كتاب عربي 21

المناورة حبلها قصير وضريبتها عالية

صلاح الدين الجورشي
على ماذا يراهن سعيد للخروج من الواقع المتأزم في تونس؟- صفحة الرئاسة على فيسبوك
على ماذا يراهن سعيد للخروج من الواقع المتأزم في تونس؟- صفحة الرئاسة على فيسبوك
اختار الرئيس قيس سعيد، بعد توليه السلطة المطلقة، أن يتجه بالبلاد نحو اليسار، لكنه عمليا وجد نفسه يسير نحو اليمين اضطرار لا اختيارا، وهو ما أربك الحكومة وأزعج أنصاره والمساندين له. إذ إنه كلما توغل في الاتجاه المعاكس لمعتقداته ووعوده، ازدادت حيرة المحيطين به، فحاول بعضهم تذكيره بوسائل متعددة بأن المسار يحتاج إلى تصحيح المسار.

وتجلى هذا الارتباك بالتحديد في مجالين؛ يتعلق المجال الأول بالحريات واحترام حقوق الإنسان، أما المجال الثاني فيخص الضمانات المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

تعهد الرئيس بأنه سيضمن تطبيق القانون على الجميع دون المساس بالحريات. التزم بذلك أمام الشعب والنخب، وكان خطابه في هذا الشأن واضحا وقطعيا، لكن في الأثناء جاءت الممارسات مخالفة للنوايا والتصريحات، حيث توالت الانتهاكات في كل اتجاه.

رغم الانتقادات التي صدرت عن جهات مختلفة سياسية ومدنية، رفض الرئيس أن يتراجع أو يعتذر أو يعدل من أسلوبه القاطع والحاد. لهذا السبب وجد نفسه في اشتباك متجدد مع المنظمات الحقوقية داخل تونس وعلى الصعيد الدولي، التي أصبحت لا تتردد في وصفه بصفات كانت تستعملها من قبل ضد الرئيس السابق زين العابدين بن علي
لقد أدت به الخلافات السياسية إلى الغضب الشديد الذي جعله يلجأ إلى العصا ليهوي بها على خصومه. قام بإحالة العشرات من المعارضين والنشطاء، شملت أيضا صحافيين وحقوقيين على القضاء بتهم متعددة ذات طابع سياسي، كما أصدر مراسيم تكتسب خطورة عالية مثل المرسوم 54 الذي سمم المناخ العام وأعاد الشعور بالخوف في صفوف كل من يفكر ويتوجه بالنقد إلى رئيس الدولة وأعضاء الحكومة وأصحاب المسؤوليات العليا.

ورغم الانتقادات التي صدرت عن جهات مختلفة سياسية ومدنية، رفض الرئيس أن يتراجع أو يعتذر أو يعدل من أسلوبه القاطع والحاد. لهذا السبب وجد نفسه في اشتباك متجدد مع المنظمات الحقوقية داخل تونس وعلى الصعيد الدولي، التي أصبحت لا تتردد في وصفه بصفات كانت تستعملها من قبل ضد الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

يتعلق المجال الثاني بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية. الرئيس مؤمن، وهو صادق في ذلك، بأن الدولة مطالبة بضمان كرامة المواطنين، لكن ما حصل خلال السنة ونصف الأخيرة أدى إلى العكس تماما، وجعل هذه الحقوق تتراجع بشكل ملحوظ.

