كتاب عربي 21

نعم نختلف في الفهم (حوار صريح مع الرئيس)

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(1)

في أرشيفي القديم مقال بعنوان "مخاصمك يا سيسي"، كنت أوضح فيه طبيعة علاقتي مع الرئيس (أي رئيس)، وخلاصته أن الرئيس عندي مجرد موظف عام لا أعرفه شخصيا، ولا ألومه على أمور عاطفية ترتبط بالعلاقات الشخصية، لكني أتعامل معه بالاحترام الواجب لأي موظف، وأختلف معه وأطلب محاسبته إذا رأيت سوءاً أو إهمالا في أدائه لوظيفته. لذلك فإن طبيعة العلاقة لا تخلط المشاعر الشخصية بواجبات العمل، وبالتالي لا يصح أن أغفر للرئيس (أو أي مسؤول) أخطاءه على طريقة "حبيبك يبلع لك الزلط"، ولا يصح أن أهاجمه بدون رؤية وفهم على طريقة "عدوك يتمنى لك الغلط"، وبالتالي فإنني لا أحابي الرئيس (أو المسؤول) ولا أخاصمه..

ولما عدت إلى سجون مصر كتبت مسودة رسالة إلى الرئيس شخصيا (لم أرسلها لأسباب سأحكيها فيما بعد)، وكان فيها أنني لا أقبل الخروج من السجن بمناشدة ولا أقبل دخوله بمكايدة، فالقانون هو الحاكم بيننا، وأنني أطلب محاكمة علنية جادة تسمح لي بتفنيد التهم الموجهة ضدي (والتي لن أنساها ولن أتنازل عن التحقيق فيها إما أمام القضاء وإما أمام التاريخ).

وأتذكر أيضا أن مقدمة الرسالة تضمنت تعريفا بالرسالة نفسها قلت فيها: "بيننا حوار قديم لن ينقطع، لأنه حوار واجب بين الحاكم والمحكوم، بين المسؤول والمواطن، بين الكاتب والقارئ. وكنت أقصد أن التعامل الأمني مع مقالاتي وآرائي باعتبارها عداء للوطن، هو تجاوز معيب في حق نظام يعتبر نفسه مسؤولا عن دولة، فالمقالات علنية والرد عليها يكون بقراءتها وفهمها والرد على ما فيها دون تجريح أو تهديد، وهو ما لم يحدث في دولة لها دستور وتهتم بالحديث عن إصدارها لوثيقة تحترم حقوق الإنسان وتفتح أبواب الحوار مع المعارضة".

لذلك أوضح أن هذا المقال ليس هجوما كيديا من مواطن تضرر من حاكم، لكنه حوار صادق وصريح لا ينافق ولا يشاقق، لا يتنازل ولا يتجنّى، وأرجو أن يتم استقبال كلمات المقال بالروح الموضوعية التي تمت كتابته بها من غير عداء ولا احتواء.

 

الخلاف مع رئيس دولة أو قادة أي نظام سياسي في بلادنا، ليس "خلافا في الرأي"، لأن الرئيس ومنظومة الحكم لا تخبرنا برأيها ولا تناقشه علنا قبل أن تفاجئنا به، لكنها تصدر القرارات وتنفذها، ثم تدافع عنها في مواجهة من يقول رأيه "المتأخر فيها". وهذا يعني غياب الحوار في الرأي من الأساس

 

 

(2)

السيد الرئيس

استوقفتني مقولة مهمة في تصريحاتك التلفزيونية قبل أيام قلت فيها إن: الاختلاف في الرأي مهم، لكن الاختلاف في الفهم مشكلة، وحيث أن ما بيننا ليس خلافا في الرأي بل خلاف في الفهم، فمن الواجب أن نتوقف بصدق لمناقشة هذه المشكلة:

في البداية أوضح أن الخلاف مع رئيس دولة أو قادة أي نظام سياسي في بلادنا، ليس "خلافا في الرأي"، لأن الرئيس ومنظومة الحكم لا تخبرنا برأيها ولا تناقشه علنا قبل أن تفاجئنا به، لكنها تصدر القرارات وتنفذها، ثم تدافع عنها في مواجهة من يقول رأيه "المتأخر فيها". وهذا يعني غياب الحوار في الرأي من الأساس، لأن آراء الشعب مجرد تعبير متأخر على قرارات صدرت وصارت محل تنفيذ.

