بداية،
الكاتب جاء من عمق هذه التجربة حيث قضى في
السجون قرابة عشرين عاما كان جلّها في
العمل الثقافي على تثقيف ذاته وعلى غيره من الأسرى، وبعد أن تنسّم الحريّة تابع
تعليمه الأكاديمي ليحصل على شهادة الدكتوراة من معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة
بمرتبة الشرف الأولى، وكان موضوعها هذا الكتاب.
وتبرز
أهمية هذه الدراسة أنها تناولت تجربة عظيمة في ظروف غارقة في غاية القسوة
والصعوبة، كيف نجح الأسرى في اجتراح هذه الإبداعات من عمق المأساة واختراق الحصار
المنيع المضروب على ظروف حبسهم القاسية وحياتهم المريرة، وكل محاولات الطمس على
عقولهم وخنق أنفاسهم وإفقادهم حمل قضيتهم وانتمائهم لمبادئهم وتذويب هويّاتهم
الثقافية والروحيّة والوطنية، وتحويلهم إلى مجرّد رقم لا يحمل أيّ مضمون.. هذه
الدراسة تثبت أن أسرانا ما زالوا في دائرة الفعل والشهود الحضاري بل والإبداع
وتزويد المشهد بالرواية
الفلسطينية الصادقة والمحقّة والقادرة على دحض الرواية
الصهيونية، هذا الكتاب يعيد تعريف الأسير بما يستحق من هوية وثقافة وانتماء وحضور
وإبداع.
فقد استهدفت
هذه الدراسة إبراز الجوانب الإبداعية التي تميّز بها أسرانا وكيف تمكنوا من الحفاظ
على تراكم إنجازاتهم كحالة إبداع في ظروف صعبة وقاهرة، وكذلك ذهبت إلى توضيح
الاستراتيجيات والسياسات والآليات التي استخدمها الأسرى في تطوير منظومة الجوانب
الإبداعية حسب ما
كتب الدكتور حمدونة.
وتلخّص
سؤال الدراسة الرئيسي في: كيف استطاعت الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة أن تواجه
ممارسات سلطات
الاحتلال في السجون بطرق ابتكارية ووسائل إبداعية؟ وما هي أشكال
المقاومة التي استخدمتها للتغلب على العوائق التي واجهتها؟
وقد
وصل حمدونة إلى أن هناك علاقة بين الضغوط التي يمارسها الاحتلال على الأسرى
وقدرتهم على بلورة أفكار وأساليب جديدة للتكيّف والمواجهة والإبداع في ظلال اشتباك
مستمر على مدار الساعة، وهم في مواجهة مفتوحة في خندق متقدّم مكشوف.
ولم
تكن منهجية الدراسة بكتابة انطباعات الكاتب وآرائه الشخصيّة، بل ذهبت إلى علمية
البحث من خلال المنهج التاريخي التحليلي والوصفي التحليلي واستعان باقتراب
ومنهاجية "التحليل الثقافي" الذي يقوم على دراسة المحيط الثقافي للظاهرة
وتحليلها. وهذا نمط جديد في الدراسات التي كتبت في السجون وعنها، إذ غالبا ما كانت
من قبل لا تأخذ هذا المنحى التحليلي العلمي الذي يقلّل من الانطباعات الذاتية على
حساب الدراسة التحليلية الجمعية.
ومن
الأسباب التي دفعت حمدونة لتناول هذا الموضوع المهم هو الوفاء، ولأسباب أخلاقية
رفيعة لإنسان قضى زهرة شبابه في أحضان الحركة الأسيرة مرشدا وقائدا ومربيا وعالما
ومتعلما، نعم دفعه كل هذا إلى أن يعكف على دراسة الجوانب الإبداعية للحركة الأسيرة
التي حافظت على تماسكاها وحمت نفسها من الاستهداف الأمني والأخلاقي الشرس، ونجحت
في تخريج أجيال كان لها الأثر الكبير في عملية النضال والثورة الفلسطينية.
وللدراسة
أهمية عملية سوى الأهمية الأكاديمية، حيث قدمت مادة مشرقة عن الأسرى للرأي العام
العالمي تنقض الصورة النمطية التي تسوقها دولة الاحتلال عن الأسرى الفلسطينيين
بأنهم "قتلة وإرهابيون وأياديهم ملطخة بالدماء". وكذلك فإنها تقدم مادة
مستجدة وغنيّة للمؤسسات الرسميّة عن الأسرى يمكن الاستفادة منها على الصعيد
الحقوقي.
وبدأت
الدراسة في التدليل بشكل عام على الحركة الأسيرة كتاريخ ومراحل تطوّر ومظاهر
التضييق من قبل السجان والوسائل النضالية للأسرى كحالة إبداع في مواجهة المحتلّ،
وشرحت العوامل التي ساهمت في تنمية الإبداع في مواجهة السجان الإسرائيلي، وعن دور
الحركة الأسيرة في تعزيز الجوانب الإبداعية التي كانت خير ردّ على وسائل الاحتلال
لتفريغ الأسير من محتواه النضالي والثقافي. وجابت الدراسة في المسيرة الثقافية
كمظهر هام من مظاهر الإبداع التي وفّرت الحركة الأسيرة محاضنه لتطويره والسير به
قدما، وقد خصّص مبحثا خاصا عن أدب السجون. ويذكر أن الكاتب حمدونة من أبرز عمداء
هذا الأدب، حيث خرج من السجن بعدة روايات فكان بذلك خير شاهد على ما خلصت إليه دراسته.
واستعرض
حمدونة في دراسته بعض التجليات الإبداعية للحركة الأسيرة، منها الإضرابات المفتوحة
عن الطعام والنطف المحرّرة وما حققته من إنجاز عظيم، وفرسان للحرية أبدعت وتميّزت الحركة
الأسيرة في إنتاجهم. ولم ينس أن يتناول التجربة الديمقراطية في السجون وانعكاسها
على حياة الأسرى وإرخاء ظلالها على الحياة الفلسطينية بشكل عام.
الدراسة
لن يعطيها حقها مقال لأنها ثرية وخصبة وتستحق أن تُقرأ وتتابع توصياتها من أعلى
المستويات، لتبقى الجوانب الإبداعية لأسرانا في حالة إشراق دائم وعطاء لا ينضب.
فتسليط الضوء على هذا الإشراق الإبداعي في غاية الأهمية ومفخرة لأسرانا ولنا
جميعا، ولكل إنسان حرّ أن ينهل من هذه التجربة ويستلهم منها الروح والأمل.
لقد
نجح حمدونة في سبر غور هذه التجربة الفريدة وأبدع في عرض مضمون عظيم بطريقة فذّة
وأسلوب جميل يستحق منا كلّ الاحترام والتقدير، ولهذه الدراسة أن تتبوأ مقعدا هامّا
في المكتبات العامة ومكتبات الجامعات والمدارس كمرجع هام لإبداعات الحركة الأسيرة
في السجون الإسرائيلية.