وفاز أردوغان.. ولا عزاء للمتآمرين

إنها ليست الانتخابات الأمريكية التي يهتم بها العالم أجمع، وتحتل مركز الصدارة في وسائل الإعلام العالمية ويتابعها الناس بشغف في كل أنحاء العالم ويسهرون الليل أمام شاشات التلفزة في انتظار إعلان النتيجة، ولكنها الانتخابات التركية التي شغلت العالم كله خلال شهر أيار/ مايو الجاري، لأنها انتخابات لا تعني تركيا فحسب، بل إنها انتخابات يمكن أن تغيّر وجه المنطقة.

لذا، دخلت معظم الدول الغربية طرفاً أساسياً فيها ولاعباً مهمّا في المعركة الانتخابية، وأعطت لنفسها حق التصويت فيها، وكأنها أصبحت من الشعب التركي، وانحازت كبرى وسائل الإعلام العالمية المطبوعة والمرئية انحيازاً سافراً للمعارضة التركية وتخلت عن المهنية والموضوعية والحيادية، وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الفريق الإعلامي للمرشح الرئاسي "كمال كليتشدار أوغلو"، تدعمه بكل ما أوتيت من قوة وتهاجم الرئيس "رجب طيب أردوغان" بشراسة وفجاجة، وتنعته بالدكتاتور المستبد وأنه لا بد من إسقاطه، لدرجة أن مجلة "إيكونوميست" البريطانية وضعت صورة أردوغان على غلافها بعنوان "أردوغان يجب أن يرحل"، وبدّلت صورة حسابها الرسمي في تويتر بشعار "أردوغان يجب أن يرحل.. صوّتوا"، وBBC كتبت أن مستقبل تركيا سيكون أكثر إسلامية وقتامة إذا فاز "أردوغان"، ودير شبيغل الألمانية التي وضعت على غلافها صورة لأردوغان جالساً على كرسي العرش والهلال أعلاه مكسوراً!!

لقد سقطت معظم الصحف الغربية في وحْل الكذب والتدليس وعدم المهنية، مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز وفايننشال تايمز ولوفيجارو الفرنسية وذا تيلغراف وذا صانداي ميل وسي إن إن، وغيرها.. أصابتها جميعاً متلازمة "أردوغان"، حالة من السعار والهستيريا أصابت الإعلام الغربي في آن واحد جعلته نسخة واحدة تخرج من مطبعة واحدة، تضع على أغلفتها صوراً لأردوغان مشوّهة ملطّخة بالدماء وعليها علامة إكس، لقد اجتمعوا جميعا وقلوبهم شتى، مثل أحزاب الطاولة السداسية رغم اختلاف أيديولوجيتها، على هدف واحد هو إسقاط الرئيس "رجب طيب أردوغان"، لوأد النهضة التركية وعودتها إلى عهود الفقر والذل والقهر والتبعية للغرب والتسول على موائد الغرب..

لم يهزم الرئيس أردوغان منافسه كليتشدار أوغلو فقط، بل هزم أيضا كل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وكل من راهن عليه من الأنظمة العربية المستبدة

لقد كانت فرصتهم الأخيرة لإسقاط "أردوغان" عبر صناديق الانتخاب بعدما فشل الانقلاب العسكري عام 2016، الذي دبروه وموّلته دولة الإمارات.. ألم يقلها الرئيس الأمريكي جو بايدن أثناء حملته الانتخابية بعزمه على تقوية المعارضة التركية متوعداً بإسقاط أردوغان، كما قالها قادة غربيون كُثر بأن نهاية أردوغان ستكون في هذه الانتخابات؟ ولكن الشعب التركي بوعيه السياسي العميق وقف سداً منيعاً ودرعاً حصيناً ضد مؤامراتهم الخبيثة وخيّب آمالهم وأعاد انتخاب الرئيس أردوغان لفترة رئاسية جديدة تنتهي عام 2028، فماذا هم فاعلون طوال تلك السنوات الخمس القادمة وماذا سيعدّون من مؤامرات جديدة ضده؟!