وهذا يحدث حتى في مؤسسات التشريع والتشاور والرقابة والمجالس المتخصصة (كلها تعمل كمؤسسات تنفيذية لاحقة لقرارات الرئاسة وليست سابقة عليها). فالبرلمان والمؤسسات الشعبية والرقابية الأخرى لا تناقش ولا تراقب ولا تحاسب، لكنها توافق وتواكب وتبارك وتدعم سلطة يجب محاسبتها على كل قرار وكل نتيجة، لأن عدم المحاسبة وعدم اتباع الصلاحيات في "عملية صناعة القرار" أمر يضر بدقة قرارات الرئاسة نفسها. فمن المتفق عليه أن نتيجة التفكير الجماعي أدق وأشمل من نتيجة التفكير الفردي، وهذا يذكرني بتعبير آخر في التصريحات قلت فيه: "أنا كنت رئيس الاستخبارات ومسؤولا عن الأمن وكنت أرى ما كان يحدث".

والسؤال هنا: ماذا استفاد نظام مبارك (الذي تآكل وانهار من الداخل) من منصبك ومسؤوليتك ورؤيتك؟

أتذكر أنك تحدثت في بداية حكمك عن إنجازاتك المبكرة، وكان بينها ردم آلاف الأنفاق على الحدود مع غزة، وهذا يعني أن الأنفاق التي تم دكها أنشئت أثناء مسؤوليتك عن أمن هذه المنطقة ورؤيتك لما يحدث، لكن أحدا لم يستفد من دورك ومسؤوليتك ورؤيتك، لهذا وصلت حالة سيناء الأمنية إلى الوضع المؤسف الذي كبد ميزانية الدولة مئات الملايين من الجنيهات، ومئات الشهداء الذين دفعوا ثمن الهزيمة الصامتة في معركة أمنية نجحت فيها شراذم إرهابية مسلحة من اختراق سيناء وتحويلها إلى بؤرة استنزاف لمؤسساتنا الأمنية.

الحديث عن سقوط الدولة أو تخريبها لم يكن بسبب المحتجين الذين رفعوا شعارات مشروعة تتعلق بالكرامة والحرية والحياة الكريمة، ولم تكن شعاراتهم "هدم الدولة"، لكن ذلك بسبب تهالك الدولة، والرغبات السرية لأجنحة متصارعة داخل دواليبها كانت تسعى لتصفية حقبة مبارك بتخطيط مسبق، تم فيه التنسيق مع دول خارجية

الخلاف في الفهم هنا يستدعي البحث عن أسباب ما حدث وليس القفز عليها وتصويرها كأنها نتيجة لحدث وقع بعد عسكرة جبل الحلال وأوكار سيناء، فاقتحام الحدود في كانون الثاني/ يناير، لم يكن مسؤولية المحتجين في ميادين القاهرة في 2011، لكنه كان مسؤولية الأجهزة الأمنية التي كان يجب أن تقوم بدورها وتمارس مسؤوليتها في حفظ الأمن. وهذا يعني أن الحديث عن سقوط الدولة أو تخريبها لم يكن بسبب المحتجين الذين رفعوا شعارات مشروعة تتعلق بالكرامة والحرية والحياة الكريمة، ولم تكن شعاراتهم "هدم الدولة"، لكن ذلك بسبب تهالك الدولة، والرغبات السرية لأجنحة متصارعة داخل دواليبها كانت تسعى لتصفية حقبة مبارك بتخطيط مسبق، تم فيه التنسيق مع دول خارجية.

ولعل أحاديث أوباما وهيلاري كلينتون وآن باترسون توضح لنا الكثير من خبايا تلك الفترة التي دعمت فيها الدبابات مسار 25 يناير ووجهت التحية لشهدائها، بل إن الدستور الساري يعتمد على مشروعية يناير باعتبارها ثورة شعبية، في حين يكشف التوجه الرسمي والسعار الإعلامي عن عداء صريح ليناير وتوجهاتها. لذلك نفهم أن يناير كانت للشعب ثورة، وكانت لغيره مجرد "عملية جراحية محدودة" تستهدف الإطاحة برأس النظام العجوز البطيء واستبداله بآخر يفهم المطلوب منه إقليميا ولا يتباطأ فيه.

