قضايا وآراء

الإعلام التونسي بين شيطنة "الجزيرة" والاحتفاء بالدحدوح

عادل بن عبد الله
"زيارة الدحدوح إلى تونس والاحتفاء الرسمي والإعلامي به هو أمر قد يبدو في الظاهر مناقضا للتوجهات العامة"- عربي21
"زيارة الدحدوح إلى تونس والاحتفاء الرسمي والإعلامي به هو أمر قد يبدو في الظاهر مناقضا للتوجهات العامة"- عربي21
رغم حرص قناة الجزيرة -منذ أيام المخلوع- على المهنية والحياد عند التطرق إلى الشأن التونسي، فإن هذه القناة، مثلها في ذلك كمثل كل المنابر الإعلامية المحسوبة على المحور القطري-التركي الداعم للثورات العربية، لم تسلم من حملات التشويه والتخوين المُمنهجة من لدن ما يُسمّى بالنخبة الحداثية بمختلف مرجعياتها البورقيبية والقومية واليسارية. فإعطاء صوت للمعارضين للنظام السابق -خاصة الإسلاميين منهم- والانحياز بعد الثورة للانتقال الديمقراطي ونسف استراتيجيات الدمغجة والتضليل للرأي العام المحلي والأجنبي، كل ذلك كان من "الخطايا" التي عملت أغلب النخب "الحداثية" على أن تدفع "الجزيرة" ثمنها ولو بعد حين.

وقد جاء "تصحيح المسار" ليحقق شيئا من مطالب تلك النخب عندما سارع الجهاز الأمني إلى إغلاق مقر الجزيرة دون إذن قضائي، بل دون علم مصالح رئاسة الجمهورية حسب ما صدر من مواقف رسمية. إنه "منطق التعليمات" الذي كان أساس اشتغال الآلة القمعية في عهد المخلوع، ذلك المنطق الذي يجعل من تحديد المسؤوليات الجزائية أمرا بالغ الصعوبة بحكم عدم وجود أي أثر مكتوب، كما أنه يُعطي للسلطة السياسية إمكانية المناورة بتوصيف ما حدث على أنه تعسف في استعمال السلطة ولا يُمثّل التوجه الرسمي للدولة.

مواقف النقابة ذاتها عند غلق الجزيرة والتضييق على صحفييها لم تتجاوز الحد الأدنى من التضامن؛ على خلاف ما كان من ارتفاع سقفها الاحتجاجي و"النضالي" كلما تعلق الأمر بالمحسوبين على التيار المعادي للجزيرة أو للنهضويين وحلفائهم. ولذلك فإننا نعتبر مواقف نقابة الصحفيين ضربا من تسجيل الموقف أو رفع الملام، كما نعتبرها تجسيدا جيدا لمنطق ازدواجية المعايير والانحياز الأيديولوجي الذي حكم مكوّنات المجتمع المدني بمختلف منظماته "الحداثية"

منذ المرحلة التأسيسية، كانت الحملة على الجزيرة تقوم من جهة أولى على الربط بينها وبين "الإرهاب" و"الإخوان" باعتبارهما ظاهرة واحدة تهدّد النسيج المجتمعي التونسي ومكاسب الدولة الوطنية، كما كانت تلك الحملة تقوم من جهة ثانية على الربط بين الجزيرة وكل منابر الإعلام التي لا تتماهى مع استراتيجية الثورة المضادة؛ وبين مشروع "صهيوني" متخيل مداره تفكيك الدولة التونسية وإلحاقها -عبر بوابة الديمقراطية التي حملت "الإخوان" إلى الحكم- بمحور التطبيع والخضوع للإمبريالية العالمية.

ورغم اتخاذ النقابة الوطنية للصحفيين مسافةً من هذه السردية، فإن أغلب مسؤوليها كانوا أدوات تنفيذ لها، بل إن مواقف النقابة ذاتها عند غلق الجزيرة والتضييق على صحفييها لم تتجاوز الحد الأدنى من التضامن؛ على خلاف ما كان من ارتفاع سقفها الاحتجاجي و"النضالي" كلما تعلق الأمر بالمحسوبين على التيار المعادي للجزيرة أو للنهضويين وحلفائهم. ولذلك فإننا نعتبر مواقف نقابة الصحفيين ضربا من تسجيل الموقف أو رفع الملام، كما نعتبرها تجسيدا جيدا لمنطق ازدواجية المعايير والانحياز الأيديولوجي الذي حكم مكوّنات المجتمع المدني بمختلف منظماته "الحداثية".

