قضايا وآراء

"تصحيح المسار": المقدّمات النظرية والنتائج الواقعية

عادل بن عبد الله
- جيتي
- جيتي
تصدير: "تسعى الأنظمة الدكتاتورية عادة للتماهي مع الدولة، فهي تجنّد كل المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية والإعلامية لخدمة النظام أو قائده. ودليل ذلك استخدامها لتهم التآمر على أمن الدولة ضد المعارضين السياسيين" (الباحث الجامعي أيمن البوغانمي).

قد يكون من المبالغة أن نتحدث في تونس عن "نظام دكتاتوري" مكتمل الأركان، ولكننا لن نجانب الصواب إذا قلنا إننا أمام تشكل لمنظومة استبدادية تحت غطاء "ديمقراطي" لا يختلف كثيرا عن الديمقراطيات الشعبية في الأنظمة الشمولية (مركزة السلطة وعبادة الزعيم، مع استغناء النموذج التونسي عن "الحزب الحاكم")، ولا يختلف أيضا عن "الديمقراطية التمثيلية الصورية" التي حكمت تونس منذ المرحلة التأسيسية (برلمان محدود الصلاحيات وخاضع للسلطة التنفيذية) رغم بناء "تصحيح المسار" لشرعيته على أساس التقابل المطلق مع "العشرية السوداء".

فما تعيشه تونس منذ تفعيل الفصل 80 من الدستور يوم 25 تموز/ يوليو 2021 لم يكن مجرد "حالة استثناء" لمواجهة "الخطر الداهم" المهدد لاشتغال أجهزة الدولة في ظل النظام البرلماني المعدّل، بل كان -حسب خارطة الطريق الرئاسية- "تأسيسا جديدا" لمواجهة "الخطر الجاثم" المتمثل في الانقلاب على استحقاقات الثورة، والتلاعب بمسار الانتقال الديمقراطي من لدن الأجسام الوسيطة كلها (بأحزابها ومؤسساتها الدستورية وهيئاتها المهنية ومجتمعها المدني وإعلامها.. الخ).

جاءت "خارطة الطريق الرئاسية" (الاستشارة الإلكترونية، الاستفتاء، الانتخابات التشريعية) لتؤكد أننا أمام تشكل نظام حكم جديد، بل أمام "جمهورية جديدة" يحتل فيها الرئيس مركز السلطة (نظام رئاسوي). وقد يكون من نافلة القول أن نؤكد على أن هذا الواقع السلطوي الجديد سيواجه معارضة الكثير من الأطراف المتضررة من إعادة هندسة المشهد العام، أي من استراتيجية إخراجها من دائرة صناعة القرار في مختلف المجالات

رغم حرص المرشح الرئاسي قيس سعيد على إدارة حملته الانتخابية تحت سقف دستور 2014، فإنه لم يُخْف يوما تموضعه في مقابل نخب الحكم والمعارضة، كما لم يُنكر يوما موقفه السلبي من الأحزاب وإيمانه بانتفاء الحاجة إليها ضمن مشروعه السياسي. لقد كان الرئيس في تلك الفترة يتحرك –على استحياء- بمنطق البديل لا بمنطق الشريك، وهو خيار سياسي استمر في انتهاجه إلى حين إعلان "الإجراءات" يوم 25 تموز/ يوليو 2021، وقطع معه بصورة نهائية بالمرسوم الرئاسي عدد 117 الصادر في 22 أيلول/ سبتمبر 2021 والمتعلق بالتدابير الاستثنائية (تولي الرئيس لمهام السلطة التشريعية عبر المراسيم والأوامر غير القابلة للطعن أمام أي جهة رقابية).

وقد جاءت "خارطة الطريق الرئاسية" (الاستشارة الإلكترونية، الاستفتاء، الانتخابات التشريعية) لتؤكد أننا أمام تشكل نظام حكم جديد، بل أمام "جمهورية جديدة" يحتل فيها الرئيس مركز السلطة (نظام رئاسوي). وقد يكون من نافلة القول أن نؤكد على أن هذا الواقع السلطوي الجديد سيواجه معارضة الكثير من الأطراف المتضررة من إعادة هندسة المشهد العام، أي من استراتيجية إخراجها من دائرة صناعة القرار في مختلف المجالات.

أمام وضعية المعارضة المشتتة والعاجزة عن النقد الذاتي وعن تقديم بديل ذي مصداقية لدى عموم التونسيين (رغم اهتراء شعبية الرئيس وفقدانه للدعم الشعبي، الأمر الذي تؤكده نتائج الاستفتاء والانتخابات التشريعية)، وأمام مواقف إقليمية ودولية هي أقرب إلى الرضا منها إلى النقد الجاد لواقع السلطة في تونس، تستمر المنظومة الحاكمة في نقض مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته الهشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتستمر كذلك في استهداف خصومها عبر توظيف ملفّي الفساد والتآمر على أمن الدولة. ولمّا كان الخصم الأساسي لمشروع الرئيس (أي مشروع الديمقراطية القاعدية القائم على إلغاء الحاجة إلى الأجسام الوسيطة المعروفة واستبدالها بأشكال وسيطة جديدة) هو الأحزاب باعتبارها حجر الزاوية في الديمقراطية التمثيلية، فإن الرئيس قد جعل من ضرب الأحزاب وتهميشها (بما في ذلك الأحزاب الموالية) أولوية من أولوياته. وهو أمر نجد أسسه/ مقدماته النظرية في حملة الرئيس الانتخابية ذاتها.

