على الرغم من أن جولة
الانتخابات الرئاسية الثانية في
تركيا هي عملية
قائمة في ذاتها، لا تبنى نتائجها على نتائج الجولة الأولى، إلا أنه لا يمكن فصلها
عن نتائج الجولة الأولى من حيث التوجهات.
بمعنى أن نتائج الجولة الأولى كان لها تأثير على توجه الناخبين
لاعتبارات عدة:
أولا، تغير المزاج السياسي لدى فئة شعبية ـ ممن هم ليسوا من القواعد
الشعبية الثابتة لـ"تحالف الأمة"، بقدر ما هم كتلة رمادية إلى حد ما
ترغب في استخلاف "العدالة والتنمية" وأردوغان بأحزاب أخرى ورئيس آخر ـ
بعدما حقق
أردوغان تقدما على كمال كليجدار أوغلو بفارق يقرب من خمس نقاط مئوية في
الجولة الأولى، ما يجعل من الصعب على أوغلو تجاوز هذا الفارق في الجولة الثانية.
انقسمت أصوات هذه الفئة على الأغلب بين من استمر في دعم أوغلو، وبين
من انقلب إلى دعم أردوغان، وبين من رفض المشاركة في التصويت، وفي كل الحالات انصب
ذلك في مصلحة أردوغان.
ثانيا، في ما يتعلق بالقوى القومية، فقد حققت حضورا مهما في البرلمان:
50 مقعدا لحزب "الحركة القومية" المتحالف مع حزب "العدالة
والتنمية" وحزب "الرفاه الجديد" تحت اسم تحالف الجمهورية، في
مقابل 43 مقعدا لحزب "الجيد" المنشق عن "الحركة القومية، والمتحالف
مع حزب "الشعب الجمهوري" في "تحالف الأمة".
وفق هذه النتيجة (94 مقعدا للقوميين في كلا التحالفين)، يبدو من
المرجح أن القواعد الشعبية لـ "الحركة القومية" تفضل رئيسا من تحالف
الأغلبية البرلمانية، من أجل أن يكون لها ثقلا في القرارات السياسية والاقتصادية
والثقافية، وهذا عامل يصب في مصلحة أردوغان.
ثالثا، لا يفضل الشعب التركي بعد سنوات طويلة من الاضطرابات
الجيوسياسية في الإقليم المحيط بتركيا، وانعكاسه على الوضع الاقتصادي الداخلي،
رؤية صراع أو توتر سياسي طويل الأمد في حال وصول كمال كليجدار أوغلو إلى الرئاسة،
لأن ذلك يعني تعطيل لكثير من القضايا السياسية والاقتصادية في ضوء أغلبية برلمانية
مناهضة للرئيس، وهو الهدف الذي لأجله غير أردوغان النظام السياسي التركي، أي
الحيلولة دون نشوء ظاهرة أغلبية برلمانية مناهضة للرئيس، تنعكس سلبا على الملفات
الحياتية للمواطن التركي.
هذا ما يُرجح أن تصوت أغلبية الشعب التركي للرئيس أردوغان، بما فيهم
أولئك الذين صوتوا في الجولة الأولى لـ أوغلو، وفق مقاربة تقوم على قبول استمرار
حكم أردوغان و"العدالة والتنمية" لسنوات خمس أخرى كخيار يبقى أفضل من
وصول رئيس يمتلك أقلية برلمانية.
رابعا، شكلت دعوة سنان أوغان للتصويت لصالح أردوغان في الجولة
الثانية تطورا مهما لصالح أردوغان.
لا يفضل الشعب التركي بعد سنوات طويلة من الاضطرابات الجيوسياسية في الإقليم المحيط بتركيا، وانعكاسه على الوضع الاقتصادي الداخلي، رؤية صراع أو توتر سياسي طويل الأمد في حال وصول كمال كليجدار أوغلو إلى الرئاسة، لأن ذلك يعني تعطيل لكثير من القضايا السياسية والاقتصادية في ضوء أغلبية برلمانية مناهضة للرئيس، وهو الهدف الذي لأجله غير أردوغان النظام السياسي التركي،
صحيح أن هذا الإعلان لا يعني بشكل دراماتيكي أن أصوات ناخبيه التي
تبلغ نحو ثلاثة ملايين صوت ستتجه مباشرة لصالح أردوغان، لكنه يعني بالمقابل أن
الكتلة الشعبية هذه ككل تصب في مصلحة أردوغان، سواء انتخبت أردوغان أو آثرت الحياد
في غالبيتها، لأنه في الحد الأدنى، أي في حال تشتت كتلة أردوغان الشعبية بين
أردوغان وأوغلو، فإن هذا التشتت يصب في صالح أردوغان الذي يحتاج إلى 1% من هذه
الكتلة لضمان
الفوز.
خامسا، على الرغم من تأثيره الضعيف، فقد أثار التحالف المفاجئ بين
كمال كليجدار أوغلو مع حزب "النصر" القومي بزعامة السياسي اليميني
المتطرف المناهض للمهاجرين أوميت أوزداغ استياء الأكراد في تركيا.
ومع أن طبيعة التصويت لا تعكس بشكل مباشر هذا الاستياء، إلا أنها قد
دفعت جزءا من الأكراد لعدم التصويت إلى "تحالف الأمة" كرسالة سياسية
مفادها ضرورة أخذ الصوت الكردي في الاعتبار ضمن أي تحالف مستقبلي.
أيضا دفع هذا التحالف كثيرا من القواعد الشعبية لـ "الحركة
القومية" إلى انتخاب أردوغان بسبب اقتراب موقفهم من موقف الرئيس و
"العدالة والتنمية" من هذه المسألة.
سادسا، ضعف الخطاب السياسي الاقتصادي الاجتماعي للمعارضة، وخصوصا
كمال كليجدار أوغلو على الرغم من استخدامه لغة مغرقة في الشعبوية وتركيزه على
ملفات ليست حقيقية ومستعجلة بالنسبة للمواطن التركي، كمسألة اللاجئين السوريين.
لقد عبر الصحفي ديفيد هيرست بدقة عن حال أوغلو حين قال إنه ظهر قبل
الانتخابات بمظهر الرجل الباحث عن الوحدة الوطنية لتجاوز ما سمي "السلطوية
الأردوغانية"، لتحل محله بعد الجولة الأولى من الانتخابات صورة "قومي
رخيص يحاول التسلق نحو السلطة على ظهور أكثر المستضعفين في البلد".
ليس الناخب التركي في نهاية المطاف ناخبا دوغماتيا ولا هو بشعبوي، بقدر
ما هو ناخب براغماتي يبحث عن الرخاء الاقتصادي والاستقرار الأمني والسياسي.