من مشاهدة مظاهر
الذكاء الاصطناعي في قاعات السينما أو على شاشات
التلفزيون، واعتبار الأمر مجرّد خيال، مؤجّل أو ربمّا قد يعني الأجيال القادمة،
صار الفرد العادي المرتبط بشبكة الانترنت قادر على التمتّع "مجانًا"
بأولى ثمار هذا الشكل من الذكاء الوافد، حين خرج موقع "شات جي بي تي"
ليطرح أمام من شاء، فرصة الاطلاع ومن ثمّة الحكم على هذه الخطوة التي تساوي أميالا
قياسا بالتاريخ العلمي للبشريّة.
بين حبّ الاطّلاع والدهشة وسعي أكبر لسبر أغوار هذا
العالم الجديد،
تراوحت الجهود، لكن هاجس واحد ربط بين جميع المستكشفين: "كيف يمكن الاستفادة
من هذه الفرصة، وتثمين جوانبها خدمة للذات؟".. مع العلم أنّ الموقع الذي أصدر
هذا الشكل الحواري في نوفمبر/ تشرين الثاني الفارط انتقل من النسخة 3.5 إلى
النسخة 4.0، دون إغفال عديد الشركات الأخرى مثل غوغل وأدوب، ممّا جعل التنافس على
أشدّه للفوز بأوسع قدر ممكن من سوق تبدو ليس فقط واعدة، بل من الأكيد أنّ البشريّة
لم تعرف في السابق مثلها، ليس فقط على مستوى المكسب المالي، بل قدرة السيطرة على
العقول وتحديد القناعات، وما لذلك من ارتباط بالخيارات السياسيّة منها
والاستهلاكيّة.
بدأ "الذكاء الاصطناعي" يمتدّ وينتشر إلى مجالات الحياة
جميعها. من مجالات الفضاء بشقيه المدني والعسكري، وما في الحالتين من خصوصيات
تتعلّق بالسريّة والتكتّم، وصولا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مع حلول "شات
جي بي تي" المتوفّر بشكل مجاني لجميع المستعملين.
أحسّ المشرفون على قطاع التعليم بخطورة هذا "الشيطان"،
القادر وفق عديد التصريحات على ادخال عقول التلاميذ والطلبة في حال من الخمول، حين
صار بإمكان هذا "الموقع الحواري" تحرير الفروض مجانًا، ممّا يشكّل خطرا
كبيرا على النظام التعليمي برمّته.
تتراوح المواقف بين "تحريم" اللجوء إلى هذا "الساحر"
في مقابل من يرون أنّ التجريم يؤدّي إلى عكس المطلوب، ومن ثمّة لا حلّ سوى "ترشيد
الاستعمال"، مع توعية التلاميذ والطلبة بشأن مخاطر "الإدمان"...
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، استحالة العود بهذا الشيطان إلى قمقمه،
وكذلك استحالة توعية التلاميذ والطلبة، أي جميعهم بالمخاطر المحدقة بهم، حين يمكن
لهم الغشّ أثناء الدراسة، دون تحصيل المعرفة الضرورية لاقتحام سوق الشغل.
نصف الكأس الملآن..
لم يتوقّف النقاش ولن يُحسم أمر الأبعاد الأخلاقيّة ومن ثمّة
القانونيّة، التي تحيط بجميع مجالات استعمال الذكاء الاصطناعي. هل يجوز اعتماد
الذكاء الاصطناعي في مجال الدراسة، وتقديم عمل تمّ تحصيله من هذا الموقع على أنّه
جهد فردي؟
هل هذا الإخفاء أو عدم الإفصاح، يمثّل مجرّد "خطأ"
بالمفهوم الأخلاقي المجرّد الذي يستوجب التأنيب دون عقاب فعلي، أم أنّ الأمر يدخل
ضمن مجال "الغشّ" وما يستلزم من منظومة ردع، تصل حدّ الرفت من الدراسة
أو أشكال العقاب الأخرى؟
بدأ "الذكاء الاصطناعي" يمتدّ وينتشر إلى مجالات الحياة جميعها. من مجالات الفضاء بشقيه المدني والعسكري، وما في الحالتين من خصوصيات تتعلّق بالسريّة والتكتّم، وصولا إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مع حلول "شات جي بي تي" المتوفّر بشكل مجاني لجميع المستعملين.