لم يهزم الرئيس أردوغان منافسه كليتشدار أوغلو فقط، بل هزم أيضا كل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وكل من راهن عليه من الأنظمة العربية المستبدة..

الرئيس أردوغان الذي يصفونه بالديكتاتور المستبد يقف في الطابور وأمامه المواطنون ليدلي بصوته، بينما في بلادنا العربية المنكوبة بحكامها الديكتاتوريين المستبدين، يُفرش لهم السجاد الأحمر عند دخولهم اللجنة ويحيطهم الحراس من كل جانب، ولا يُسمح بدخول المواطنين إلا بعدما يغادر الديكتاتور المكان!

ولم يستطع أردوغان أن يحسم فوزه من الجولة الأولى واضطر للإعادة من أجل 0.5 في المئة، أي ما يعادل حوالي 280 ألف صوت فقط، فهل يعجز أي رئيس ديكتاتوري أن يجمع أضعافا مضاعفة من هذا العدد؟!

فلتجبهم تلك الأنظمة الاستبدادية في منطقتنا العربية والتي يدعمونها بقوة ويعرفونها؛ كيف تُعد الصناديق وتعبّأ بالبطاقات التي تحمل صورة الرئيس المبجل والزعيم المفدّى، وتغلق قبل يوم الاقتراع ليحصل على 99.999 في المائة!!

لقد شهدت تركيا عرساً ديمقراطياً رائعاً، تنافس فيه مَن بأيديهم السلطة مع معارضيهم بشفافية بالغة تحت سمع وبصر العالم أجمع، شارك فيه ما يقرب من 90 في المائة من أعداد الناخبين، وهي نسبة لا يوجد لها مثيل في أعرق الديمقراطيات الغربية

لقد شهدت تركيا عرساً ديمقراطياً رائعاً، تنافس فيه مَن بأيديهم السلطة مع معارضيهم بشفافية بالغة تحت سمع وبصر العالم أجمع، شارك فيه ما يقرب من 90 في المائة من أعداد الناخبين، وهي نسبة لا يوجد لها مثيل في أعرق الديمقراطيات الغربية.

وعلى الرغم من حالة الاستقطاب الحاد بين الناخبين في الشارع التركي وتقارب الأصوات بين المرشحين، إلا أنه لم تحدث أي حالة عنف ولم يُرصد أي اعتداء من أي من أنصار أحد المرشحين، وهذا يُحسب لوعي وثقافة الشعب التركي أولاً وللحكومة التركية ثانياً التي وفّرت للمواطن الأمن والأمان، فاستحقت أن يُطلق عليها بجدارة انتخابات تاريخية والفائز فيها هي تركيا..

لقد خسر تحالف المعارضة أيضا رهانه على القوميين المتعصبين الذين أظهروا وجههم العنصري البغيض تجاه اللاجئين وخاصة السوريين، والذين توعد كليتشدار أوغلو بطردهم من تركيا وإعادتهم إلى نظام السفاح بشار حينما يفوز في الانتخابات، ولكنه سقط وسقط معه مشروعه العنصري الإقصائي، وكانت نهاية مسيرته السياسية وظهور منافسين له على رئاسة الحزب الأتاتوركي..

لا شك أن هذه الانتخابات كانت بمثابة تحديد للهوية التركية، فالتاريخ التركي كان حاضراً فيها بقوة، والناخبون الأتراك الذين صوّتوا لأردوغان وكليتشدار أوغلو صوتوا أيضا على رؤيتين مختلفتين، تستند الأولى إلى الاحتفاء بالتاريخ العثماني، فهم يسترجعون ماضيهم المشرّف وحضارتهم العظيمة ومجد الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على العالم، ويحلمون ويتمنّون أن يستعيدوا مجد أمّتهم ويروا تركيا قوة عالمية عظمى على يد أردوغان الذي بدأ بالفعل أولى خطواتها منذ عقدين من الزمن سياسياً واقتصادياً ولا بد أن يستمر ليكمل المسيرة. لقد انحاز هؤلاء الناخبون فطرياً لتاريخهم القومي والوطني ولثقافتهم وهويتهم الإسلامية التي يخشاها الغرب وكان يعمل جاهداً لإسقاط أردوغان كي لا تعود للشعب التركي تلك الهوية والنفس الإسلامي، ولولا الوعي السياسي لهؤلاء الناخبين المتراكم عبر القرون لنجحت الحملة الإعلامية الغربية في انحراف البوصلة، ولسقطت تركيا في نظام طائفي عنصري هزيل تابع للغرب، ولظلّت تركيا ذلك الرجل المريض في نظرهم..

