قضايا وآراء

يسألونك عن المصالحة..

أحمد عبد العزيز
بنى السيسي شرعيته على محاربة الإخوان، باعتبارهم يشكلون "خطرا وجوديا"-  جيتي
بنى السيسي شرعيته على محاربة الإخوان، باعتبارهم يشكلون "خطرا وجوديا"- جيتي
يكثر اللغط (وليس الحديث) بين حين وآخر، عن "مصالحة" بين نظام الانقلاب في مصر والإخوان المسلمين.. وفي الآونة الأخيرة، تجدد هذا اللغط عن هذه "المصالحة"، على إثر تسريب خبر ذلك اللقاء الذي جمع بين رئيس المكتب السياسي للإخوان المسلمين الدكتور حلمي الجزار، وعميل الأمن الصحافي عبد الرحيم علي، بدولة وسط آسيوية.

أعدك (عزيزي القارئ) أن أنسى (أثناء كتابة هذا المقال) أني وليُّ دم، كوني والد الصحافية الشهيدة حبيبة التي قضت برصاصة في القلب، صباح مجزرة رابعة، ومن ثم سألتزم أقصى درجات الحياد والموضوعية، آملا أن يكون هذا المقال مفيدا لمن ينادي بالمصالحة مع نظام الانقلاب في مصر، أو يسعى إليها، أو يُمَنِّي نفسه بها..

تجربة الإخوان الأولى

جرَّب الإخوان "المصالحة" مع النظام المصري في وقت سابق، عقب تولي السادات الحكم، بعد محنة تشبه إلى حد كبير محنتهم الحالية.. فبعد اضطهاد وتنكيل استمرا 16 عاما (من 1954 حتى عام 1970) على يد عبد الناصر، أطلق السادات سراح الإخوان تباعا، في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، ورد إليهم اعتبارهم، بأحكام قضائية نافذة، وأعاد الموظفين منهم إلى وظائفهم، مع تعويضات مناسبة..
كم هو مؤسف أن قيادات الإخوان الذين خاضوا تجربة "المصالحة" مع السادات لم يتركوا للتاريخ شيئا يُذكر حول هذه التجربة! فالمؤرخ أو الباحث لن يجد إجابة عن أسئلة مثل: هل كانت هذه "المصالحة" مشروطة أم غير مشروطة؟ هل وفَّى السادات بما وعد به الإخوان أم لم يفِ؟ أم أنه لم يعِد الإخوان بشيء

وأحسب أن إخراج الإخوان المسلمين من السجون كان بقرار من السادات ورغبة منه، وليس بسعي من الإخوان، وذلك لسببين في تقديري:

السبب الأول: أن السادات لم يَكُن يُكِنُّ عداءً للإخوان المسلمين، بل العكس هو الصحيح (رغم أنه كان عضوا بمحكمة "الشعب" التي حكمت على عدد من قيادات الإخوان بالإعدام في عام 1954).. فالسادات لم ينس دعم الإخوان له، أثناء فترة محاكمته في قضية اغتيال عميل الاحتلال أمين عثمان، إذ قرر الشيخ حسن البنا (رحمه الله) راتبا شهريا قدره عشرة جنيهات لأسرة السادات، وهو مبلغ كبير جدا في تلك الأيام. كما أن السادات لم ينس موقف زوجة زميله "الإخواني" في تنظيم الضباط الأحرار عبد المنعم عبد الرؤوف، أثناء هروبه وحاجته الماسة إلى المال.. ذهب السادات إلى بيت عبد الرؤوف متخفيا لطلب بعض المال، ولم يكن عبد الرؤوف موجودا، فما كان من زوجة عبد الرؤوف إلا أن خلعت سلسلتها الذهبية من عنقها وأعطتها له، وهذا (في تقديري) يشير إلى أن المبلغ النقدي المتوفر لديها لم يكن كافيا (في نظرها) لمساعدة السادات.. وقد تكلم السادات في كتابه "البحث عن الذات" بشيء من الإنصاف عن "فكرة" الإخوان المسلمين، وهو رئيس، وكان بوسعه ألا يفعل، ولكنه فعل!

السبب الثاني: أن السادات كان في موقف ضعيف للغاية، أمام "الأخطبوط الناصري" المتغلغل في كل مؤسسات الحكم الحساسة، وفي الجامعة التي وصل فيها المد الشيوعي مداه.. ولأنه من أكثر الناس معرفة بالإخوان ومبادئهم وغايتهم وأثرهم، قرر إعادتهم إلى الحياة العامة، الأمر الذي من شأنه أن يضعف الناصريين (شيوعيين ويساريين وقوميين) الذين حاكوا المؤامرة تلو الأخرى؛ لإزاحته عن الحكم الذي وصل إليه بطريقة غير مفهومة، وغير منطقية، في نظرهم.