في المقابل يرى كثيرون أنّ تقنية "شات جي بي تي" وأشباهها
ليست بذلك "الذكاء" الموعود أو المفترض، بل كما يجزم كثيرون، أنّه يبدي
من الجهل والغباء وحتّى السذاجة ما يجعل السؤال قائما بشأن "الذكاء الاصطناعي".
هل سقطت الانسانيّة جميعها في حبائل وعود كاذبة أو على الأقلّ ليست بحجم الوعود
التي أطلقها المبشرون بهذه "الآلة العجيبة"؟
يرجع عديد النقاد إلى التاريخ البشري بغية قراءة واقع الذكاء
الاصطناعي ومستقبله، حيث انطلقت جميع الاختراعات بشكل متواضع. مجال الطيران على
سبيل المثال. انطلقت محاولات الطيران الأولى في تراوح بين عثرات عديدة ونجاحات
أقلّ، لكن هذه "الإخفاقات" لم تحد من مساوي تجاوز الفشل إلى نجاح مفترض،
بل هي ألهبت التنافس بين الافراد والشركات وحتّى الدول، التي فهم جميعها أنّ مجال
الطيران أعمق من طائرات بدائية، مصنوعة من ألواح قادرة على الطير لأمتار معدودة.
من ثمّة علينا أنّ ننظر إلى سذاجة هذه المواقع الحواريّة، كما تنظر
إلى الأفلام الأولى التي صوّرها الأخوين "لوميار" في نهاية القرن التاسع
عشر، من صورة غير ناطقة، مرتعشة، لم تتجاوز الأبيض والأسود، ومقارنة ذلك بأحدث
أفلام عصرنا التي تعمد أرقى أنماط التكنولوجيا.
من الأكيد وما لا يقبل الجدل، أن الأجيال القادمة ستنظر إلى الذكاء
الاصطناعي في شكله الدارج أمامنا راهنًا، في شكل "العمل البدائي" المثير
للسخرية ويكون مصدر تندر بخصوص الأجداد الذين لم يتجاوز "الذكاء" عندهم
هذا الشكل "البدائي" الماثل أمامهم...
هل ما خفي أعظم؟
تقارن عديد القراءات ولوج عالم الذكاء الاصطناعي بالاختراعات التي
تمّت في مجال الذرّة، وما تبعها من صنع أولى القنابل الذريّة التي غيّرت مفهوم "القوّة
العسكريّة" وقلبت موازين القوى بين الجيوش.
من "شات جي بي تي" الذي يقدّم أجوبة بخصوص أيّ اسم علم
يُطرح عليه، مع إجابات تجلب السخرية في معظم الأحيان، يحقّ السؤال عن الأبعاد التي
سيتّخذها هذا "الرضيع" الذي لم يتجاوز بعد عامه الأوّل..
هل أطلقت الانسانيّة "وحشًا" سيصعب أو ربّما يستحيل
السيطرة عليه؟ الكثير يرى في الأمر مبالغة، لكن "عراب الذكاء الاصطناعي"،
كما يسمّى في الأوساط العلمية العاملة في هذا المجال، جوفري هينتون، البالغ من العمر
75 سنة، وكان أعلن استقالته من عملاق غوغل منذ فترة قصيرة، وبالتالي لا يمكن رميه
بالجهل أو سوء التقدير أو عدم الدراية، أو حتّى التجنّي والرجم بالغيب، برّر قرار
الاستقالة بالرغبة في أن ينبه بكل حريّة وجرأة من المخاطر التي يحملها الذكاء
الاصطناعي.
ملخص تحذيره يكمن في الجزم بأنّ "الكائنات التي سينتجها الذكاء
الاصطناعي، سواء الحواسيب أو الروبوتات سيتجاوز ذكاؤها ما للبشر"، ومن ثمّة
الخشية من أن يصبح الفاعل مفعولا به.
يقارن المؤرخون بين "الندم" الذي أبداه هذا العالم، بندم
كل من ألبرت أنشتاين بخصوص أبحاثه التي أدّت إلى تصنيع القنبلة الذرية، وألفريد
نوبل بخصوص الديناميت، مع التذكير أنّ السلاح الذي فجرته الولايات المتحدة
الأمريكيّة فوق كل من هيروشيما وناكازاكي هي أشبه بلعب الأطفال مقارنة بالترسانات
التي تملكها الدول المنتمية إلى النادي النووي، في انتظار "التفجير"
الذي سيحدثه الذكاء الاصطناعي.