تستمر المنظومة الحاكمة في نقض مسار الانتقال الديمقراطي ومخرجاته الهشة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتستمر كذلك في استهداف خصومها عبر توظيف ملفّي الفساد والتآمر على أمن الدولة

فلو عدنا إلى حوار "المرشح الرئاسي" قيس سعيد مع الصحفية كوثر زنطور في مجلة "الشارع المغاربي"(12 حزيران/ يونيو 2019)، فإننا لن نفاجأ بموقفه من الأحزاب بعد وصوله إلى قصر قرطاج. فقد اعتبر أن الأحزاب "في حالة احتضار، ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها"، ورغم أنه وعد بعدم إلغاء الأحزاب فإنه أكد على أنّ "التعددية ستبقى قائمة إلى أن تندثر وحدها". ولا يبدو أن مقتضيات الحكم قد شجعت الرئيس على أن ينتظر اندثار الأحزاب بصورة ذاتية، ولذلك فإنه قد عمل منذ وصوله إلى قرطاج على تعجيل تلك النهاية. ولا تعني النهاية بالضرورة حل الأحزاب ومنع أنشطتها، بل تعني -على الأقل إلى هذه اللحظة- نفي الحاجة إليها في إدارة الشأن العام أو في التعبير عن الإرادة الشعبية والانقسام الاجتماعي الملازم للدولة ذاتها.

ولعل الأخطر في مشروع الرئيس ليس إلغاء الحاجة إلى الأحزاب فحسب، بل إلغاء الحاجة إلى كل الأجسام الوسيطة، أو بالتحديد ضرب الوسائط التي لا قيمة وظيفية لها داخل مشروعه السياسي. فمعركة الرئيس ليست ضد الأحزاب، بل ضد الديمقراطية التمثيلية وكل أجسامها الوسيطة، وما تعنيه من تعددية في تمثيل الإرادة الشعبية واعتراف بالانقسام الاجتماعي وتضارب المصالح بين مكوّنات المجتمع، وضرورة إدارة ذلك التضارب بصورة تكون محل اعتراف/ توافق بين أغلب المواطنين. ذلك أن الرئيس لا يعترف بأي وساطة بين الشعب والدولة غير وساطته هو، فهو الممثل الشرعي الأوحد لتلك الإرادة، ولا يمكن حتى لممثلي الشعب -في ظل دستوره الجديد- أن يحاسبوه وإن كانوا هم أنفسهم داخلين تحت طائلة المحاسبة -سحب الوكالة- مثلهم في ذلك كمثل كل الوزراء وكبار المسؤولين في الدولة.

تلك الأسس تمثل فرصة كبيرة للنواة الصلبة للمنظومة القديمة (بالتحالف الاستراتيجي مع محور الثورات المضادة وبالتحالف التكتيكي أو المؤقت مع الرئيس) لضرب المنجز الديمقراطي أو "الاستثناء التونسي"، وإرجاعه إلى خندق "الاستبداد الشرقي" مع ما يعنيه من غياب للشفافية والحَوكمة والرقابة

مهما كان موقفنا من سياسات النظام الحالي، فإننا لا يمكن أن ننكر أنها نتائج ضرورية لمقدمتين كبيرتين. أما المقدمة الأولى فهي فشل النخب الحاكمة قبل 2019 في جعل الديمقراطية خيارا قابلا للحياة، فقد فشلت تلك النخب في مسار الانتقال الديمقراطي سياسيا (هيمنة المشاريع الانقلابية وتكريس التبعية للمحاور الإقليمية) واقتصاديا (تفقير الشعب وتكريس خيار التداين الموجه للنفقات العمومية والعجز عن تغيير منوال التنمية) واجتماعيا (تكرييس الانقسام الاجتماعي على أساس هوياتي بائس). وأما المقدمة الثانية فهي الأسس النظرية لمشروع الرئيس ذاته، وهي أسس تجعله يتحرك بمنطق البديل لا بمنطق الشريك. كما أن تلك الأسس تمثل فرصة كبيرة للنواة الصلبة للمنظومة القديمة (بالتحالف الاستراتيجي مع محور الثورات المضادة وبالتحالف التكتيكي أو المؤقت مع الرئيس) لضرب المنجز الديمقراطي أو "الاستثناء التونسي"، وإرجاعه إلى خندق "الاستبداد الشرقي" مع ما يعنيه من غياب للشفافية والحَوكمة والرقابة.

ختاما، إذا ما استحضرنا إعجاب المسؤولين التونسيين بالنموذج المصري، ثم بحثنا عن أوجه التشابه عناصر الدعاية للنظامين (ضرب الخطر الإخواني، الدفاع عن وجود الدولة، مقاومة الفساد، سيادة الشعب، استقلالية القرار السيادي، الزعيم المنقذ الخ)، فإننا لن نجانب الصواب إذا ما قلنا إن النموذج الأقرب للجمهورية "الجديدة" في تونس هو النموذج المصري. ولا يعني هذا النموذج -في التحليل الأخير- إلا هيمنة النواة الصلبة للمنظومة القديمة (الجيش في مصر والمركّب الجهوي- الأمني- المالي في تونس)، دون الحاجة إلى الأجسام الوسيطة إلا بعد تدجينها وجعلها مجرد أجسام وظيفية في خدمة النظام وخياراته الكبرى (خاصة فيما يتصل بإملاءات الجهات المانحة/ الناهبة وما يرتبط بها في ملف التطبيع وصفقة القرن).

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)