بناء على ما تقدم، فإن دعوة نقابة الصحفيين لوائل الدحدوح باعتباره أيقونة إعلامية لا تنفصل عن الجزيرة وقطر والمقاومة "الإخوانية" في غزة -أي أيقونة لا تنفصل عن الثالوث "الرجعي" و"المتصهين" حسب السردية الحداثوية التونسية التقليدية- هي أمر يحتاج إلى قراءة تتجاوز شعارات النقابة والسلطة، من مثل الانحياز للمقاومة الفلسطينية وللحقيقة الإعلامية، وتحاول فهم أسبابها بالبحث عن المكاسب التي ستقدّمها هذه الزيارة لمنظميها وللنظام على حد سواء.

ففي سياقٍ تصرّ فيه السلطة التونسية على مواصلة إغلاق مكتب الجزيرة دون سحب ترخيصها في العمل، وتصر فيه أغلب المنابر الإعلامية على تعويم المقاومة الإسلامية في صيغ "نضالية" عامة تُجنّب ذكرها بالاسم، وفي سياقٍ أسقط فيه مجلس النواب مشروع قانون لفتح مكتب لصندوق قطر للتنمية في تونس، وفي سياقٍ ما زال فيه مكتب المجلس مصرا على تعطيل المبادرة التشريعية لتنقيح المرسوم 54 الخاص بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال، فإن زيارة الدحدوح إلى تونس والاحتفاء الرسمي والإعلامي به هو أمر قد يبدو في الظاهر مناقضا للتوجهات العامة للدولة وللخطوط التحريرية لأغلب المنابر الإعلامية العمومية والخاصة.

إذا كان زيارة الدحدوح في الظاهر هي أمر مناقض لتوجهات الدولة والإعلام، فإن التعمق في المسألة كفيل برفع هذا التناقض وإعطائه عقلانية ما. فإغلاق قناة الجزيرة هو أمر أصبح محرجا للنظام المساند بصورة علنية للمقاومة والمنتقد للمشروع الصهيوني وأذرعه السياسية والمدنية، كما أن سردية "تصهين" الجزيرة قد تداعت بعد طوفان الأقصى ولم تعد مقبولة عند غالبية التونسيين. وفي مقابل ذلك، أظهر الطوفان حقيقة الإعلام المتصهين في محور الثورات المضادة (خاصة في مصر والإمارات والسعودية)، وهو ما يجعل النقابة الوطنية للصحفيين محوجةً إلى اتخاذ مسافة من حليفها التقليدي لإنقاذ ما تبقى من مصداقيتها المتآكلة؛ بحكم التقاطعات الكثيرة والالتقاء الموضوعي بين أغلب رموز الإعلام التونسي وبين عرابي التطبيع وممولي الثورات المضادة.

إننا أمام خطابٍ يحكمه نظام تسمية هلامي يحجب أكثر مما يضيء، وهو خطاب يهدف في الظاهر إلى رفع الدحدوح إلى مستوى الرمز الإنساني والكوني ولكنه في الحقيقة يسعى إلى فصله عن حاضنته الإعلامية والأيديولوجيةـ وحجب المعطيات التي قد يستفيد منها خصومُ الإعلام الشيو-تجمعي في تونس

إن إخراج الجزيرة من سردية الوصم باعتبارها راعية للإخوان وللإرهاب وللمشروع الصهيوني في المنطقة وإدخالها إلى مربّع الإعلام المقاوم والمعادي للصهيونية؛ هو خيار تكتيكي لا يعكس أية مراجعات أيديولوجية، بل يُعبّر عن قراءة انتهازية للأحداث. فالهدف من دعوة الدحدوح هو تحسين صورة الإعلام التونسي وتلميع النقابة داخليا وخارجيا، كما أنها تهدف إلى سحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين -خاصة النهضويين- قصد منع أي مماهاة بينهم وبين الإعلام المقاوم ومحور المقاومة الإسلامية في الوعي الشعبي. وهو ما يعني أن علينا فهم الدعوة دون فصلها عن تموضع نقابة الصحفيين سياسيا وأيديولوجيا، فهذه النقابة هي جزء من الموالاة النقدية الداعمة لتصحيح المسار والمُشيطنة لعشرية الانتقال الديمقراطي باعتبارها "عشرية سوداء".

