا القانون الدولي الإنساني، وتلقي بقنابل تزن آلاف الكيلوغرامات من الجو على
أحياء سكنية وسط بيروت من أجل استهداف شخص واحد، يؤازر الغرب إسرائيل في الوقت
الذي تقبل فيه محكمة العدل الدولية توجيه الاتهام لها بأخطر جريمة على وجه الأرض
(الإبادة الجماعية). وكل هذا يجري على مرأى ومسمع الإعلام الجديد والقديم مباشرةً
صوتًا وصورة، فهذا أمر غير مسبوق، ولا يسائل التزام هذه الحكومات بالقيم
الديمقراطية التي انتخبت على أساسها، بل يسائل القيم الغربية في أسسها ومنطلقاتها
ومدى سريانها على كل البشر.
عام ليس كباقي الأعوام، فيه رويت النفوس
العطشى للحرية والعدالة والإنصاف والسلام الدولي الحقيقي، لا سلام الرومان المفروض
بقوة السلاح. عام ظهرت فيه أصوات حرة بعمق إنساني وأخلاقي عزّ نظيره في الشرق
والغرب، لم تخشَ في كلمة الحق لومة لائم، ولا سلاح ظالم، ولا إعلامًا منحازًا إلى صاحب القوة والنفوذ والمال.
تعرف الجيوش كيف تبدأ الحرب ،لكن لا العسكري
ولا المدني يعرف كيف تنتهي الحروب، الحرب
ظاهرة تتمدد وتتقلص وتخلق لنفسها
ديناميكية داخلية غير متحكم فيها ….لهذا فان الاصعب والأخطر على الفلسطينيين وعلى
اللبنانيين وعموم المقاومين قد مر ،رغم أكلافه الباهظة ،من يصمد سنة في ساحة معركة
غير متكافئة القوة يمكن ان يصمد سنوات، ومن أعطى دماء وتضحيات جسيمة وكبيرة فلا
يعود أمامه وخلفه ما يخشى عليه، الدور الآن
على اسرائيل التي خسرت هذه السنة ما لا تستطيع استرجاعه ( الهيبة ، قوة الردع ، الإحساس بالأمان ،مشروع الاندماج
في المنطقة وتطبيع العلاقات مع السعودية، السمعة الدولية … )
كثيرا ما كان النصر في المعركة فخ يقود إلى
الهزيمة في الحرب، وكثيرا ما كانت الهزيمة في المعركة فرصة للانتصار في الحرب ..
* إعلامي مغربي