ومن هنا ظهر الصراع على من يكون ذلك الرجل البديل لمبارك، سواء من داخل المؤسسة الأمنية القوية أو بالتنسيق معها إذا كان الرأس الجديد مدنيا على طريقة الوزير الراحل منصور حسن أو من "الإسلام السياسي المُعَدّل" على طريقة الدكتور محمد مرسي، ومعظمنا يفهم المظهر العام لما حدث لمسار يناير الذي تحول من ثورة إلى مؤامرة!

(3)

السيد الرئيس

أتفق معك في أن الخلاف في الفهم أخطر بكثير من الخلاف في الرأي، لأن الرأي جزئي والفهم شامل. وللتوضيح أقول إنني أتفق معك في كثير من التصريحات التي تحدثت فيها عن ضرورة تقليل فاتورة الاستيراد، وزيادة فاتورة التصدير، وضرورة الاهتمام بالصناعة وزيادة معدلات الإنتاج المحلي وطرح مبادرة "ابدأ" لتشجيع ذلك. وهذا أمر أساسي في فهمي للمسار الذي أدعو بلادي للتمسك به والتشدد فيه، لكن هذه التصريحات تتناقض بعد ذلك مع حديثك عن العاصمة الإدارية ورؤيتك للاستثمار الخارجي، حيث يبدو في هذه الحالة أن رؤيتك للاقتصاد رقمية تخضع لاعتبارات مصرفية وريع المشروعات الخدمية لمستثمرين لا يرتبطون بخطط الإنتاج التي تحتاجها مصر، لكن يتصرفون بمنطق تحصيل أكبر عائد من أي نوعية سلع تؤدي إلى أرباح وفيرة.
أنا كمواطن مهتم بتأمين حياة الناس وجودة الخدمات الضرورية التي تقدم لهم، بينما تهتم سيادتك بالإنجازات الإمبراطورية التي تحسب لمن يبقى اسمه على ألواح الرخام التأسيسية، وهي الآفة التي قصمت ظهر مصر الاقتصادي على مدار قرون

لذلك، فإن الرؤية العامة للاقتصاد الإنتاجي المستقل تصطدم بتوجيه الإنفاق إلى مشروعات خدمية أو عقارية؛ قد تكون مفيدة إذا تأخرت لمرحلة تالية في عملية التنمية التي تستهدف في القلب منها حياة المواطنين ومنظومة التعليم والصحة والإنتاج اللازم لتأمين الحياة اليومية للمواطنين.

والمؤكد أن سيادتك لا تتذكر أن هذه النقطة كانت خلافا أساسيا بيننا، فأنا كمواطن مهتم بتأمين حياة الناس وجودة الخدمات الضرورية التي تقدم لهم، بينما تهتم سيادتك بالإنجازات الإمبراطورية التي تحسب لمن يبقى اسمه على ألواح الرخام التأسيسية، وهي الآفة التي قصمت ظهر مصر الاقتصادي على مدار قرون: من الأهرامات، إلى قصر أحمد بن طولون، إلى حمام خمارويه وشوار ابنته قطر الندى، إلى قاهرة الخديوي إسماعيل "الباريسية" التي يتم استنساخها بروح عصرية في العاصمة الإدارية..

لا خلاف على أن مسجد السلطان حسن ظل إنجازا معماريا مبهراً، لكنه أحد أسباب ضعف السلطة المملوكية وتفككها بعد ذلك، حتى أن السلطان حسن اضطر لاستكماله قسرا حتى لا يقال إن سلطان مصر عجز عن إتمام إنشاء مسجده، وبالتالي فإن القيمة ليست في روعة التشييد على حساب حياة الناس. هذا الفهم المملوكي للإنجازات يجب أن يتوقف، وهذا الفهم الخاطئ لأمجاد الحاكم لا يجب أن يرتبط بإنشاء مسجد أو قلعة أو حي سكني أو عاصمة.