وكم هو مؤسف أن قيادات الإخوان الذين خاضوا تجربة "المصالحة" مع السادات لم يتركوا للتاريخ شيئا يُذكر حول هذه التجربة! فالمؤرخ أو الباحث لن يجد إجابة عن أسئلة مثل: هل كانت هذه "المصالحة" مشروطة أم غير مشروطة؟ هل وفَّى السادات بما وعد به الإخوان أم لم يفِ؟ أم أنه لم يعِد الإخوان بشيء من الأساس؟!

أما المؤكد، فهو أن الإخوان أعادوا افتتاح مركزهم العام، في منطقة التوفيقية بوسط القاهرة، وأعادوا إصدار مجلتهم "الدعوة"، وأسسوا دور نشر تعنى بطباعة الكتاب الإسلامي، وأعادوا نظام "الأسر" التربوي، وأقاموا معسكرات للشباب، ونافسوا على مقاعد اتحادات الطلبة في الجامعات، وانضم إليهم الألوف من كل الأعمار والفئات، وعاد الإخوان كيانا له أثره ووزنه في المجتمع.. كل ذلك تم دون "اعتراف رسمي" من الدولة بوجود الجماعة! فقد ظلت دعوى المطالبة بإلغاء قرار حل الجماعة الصادر عن (لا مؤخذة) مجلس قيادة الثورة منظورة أمام القضاء "الشامخ" دون بَت، طوال عهدي السادات ومبارك!

ورث مبارك تركة السادات.. تعامل مبارك مع الإخوان كملف "أمني" وليس كفصيل "سياسي" له وزنه في المجتمع.. ورغم ذلك، حقق الإخوان الكثير من الإنجازات في عهد مبارك.. دخلوا نوابا في مجلس الشعب، تصدروا النقابات المهنية، واتحادات الطلبة. ولعل صبر مبارك على الإخوان يعود إلى دورهم الاجتماعي الذي أزاح عن كاهل السلطة الكثير من الالتزامات الحياتية تجاه عموم المصريين.. فقد امتد دور الإخوان الاجتماعي إلى كل المحافظات، في صور شتى، منها توفير الخدمات الطبية لعموم الناس بأسعار زهيدة للغاية، وصرف مساعدات عينية (وأحيانا نقدية) للمحتاجين، وإقامة معارض السلع المعمرة والموسمية التي تلبي احتياجات قطاع عريض من الأسر بأسعار اقتصادية.. إلخ.

المصالحة.. ماذا تعني؟

في العموم، تنشأ الحاجة إلى المصالحة إذا اقتنع طرفا الصراع باستحالة الحسم لصالح أي منهما.. أما إذا كان لدى أحد الطرفين شعور أو قناعة بالتفوق، فالحديث (حينئذ) يكون عن "استسلام" الطرف الآخر، وليس عن "مصالحة" بين طرفين!

وتنشأ المصالحة أيضا، إذا كان الطرف الأقوى يرى أن استمرار الصراع مع الطرف الآخر ليس في مصلحة البلاد، وأنه يعطل مسارها التنموي، أو يحملها أعباءً لا طاقة لها بها.. أما إذا كان هذا الطرف (الذي هو السلطة في الحالة المصرية) لديه أجندة "خارجية" تخدم أعداء الوطن، فإنه لن يسعى إلى المصالحة أبدا، لا سيما إذا كان على رأس أولويات "صاحب الأجندة" سحق الإخوان المسلمين!

أيضا، تنشأ المصالحة إذا تدخل وسطاء من أصحاب الوزن الثقيل سياسيا واقتصاديا، يريدون خيرا ببلد الطرفين المتصارعين، بعرض حزمة من المغريات على الطرف المتعنت.

فالمصالحة لا تقوم إلا على اعتراف طرفي الصراع بحقوق بعضهما بعضا.. ولستُ بحاجة إلى بيان هذه الحقوق التي باتت معلومة من السياسة بالضرورة.. أما إذا كانت القاعدة المطروحة للشروع في "المصالحة" هي حرمان أحد الطرفين من حقوقه أو بعضها، فإننا نكون بصدد "استسلام" من جانب أحد الطرفين، ولسنا بصدد "مصالحة"!