أما الرؤية الثانية للناخبين فهي تستند إلى الاحتفاء بتاريخ أتاتورك، فالناخبون الأتراك الذين صوّتوا لكليتشدار أوغلو معتزون بتاريخ كمال أتاتورك العلماني الذي ألغى الخلافة العثمانية ويريدون محو الثقافة الإسلامية من تركيا، والتشبه بالغرب بعاداته وأخلاقياته التي تبيح الشذوذ الجنسي، وهو ما يتنافى مع جذور الشعب التركي المسلم. كما أن هذا التاريخ الأتاتوركي يحمل في طياته الكثير من المآسي والبؤس الشديد الذي عاشته تركيا ويشوبه الكثير من الأخطاء الجسيمة ومن تدخل الجيش في السياسة والانقلابات العسكرية العديدة قبل عهد أردوغان..

طارت قلوب الشعوب العربية إلى تركيا وعاشت الشعوب بأرواحها مع الشعب التركي في ليلة الانتخابات، وتوحدت مشاعرهم بين القلق والرجاء والابتهال إلى الله والدعاء بفوز أردوغان الذي حقق لهم أحلامهم في بلد آخر؛ ليس إسقاطاً عن رغبتهم المكبوتة وحلمهم الضائع فحسب، بل أملاً في أن يجدوا في بلادهم أردوغان عربياً

ولقد شاءت الأقدار أن يوافق اليوم التالي للانتخابات الذكرى السبعين بعد الخمسمائة لفتح القسطنطينية (إسطنبول) على يد السلطان العثماني الفذ محمد الفاتح، ليستنشق الشعب التركي عبق الماضي الجميل وهو يتذوق حلاوة النصر اليوم على كل أعداء تركيا والتي يريدونها دولة ضعيفة لا تملك قرارها المستقل وتظل كما كانت قبل أردوغان، دولة تابعة للغرب وتدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية..

لقد طارت قلوب الشعوب العربية إلى تركيا وعاشت الشعوب بأرواحها مع الشعب التركي في ليلة الانتخابات، وتوحدت مشاعرهم بين القلق والرجاء والابتهال إلى الله والدعاء بفوز أردوغان الذي حقق لهم أحلامهم في بلد آخر؛ ليس إسقاطاً عن رغبتهم المكبوتة وحلمهم الضائع فحسب، بل أملاً في أن يجدوا في بلادهم أردوغان عربياً.. لقد أصبح أردوغان حلم الشعوب المستضعفة في الأرض، لذلك فرحت بفوزه وهللت له، فكما شاركت الشعب التركي قلقه ورجاءه ليلة الانتخابات، شاركته فرحته أيضا في ليلة فوزه، كانت ليلة فرحت فيها الشعوب العربية بينما حزنت فيها الدول الغربية وشاركتها في المأتم الأنظمة العربية المستبدة التي تآمرت على أردوغان وأنفقت المليارات لإسقاطه؛ كي لا تتخذه الشعوب العربية نموذجاً للحاكم ولتقتل ما في نفوسهم من ثورة تطيح بهم وبعروشهم..

لا شك أن الرئيس "رجب طيب أردوغان" هو أهم شخصية سياسية في القرن الواحد والعشرين، باعتباره أحد القادة السياسيين الذين وضعوا بصمتهم على مصائر أمتهم، ولسوف تدرس تجربة أردوغان كواحدة من أهم التجارب السياسية في العصر الحديث، والتي لم يستطع الغرب بكل ما أوتي من قوة إجهاضها..

twitter.com/amiraaboelfetou