وكنا نأمل بعد ثورة يناير أن يتم تحديث المفاهيم المركزية في الدولة المصرية، فهذا هو المجد الذي تنتظره مصر من حاكم يؤمن أن أعظم ما يقدمه هو الاهتمام بحياة الناس في بلاده من غير حساب التكلفة المالية للتعليم والعلاج والمعيشة. فالأموال في كل الأحوال يتم إنفاقها في بنود عتيقة يمكن التخفف منها إذا أصلحنا الفهم، خاصة وأن سيادتك في التصريحات ذكرت أن مصر خسرت 477 مليار دولار في اللا شيء. وهذا يضعنا أمام مفارقة تدعونا للتفكير في حتمية الإنفاق حسب أولويات الناس، لأن أخطاء الإدارة أو السلوك العام للشعب قد تؤدي إلى خسائر أكبر بكثير من حجم الإنفاق المطلوب للإصلاح البنيوي في كيان الدولة ومسؤوليتها عن حياة الناس؛ وليس عن تشييد عمائر الذكرى وإنجازات الأبهة.
الاستسلام لتقاليد الحكم منتهية الصلاحية ليس مسؤوليتك ولا مسؤولية حاكم واحد بعينه، لكننا ننتظر الحاكم الإصلاحي الثوري الذي يستطيع أن يحرر مصر من ذلك الميراث الملعون لسلطة المماليك، ويضعها أمام مستقبل جديد يليق بالعصر وبالمستقبل المنظور

وبدون استفزاز أو تأويل خاطئ يمكن إعادة التفكير في ميزانيات شراء السلاح، وميزانية البرلمان بغرفتيه، وميزانيات الجهاز البيروقراطي الذي يجب إعادة هيكلته كأساس لإصلاح بنية الدولة المصرية التي لم تتطور منذ العصور الوسطى. فـ"مركزية الحكم" هي هي، و"المشروعية لمن غلب" هي هي، و"هيمنة الدواوين" هي هي، وشكلية القوانين هي هي، والبرطلة (الرشوة) وشراء الوظائف والمحسوبية هي هي. وهذا الاستسلام لتقاليد الحكم منتهية الصلاحية ليس مسؤوليتك ولا مسؤولية حاكم واحد بعينه، لكننا ننتظر الحاكم الإصلاحي الثوري الذي يستطيع أن يحرر مصر من ذلك الميراث الملعون لسلطة المماليك، ويضعها أمام مستقبل جديد يليق بالعصر وبالمستقبل المنظور.

(4)

السيد الرئيس

تابعت مبادرات رسمية مثل "حياة كريمة" و"الإصلاح الجريء" وغيرهما، ومن حيث الشعار تعجبني العناوين، لكنها في الواقع تعمل عكس منطوقها، فالحياة الكريمة في نظر القائمين على المبادرة ليست في حقيقتها إلا نوعا من "الإحسان" كما جاء على لسان أحد المسؤولين، وهذا تقليد سخيف موروث من أيام ولائم السلاطين وعصور التكايا.

وأتعجب أنك ذكرت رقم 700 مليار جنيه تم إنفاقها على هذا المشروع في إنشاءات وصرف صحي وخلافه، لكن الحياة الكريمة لا تقتصر على إنشاءات لشعب يعاني ويتذمر، صحيح أن أي ميزانية لن تكفي أبدا لتحقيق رضا الشعوب عن حكامها، لكن "فهم" مبادرة الحياة الكريمة بشكل صحيح يقتضي بناء الإنسان بمثل درجة الاهتمام بتكاليف محطات الصرف. لذلك تحتاج المبادرة إلى إجابات عن الأسئلة الغائبة المتعلقة بالأخلاق والأمل والنظافة، ومؤشر الرضا عند الناس والإحساس بالأمان والانتماء والنجاح، وهذه كلها أشياء مفقودة صنعت انحرافا في التفكير العام لدى الجموع.