بناءً على هذه البديهيات والمسلمات، أطرح عليك عزيزي القارئ (من موقعك كمراقب للمشهد المصري) ثلاثة أسئلة أتبعها برابع:
ما الذي يجعل السيسي يفكر (مجرد تفكير) في المصالحة مع الإخوان المسلمين، وفق مفهومها "البديهي"، وهو الذي بنى "شرعيته الوهمية" على محاربة الإخوان، باعتبارهم يشكلون "خطرا وجوديا" على مصر التي يبيعها اليوم قطعة قطعة؟

السؤال الأول: هل ترى أن السيسي تشكلت لديه قناعة باستحالة حسم صراعه مع الإخوان المسلمين، ومن ثم فهو يرغب في المصالحة؟

السؤال الثاني: بعد 11 عاما من الاستيلاء على الحكم بالقوة، هل رأيت من السيسي أي حرص على مصر ومصالحها، إلى الدرجة التي تجعله يفكر في إنهاء صراعه مع الإخوان المسلمين، وتوجيه فكره وجهده إلى حل مشاكل مصر التي باتت مستعصية على الحل، عن سابق قصد وتصميم، من جانبه هو نفسه؟

السؤال الثالث: هل سمعت بوسيط من الوزن الثقيل يعلن عن رغبته في رعاية مصالحة بين نظام الانقلاب والإخوان؟

أعتقد (عزيزي القارئ) أن إجابتك عن الأسئلة الثلاث ستكون بالنفي!

وهنا نصل إلى السؤال الرابع: بعد الإجابة بالنفي عن الأسئلة الثلاثة، ما الذي يجعل السيسي يفكر (مجرد تفكير) في المصالحة مع الإخوان المسلمين، وفق مفهومها "البديهي" الذي صدَّرتُ به هذا المحور من المقال، وهو الذي بنى "شرعيته الوهمية" على محاربة الإخوان، باعتبارهم يشكلون "خطرا وجوديا" على مصر التي يبيعها اليوم قطعة قطعة؟

الإجابة: لا شيء يجعله يفكر (مجرد تفكير) في المصالحة مع الإخوان!

كل ما تقدم يجعلنا نتم عنوان المقال، دون تهويل أو مبالغة.. يسألونك عن المصالحة (مع السيسي) قل: هي "سراب" بِقيعَة يحسبه الظمآن ماءً.. أو هي "جزرة" لا تصل إليها يد الإخوان، ولو ساروا خلفها ألف عام.. أو هي "أمنية" لا تتحقق إلا بإعطاء الدَنِيَّة في الدين..

إن كان هناك طرف يريد "مصالحة"، فهم الإخوان المسلمون.. أما النظام، أو بالأحرى السيسي، فيريده "استسلاما" مُذِلا، دون شروط، ولو بما يحفظ ماء الوجه.. ولا وجه للمقارنة بين المصالحة والاستسلام معنى ومبنى..
إن كان هناك طرف يريد "مصالحة"، فهم الإخوان المسلمون.. أما النظام، أو بالأحرى السيسي، فيريده "استسلاما" مُذِلا، دون شروط، ولو بما يحفظ ماء الوجه.. ولا وجه للمقارنة بين المصالحة والاستسلام معنى ومبنى

وللإخوان أن يختاروا بين السير نحو سراب لن يجدوا عنده ماءً، أو اللهث خلف جزرة لن تطالها أيديهم أبدا، أو إعطاء الدنية في دينهم، وهذا هو الخسران المبين.. أو أن يتخلوا كليا عن فكرتهم الإسلامية الحركية الشمولية، وأن يصبحوا "مداخلة" أو "جامية" يسبحون بحمد "ولي الأمر"، لا بحمد الله، أطراف النهار وزُلفا من الليل، وهذا هو الضلال بعينه.

أيها الإخوان..

ليس أمامكم إلا السعي الجاد والحثيث؛ لإسقاط هذا الانقلاب الفاشي المجرم، وهذا السبيل يفرض عليكم التخلي عن العبارة "المائعة" التي ترددونها من آن لآخر: "نحن من الشعب، لا نتقدم عليه، ولا نتأخر عنه"!

منذ متى والشعوب تقود نفسها؟ منذ متى والناس لا يحتاجون إلى قيادة؟ كيف ذلك والقطعان في البرية لها قيادة، فما بالكم بالبشر؟ إذا كنتم تعتقدون بصحة هذه المقولة "المائعة"، فلماذا أنتم موجودون؟ ما قيمتكم وما دوركم إذن؟ إذا كنتم تعلمون الناس الدين، فالأزهر موجود، ولا حاجة للناس إليكم! إذا كنتم تعلمون الناس السياسة، فقد أثبتت التجربة أنكم بحاجة إلى تعلم مبادئ السياسة!

أما إذا كنتم لا تزالون ترون في أنفسكم دعاة الإسلام الصحيح، الأمناء عليه، الساعين لنشره، والتخلق به، والاحتكام إليه، فهذا مسار آخر، أعتقد يقينا أنكم أدرى الناس بتبعاته وتكاليفه، وهذا يفرض عليكم تصحيح مساركم، وآليات تفكيركم، وترتيب أولوياتكم وفق مراد الله، لا استجابة لضعفكم، وقلة حيلتكم.

x.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
التعليقات (0)