وإذا كان الإعلام التونسي يُتابع أحداث غزة بخطاب وموسيقى وأشعار يسارية وقومية لا علاقة لها بالإسلام المقاوم وأشعاره وفنّه، فإن النقابة لم تخرج عن هذا الخط المؤدلج في احتفائها بزيارة الدحدوح. فحسب تصريحات النقابة، فإنه "لا يمكن اليوم أن نتحدث عن الدحدوح خارج التجربة المهنية والإنسانية، حيث يُمثل تجربة مهنية بمعنى الانتماء لمهنة الحقيقة التي تتحدى الاحتلال ومنطق الإبادة والحروب، وتجربة مواجهة الموت من أجل رسالة الأخبار والإعلام ورسالة فضح الجرائم ضد الانسانية والتوحش والانحطاط العالمي". وبصرف النظر عن عبثية الإيحاء بانطباق هذه الصفات على الإعلام التونسي، فإن أي قارئ لهذا الخطاب سيجد صعوبة في تعيين موقع الدحدوح في الخارطة الإعلامية العربية، فلا حديث عن قناة الجزيرة ولا عن المقاومة الإسلامية ولا عن الكيان الصهيوني.

إننا أمام خطابٍ يحكمه نظام تسمية هلامي يحجب أكثر مما يضيء، وهو خطاب يهدف في الظاهر إلى رفع الدحدوح إلى مستوى الرمز الإنساني والكوني ولكنه في الحقيقة يسعى إلى فصله عن حاضنته الإعلامية والأيديولوجيةـ وحجب المعطيات التي قد يستفيد منها خصومُ الإعلام الشيو-تجمعي في تونس (من مثل أن منبر "الحقيقة" هو "الجزيرة" التي يتهمها الإعلام التونسي بـ"التصهين"، وكذلك المرجعية الإسلامية الإخوانية للمقاومة وتاريخ الدحدوح نفسه)؛ كما يحاول هذا الخطاب الهلامي عدم إحراج "الأصدقاء" في الداخل وفي محور التطبيع والثورات المضادة إذا ما هو سمّى "المتصهينين" وأبواقهم الدعائية -أي النقيض المهني والإنساني للدحدوح- بأسمائهم.

تصدّر أعداء "الجزيرة" وخطها التحريري للمشهد الاحتفائي بالدحدوح هو مجرد مظهر من مظاهر هيمنة المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي على المشهد الوطني وعلى آليات تشكيل الرأي العام، وهو أمر لا يعكس أي تغير في تموقع النقابة سياسيا ولا أيديولوجيا، إنه مجرد استثمار لرمزية الدحدوح ومحاولة لتوظيفها في تلميع صورة النقابة ومنظوريها أمام الرأي العام


لا شك عندنا في أن تصدّر أعداء "الجزيرة" وخطها التحريري للمشهد الاحتفائي بالدحدوح هو مجرد مظهر من مظاهر هيمنة المنظومة القديمة وحلفائها في اليسار الوظيفي على المشهد الوطني وعلى آليات تشكيل الرأي العام، وهو أمر لا يعكس أي تغير في تموقع النقابة سياسيا ولا أيديولوجيا، إنه مجرد استثمار لرمزية الدحدوح ومحاولة لتوظيفها في تلميع صورة النقابة ومنظوريها أمام الرأي العام. أما الارتفاع إلى مستوى ما يمثله الدحدوح من قيم الانتماء للحقيقة وللمقاومة ولمن هم أسفل؛ فإنه مطلب عزيز لا يمكن لكل التأنقات اللفظية والمشهدية الاحتفالية أن تبرهن على وجوده إلا من باب الدعوى التي لا محصول تحتها

ومن جهة النظام، فإن القبول بدعوة الدحدوح تؤكد للرأي العام انحياز الرئيس للمقاومة وتعطي لسردية مواجهة أذرع الصهيونية والماسونية في تونس مصداقيةً أكبر. كما أن هذه الزيارة قد تعقبها مراجعة لقرار غلق مقر الجزيرة بصورة غير قانونية، وهو أمر -إن حصل- فإنه سيعكس توجها جديدا في السياسة الخارجية التونسية، ومؤشرا على اتساع الشقة بين النظام وبين محور التطبيع والثورات المضادة من جهة أولى، وسيعكس من جهة ثانية تراخي قبضة اليسار الوظيفي على مراكز القرار داخل أروقة السلطة. وهي فرضية لا يمكن استبعادها خاصة بعد إقالة وزير الداخلية ووزير التضامن الاجتماعي، ومهاجمة الرئيس بصورة لا لَبس فيها للكارتيلات العائلية ولمنظومة الاستعمار الداخلي التي مثّل اليسار الوظيفي المعادي للجزيرة -قبل الثورة وبعدها- ذراعها الأيديولوجية والإعلامية الأهم.

x.com/adel_arabi21
التعليقات (0)