فعندما أطالع الأداء الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، أشعر بأن الدولة المصرية فقدت سيطرتها في مجال قيادة الرأي العام وتنظيم الفكر الجمعي، صار لدينا نوع من التشوش والخلط يحفز الدولة أن تكون طرفا في الصراع، وليست قائدا له. فقد اتسع الخرق على الراتق، وهذا ما يجب التفكير في علاجه ليكون للحكم معنى التحكم الناعم والمقبول من الناس، فالحكم بلا تحكم وسيطرة قانونية وأخلاقية يفقد هيبته ويفقد دوره، ويتحول إلى حالة أشبه بحكم العصابات تستخدم الإرهاب والتخويف أكثر مما تستخدم الإقناع والقوانين.
ندما أطالع الأداء الشعبي على مواقع التواصل الاجتماعي، أشعر بأن الدولة المصرية فقدت سيطرتها في مجال قيادة الرأي العام وتنظيم الفكر الجمعي، صار لدينا نوع من التشوش والخلط يحفز الدولة أن تكون طرفا في الصراع، وليست قائدا له

وخلاصة هذه النقطة أنني لا أرغب في دولة ضعيفة، لكنني في الوقت نفسه لا أوافق أبدا على دولة تستخدم العصا الغليظة ضد شعبها، وتهمش القوانين في سعيها للسيطرة على مصائر البلاد.

(5)

أعود إلى مشكلة الخلاف في الرأي والخلاف في الفهم، وأذكر أنني قضيت أياما طويلة أناقش مع الأستاذ هيكل طبيعة النظام المأمول والنظام الواقعي الذي ستسفر عنه الأحداث بعد يناير، ولما تصدر اسمك في الأحداث تكاثرت الأسئلة عن تفكيرك والرؤية التي يمكن أن تتبناها. وقد أدى النقاش مع تطور الزمن إلى نوع من الملاحم الدرامية الحزينة التي يجب تدوينها وطرحها في المجال العام، فما أصعب أن يتحول الأمل عند البعض إلى خذلان، وما أصعب أن تهدر مصر الفرص النادرة التي تتيسر لها لكي تقوم من محبسها وتتحرر بالمعنى الشامل الذي يعفيها من تقاليد مكبلة لتقدمها.

وفي هذا الإطار أتذكر حديثك المتكرر عن عظمة الإنجازات التي قمت بها، ولا أخفي أنني في كثير من الأحيان ما أضبط نفسي متفقا معك في الرأي ومختلفا معك في الفهم. صحيح أنك تبذل مجهودا كبيرا في التشييد والإعمار، وتسهر الكثير وتنام القليل وتتابع بنفسك كل التفاصيل، وهذا إخلاص ودأب في العمل يثير الإعجاب، لكنه أيضا يثير الكثير من الأسئلة عن دور الرئيس وصلاحياته الدستورية والمطلوب منه. فالحديث عن العَرَق أمر غير مستحب عندما يرتبط بالرئيس، لذلك يجب أن ننحيه جانبا عندما نتحدث عن الفكر والقيادة والمسؤوليات العامة.

فالعَرق مُقَدَر وعظيم لكن مجاله ليس في الإدارة؛ الإدارة مسؤولة عن التنظيم وتخطيط الجهد والإشراف على المشاريع التي ينفذها "أصحاب العرق"، لذلك أحب أن أسمي العرق "عطر العمال". فالعامل ليس مسؤولا عن التخطيط والتفكير، لكن عن جهد التنفيذ الأمين لمستوى آخر مختص بالتخطيط والرؤية الشاملة.

وهذه النقطة "التنظيمية" لها خطورتها الكبيرة في السياسة، فمن المعيب والمضحك والمدمر أن أدفع ملايين الدولارات لمدرب منتخب كرة القدم، فلا يقوم المدرب العجوز بالتدريب، بل ينزل إلى الملعب ليثبت كفاءته وينافس اللاعبين في دورهم. وهذه أكبر مشكلة في فهم المدير الذي يهتم بعمله فيقوم بأدوار من الواجب أن يقوم بها العمال أو المساعدون، لأن خبرة وساعة عمل المدير لا يجب إهدارها في عمل يقوم به مستوى آخر من الموظفين..