هكذا وجد الرئيس سعيد نفسه في مأزق يصعب تجاوزه بدون أن يدفع ثمنا قاسيا على الصعيدين السياسي والاجتماعي. لا أحد في تونس يمكنه أن يقدم حلولا ترضي جميع الأطراف في السياق الراهن، لكن بما أنه اختار أن يحكم بمفرده، ورفض إشراك الآخرين في إدارة الشأن العام، فإنه سيتحمل وحده بالضرورة مسؤولية هذه المرحلة الصعبة
لقد وقع قيس سعيد في ازدواجية حادة جعلته كمن يتراجع إلى الخلف وهو يظن بكونه يتقدم نحو الأمام. فالحملة التي قام بها ضد مؤسسات التمويل العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، انتهت به وبالبلاد إلى وضع كارثي غير مسبوق. فهو مرتاب في نواياها، معتمد في ذلك على أدبيات معروفة مناهضة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية الليبرالية المتوحشة. وفي ذلك قدر من الصحة والنفس الثوري، لكنه لا يملك الوسائل التي تمكنه من الدفاع عن اختياراته وبالأخص تنفيذها على أرض الواقع. فكانت النتيجة الوقوع في العجز والاضطرار إلى أن يتراجع عمليا دون الاعتراف أو الإعلان عن ذلك، ويحاول تدارك مواقفه السابقة من خلال إرسال الوفود الحكومية المتتالية من أجل إقناع صندوق النقد الدولي بمراعاة الأخطار التي تهدد الشعب التونسي، وذلك بتقديم قرض عاجل مقابل تنفيذ إصلاحات متعارضة مع مواقف الرئيس. رغم ذلك يعلن من جديد عن رفضه لتلك الإصلاحات خوفا من أن تؤثر على شعبيته وعلى رصيده السياسي، وهو ما زاد في تعميق درجات الإرباك واللخبطة غير المسبوقة.

هكذا وجد الرئيس سعيد نفسه في مأزق يصعب تجاوزه بدون أن يدفع ثمنا قاسيا على الصعيدين السياسي والاجتماعي. لا أحد في تونس يمكنه أن يقدم حلولا ترضي جميع الأطراف في السياق الراهن، لكن بما أنه اختار أن يحكم بمفرده، ورفض إشراك الآخرين في إدارة الشأن العام، فإنه سيتحمل وحده بالضرورة مسؤولية هذه المرحلة الصعبة. فهو مطالَب الآن بأن يختار خطابا واحدا متجانسا، لأن الازدواجية لن تساعده على تحقيق أي شيء نافع له وللبلاد.

هذه مصر التي ساندت الرئيس سعيد بقوة في ما اعتبره مسارا تصحيحيا، وأعانته بنصائحها المتعددة حتى يتمكن من أن يُحدث تغييرا هاما في السياسات والاختيارات، ها هي تتصرف بطريقة مختلفة عن أسلوب تونس في محاولة الخروج من المأزق
وأمامه مثال واضح وهو ما يحصل في مصر التي تسعى حاليا -مثل تونس- للحصول على قرض كبير من صندوق النقد، وتتعرض إلى ضغوط شديد جعل نظامها يقبل اضطرارا بأن يناقش في وثيقة رسمية "سياسة ملكية الدولة" ويلتزم فيها بالتخلي عن 79 من القطاعات الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في 45 قطاعا آخر، بما في ذلك العديد من "الشركات العسكرية المصرية". أي أن الدولة قبلت لأول مرة أن تناقش مسألة الحد من دور الجيش في الاقتصاد، وهي من القضايا شديدة الحساسية في بلد يلعب فيه العسكر دورا محوريا منذ 1952.

هذه مصر التي ساندت الرئيس سعيد بقوة في ما اعتبره مسارا تصحيحيا، وأعانته بنصائحها المتعددة حتى يتمكن من أن يُحدث تغييرا هاما في السياسات والاختيارات، ها هي تتصرف بطريقة مختلفة عن أسلوب تونس في محاولة الخروج من المأزق، عن طريق منهج يقوم على مبدأ "الحيلة في ترك الحيل".

لهذا فالمطلوب من الرئيس التونسي أن يكون واضحا شديد الوضوح سواء في تعامله مع مؤسسات التمويل العالمية، أو في علاقاته بالاتحاد العام التونسي للشغل، لأن المناورات حبلها قصير جدا.
التعليقات (0)

خبر عاجل