الحرامي.. والشرطي
صيحة الفزع هذه، الصادرة عن "عُراب" الذكاء الاصطناعي
جوفري هينتون، سبقتها وصاحبتها وتبعتها صيحات فزع لا تقلّ قوّة وإصرارًا، ممّا حدا
بعدد الجهات إلى المطالبة بإصدار من القوانين ما يكفي لضبط هذا "الذكاء"
وجعله في "خدمة الانسانيّة".
الاتحاد الأوروبي أعلن عن نيته فرض قواعد جديدة على جميع أشكال
الذكاء الاصطناعي فيما يتعلق بحقوق النشر. كما سيتم تصنيفها وفقًا لمستوى الخطر
وفق التقدير الأوروبي.
أبعد من الأعمال ومن مسألة الحقوق سواء منها الأدبية أو الماديّة، القدرة على "إحياء الأموات" من الفنّـانين وجعلهم يمثلون ويغنون ويرسمون ويرقصون من جديد، من خلال أعمال تعادل في واقعيتها ما أنجزوا من أعمال خلال حياتهم.
رغم الأهميّة التي يملكها الاتحاد الأوروبي على مستوى عدد المفترض
انتفاعهم بجميع أشكال الذكاء الاصطناعي، وخاصّة المواقع الحواريّة يشكّك المختصون
في قدرة هذا "العملاق" على المستوى الديمغرافي كما الاقتصادي، على
الوقوف في وجه هذا "المارد"، أو أقلّه إزعاجه.
منذ عصر النهضة الصناعيّة في القرن التاسع عشر، تأسّست قاعدة لا تزال
تحكم مجالات التنافس في الغرب على الأقلّ. الوقوف (من تلقاء الذات) عند أيّ حاجز "أخلاقي"
والامتناع عن مواصلة البحث، وصولا حدّ التخلّي عن تكنولوجيا بكاملها، لن يمثّل
الحاجز ذاته، أمام المنافسين أو الأعداء، الذين سيبلغون غايتهم ويسيطرون على
المجال بكامله، مما يرفع من حجم "الأسلحة" المتوفرة لديهم.
وفق هذا المنطق سارت الأبحاث في مجال السلاح الذرّي، وغيرها من
الأسلحة البيولوجيّة والجرثوميّة..
تسونامي سيعصف بالفنون
في حفل التأم بمدينة بون الألمانيّة، يوم 9 أكتوبر/ تشرين الماضي،
بمناسبة الذكرى 250 لميلاد الموسيقار بتهوفن (1770- 1827)، عزفت أوركسترا يقودها
المايسترو ديرك كفتان السنفونيّة العاشرة لهذا الفنان النابغة، غير أنّ هذه
السنفونيّة لا وجود لها، أو بالأحرى تمّ العثور على شذرات مبعثرة منها، تولّى
الذكاء الاصطناعي ملء الفراغات، والخروج بعمل "متكامل".
هذه "الجرأة" أثارت لغطا كبيرًا واختلافا شديدا في وجهات
النظر، بين من استحسن الفكرة واعتبرها "تحيّة" لروح هذا الفنّان، وبين
من اعتبرها "تجنيا"، أو هي "جريمة" في بعديها الأخلاقي كما
القانوني، لأنّ هذا "الاجتهاد" يفتح الباب على مصراعيه أمام من هبّ ودبّ
لتناول أيّ عمل ابداعي دون رقيب أو حسيب، خاصّة وأنّ مجال الانترنت انقلب مجالا
رحبا للقرنصة والاشتغال على أعمال الأخرين دون إذنهم وبتالي دون تمكينهم من حقوقهم.
أبعد من الأعمال ومن مسألة الحقوق سواء منها الأدبية أو
الماديّة، القدرة على "إحياء الأموات" من الفنّـانين وجعلهم يمثلون
ويغنون ويرسمون ويرقصون من جديد، من خلال أعمال تعادل في واقعيتها ما أنجزوا من
أعمال خلال حياتهم.
مثال ذلك، أنّ الذكاء الاصطناعي قادر على إحياء الفنّان سيد درويش
وجعله يؤدّي أعمالا تم إنجازها استنباطا من أعماله المتوفرة، بصوت مطابق بالكامل
لصوته، أو جعله يؤدّي أغنية راب أو الأغاني التي يعتبرها النقّاد في مصر "هابطة".
إقرأ أيضا: الذكاء الاصطناعي.. من خيال السينما إلى واقع الصراع المرير