أعتقد أن كلامي معروف لسيادتك ومتفق عليه في علوم الإدارة، لكن شيئا ما يدفعك للتدخل بنفسك في كل كبيرة وصغيرة، وهذا يدعونا للتفكير والتساؤل عن السبب: هل هذا مؤشر على عدم ثقة في أداء المعاونين؟ هل ترغب في الجمع بين منصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء لكن الصورة العامة للدولة في الخارج لا تسمح؟ هل تعليماتك لا تنفذ كما يجب على المستوى الوزاري فتضطر لتحمل أعباء الآخرين؟

الأسئلة كثيرة والواقع يفرضها علينا مع كل ظهور إعلامي لسيادتك تتحدث فيه عن تفاصيل المشروعات: "تعبك فيها" و"ما دفعته فيها من تكاليف"، والعقبات التي تبطئ من معدلات الإنجازات، مثل كورونا والحرب الأوكرانية. وهذا الحديث (المتفق عليه من حيث الرأي) يضعنا أمام مأزق الفهم لدور الدولة وتخطيطها المستقبلي؛ الذي يجعل من الأزمات الدولية مجرد عارض متوقع لا يعطل المشاريع القومية إذا كانت ضرورية، فالحياة يجب أن تستمر حتى في ظل الكوارث والحروب، وأي تقصير من الأنظمة الحاكمة في حق الشعوب ومستوى معيشتها يجب أن يخضع للمحاسبة.

 

يا سيادة الرئيس إن الخلاف في الرأي مجرد بديهية حرمنا منها نظامك، بينما الخلاف في الفهم هو المشكلة الأخطر التي تصطنع العداوة بين أهل الوطن الواحد وتفتت القوة في صراعات لا ناتج من ورائها، وتضع الوطن كله في حالة ضبابية تحول بيننا وبين رؤية المستقبل، بل تمنعنا من رؤية ما تحت أقدامنا

فقد تأثرت أوروبا وأمريكا بالقرارات السياسية التي اتخذتها وليس بمجريات الحرب، وهو الثمن الذي يدفعه الحكام هناك في شكل استقالات أو تدن للشعبية تؤثر على أقرب انتخابات مقبلة، بينما في بلاد مثل بلادنا تظل الظروف الدولية والكوارث الطبيعية مجرد ذرائع للتبرير، تخفي أخطاء السياسات وأخطاء مخالفة الأولويات الاقتصادية التي تبدأ بمسؤولية الحاكم عن توفير حياة كريمة للإنسان (البناء الفوقي لأي أمة)، ثم يأتي الحديث بعد ذلك عن تطوير البنية التحتية وكل ما يتعلق بالبيئة المحيطة بالإنسان من مشاريع خدمية أو تأمينية أو جمالية وترفيهية.

(6)

القصد يا سيادة الرئيس أن الخلاف في الرأي مجرد بديهية حرمنا منها نظامك، بينما الخلاف في الفهم هو المشكلة الأخطر التي تصطنع العداوة بين أهل الوطن الواحد وتفتت القوة في صراعات لا ناتج من ورائها، وتضع الوطن كله في حالة ضبابية تحول بيننا وبين رؤية المستقبل، بل تمنعنا من رؤية ما تحت أقدامنا فيختلط علينا الطيب والخبيث.

أقول هذا لك مباشرة بصراحة وشجاعة "لأننا يجب أن نكون أمناء ومخلصين لبلدنا" حسب تعبيرك في التصريحات الأخيرة، وأتمنى يا سيادة الرئيس أن تبدأ حوارا هادئا مع نفسك، تفكر فيه في مبادرة أعظم وأعمق وأشمل للإصلاح السياسي والمجتمعي؛ تحقق ما أعلنته في التصريحات من أنك "رئيس لكل المصريين" ولست منحازا لفئة أو مؤسسة أو جماعة أو فكرة واحدة تهيمن على تفكيرك..

والسلام على من تحدث فصدق ووعد فأوفى.

[email protected]
التعليقات (5)
Elnashar
الأحد، 11-12-2022 07:05 م
مقالة شاملة ، تحية للكاتب *"أنا كنت رئيس الاستخبارات ومسؤولا عن الأمن وكنت أرى ما كان يحدث". والسؤال هنا: ماذا استفاد نظام مبارك (الذي تآكل وانهار من الداخل) من منصبك ومسؤوليتك ورؤيتك؟ * لا خلاف على أن مسجد السلطان حسن ظل إنجازا معماريا مبهراً، لكنه أحد أسباب ضعف السلطة المملوكية وتفككه و الإنجازات الإمبراطورية التي تحسب لمن يبقى اسمه على ألواح الرخام التأسيسية، وهي الآفة التي قصمت ظهر مصر الاقتصادي على مدار قرون: من الأهرامات، إلى قصر أحمد بن طولون، إلى حمام خمارويه وشوار ابنته قطر الندى، إلى قاهرة الخديوي إسماعيل "الباريسية" التي يتم استنساخها بروح عصرية في العاصمة الإدارية.. * إنجازاتك المبكرة، وكان بينها ردم آلاف الأنفاق على الحدود مع غزة، وهذا يعني أن الأنفاق التي تم دكها أنشئت أثناء مسؤوليتك عن أمن هذه المنطقة ورؤيتك لما يحدث، لكن أحدا لم يستفد من دورك ومسؤوليتك ورؤيتك، لهذا وصلت حالة سيناء الأمنية إلى الوضع المؤسف الذي كبد ميزانية الدولة مئات الملايين من الجنيهات، ومئات الشهداء الذين دفعوا ثمن الهزيمة الصامتة في معركة أمنية نجحت فيها شراذم إرهابية مسلحة من اختراق سيناء وتحويلها إلى بؤرة استنزاف لمؤسساتنا الأمنية. * تأثرت أوروبا وأمريكا بالقرارات السياسية التي اتخذتها وليس بمجريات الحرب، وهو الثمن الذي يدفعه الحكام هناك في شكل استقالات أو تدن للشعبية تؤثر على أقرب انتخابات مقبلة، بينما في بلاد مثل بلادنا تظل الظروف الدولية والكوارث الطبيعية مجرد ذرائع للتبرير، تخفي أخطاء السياسات وأخطاء مخالفة الأولويات الاقتصادية التي تبدأ بمسؤولية الحاكم عن توفير حياة كريمة للإنسان * لذلك نفهم أن يناير كانت للشعب ثورة، وكانت لغيره مجرد "عملية جراحية محدودة" تستهدف الإطاحة برأس النظام العجوز البطيء واستبداله بآخر يفهم المطلوب منه إقليميا ولا يتباطأ فيه. والسلام على من تحدث فصدق ووعد فأوفى.
Elnashar
السبت، 10-12-2022 05:53 م
مقالة شاملة ، تحية للكاتب *"أنا كنت رئيس الاستخبارات ومسؤولا عن الأمن وكنت أرى ما كان يحدث". والسؤال هنا: ماذا استفاد نظام مبارك (الذي تآكل وانهار من الداخل) من منصبك ومسؤوليتك ورؤيتك؟ * لا خلاف على أن مسجد السلطان حسن ظل إنجازا معماريا مبهراً، لكنه أحد أسباب ضعف السلطة المملوكية وتفككه و الإنجازات الإمبراطورية التي تحسب لمن يبقى اسمه على ألواح الرخام التأسيسية، وهي الآفة التي قصمت ظهر مصر الاقتصادي على مدار قرون: من الأهرامات، إلى قصر أحمد بن طولون، إلى حمام خمارويه وشوار ابنته قطر الندى، إلى قاهرة الخديوي إسماعيل "الباريسية" التي يتم استنساخها بروح عصرية في العاصمة الإدارية.. * إنجازاتك المبكرة، وكان بينها ردم آلاف الأنفاق على الحدود مع غزة، وهذا يعني أن الأنفاق التي تم دكها أنشئت أثناء مسؤوليتك عن أمن هذه المنطقة ورؤيتك لما يحدث، لكن أحدا لم يستفد من دورك ومسؤوليتك ورؤيتك، لهذا وصلت حالة سيناء الأمنية إلى الوضع المؤسف الذي كبد ميزانية الدولة مئات الملايين من الجنيهات، ومئات الشهداء الذين دفعوا ثمن الهزيمة الصامتة في معركة أمنية نجحت فيها شراذم إرهابية مسلحة من اختراق سيناء وتحويلها إلى بؤرة استنزاف لمؤسساتنا الأمنية. * تأثرت أوروبا وأمريكا بالقرارات السياسية التي اتخذتها وليس بمجريات الحرب، وهو الثمن الذي يدفعه الحكام هناك في شكل استقالات أو تدن للشعبية تؤثر على أقرب انتخابات مقبلة، بينما في بلاد مثل بلادنا تظل الظروف الدولية والكوارث الطبيعية مجرد ذرائع للتبرير، تخفي أخطاء السياسات وأخطاء مخالفة الأولويات الاقتصادية التي تبدأ بمسؤولية الحاكم عن توفير حياة كريمة للإنسان * لذلك نفهم أن يناير كانت للشعب ثورة، وكانت لغيره مجرد "عملية جراحية محدودة" تستهدف الإطاحة برأس النظام العجوز البطيء واستبداله بآخر يفهم المطلوب منه إقليميا ولا يتباطأ فيه. والسلام على من تحدث فصدق ووعد فأوفى.
الصعيدي المصري
الخميس، 27-10-2022 11:43 ص
pla pla pla واي هبل في الجبل مصفوفات من حروف تكون كلمات وجمل لتملأ حيز من الفراغ مازال بعض عباد الهيكل السيساوي يطلقون عليه لفظ ( الرئيس) .. ولا اندهاش .. فقد ساندوه ودعموه .. الى ان تبين لهم الخيط الابيض من الاسود فقام باعتقال مجموعة من اقرب طباليه وداعميه .. والان بأبى هؤلاء ان يعترفوا بما ارتكبت ايديهم من جرائم لمساندتهم مجرم ظالم .. فما انفكوا يأولون ويلتفون ويلونون ويتكلمون بجوار الحائط . على هؤلاء ان يكفوا السنتهم واقلامهم الى الابد .. فكفانا هراءا واستعباطا
الكاتب المقدام
الخميس، 27-10-2022 12:49 ص
*** 2- كما أن هيكل عراب ناصر الذي أراد الكاتب الهمام إيقاظه من بين الأموات، ليبقى على العهد، وليرسل هو أيضاُ رسالة لسيسيهم من العالم الآخر، ليعزز بها جمال الجمل رسالته، وهيكل هذا لمن لا يعرفه، هو مشيد هيكل عبادة المقبور المهزوم ناصرهم، باعث دين عبادة العسكر، (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ)، فهيكل هو كاتب ميثاقهم، وبوقه في التغطية على هزيمتهم المخزية الفاضحة لحقيقتهم، فبعد أن هرم هيكل وشاخ، ظل متمسكاُ بعقيدته التي نشأ عليها، فحاول جاهداُ أن يجد له إلاه آخر يخدم في هيكله، ويتحدث بلسانه، ويواصل هرطقاته، ويتخذه معبوده الجديد بعد نفوق ناصره، قبل نهاية حياته، ليموت على ما شاب عليه، فوجد ضالته تبعث من جديد متمثلة في جنراله السيسي دجال العصر، ولكن العمر لم يسعف هيكل، فقد قبر هو الآخر قبل أن تصل رسالته إلي سيسيه، ولكنه سينتظره على أحر من الجمر في عالمه الجديد، حيث سيستكمل معه ومعهم هناك حواره تحت أقدامه، ولكن من منظور جديد، فبصره في ذلك اليوم حديد، فأفيقوا عن ضلالكم القديم قبل فوات الأوان، وسأذكركم بحديثي هذا في يوم قريب، والله أعلم بعباده.
الكاتب المقدام
الخميس، 27-10-2022 12:34 ص
*** 1- نأسف للكاتب الكريم، لم يستدل على عنوان المرسل إليه، وقد نفذ رصيدكم، فلا تضيعوا ما بقي من حياتكم في السعي إلى هراء لا ينفع، فقد وافتنا أنباء بأن الجنرال المنقلب المعنون إليه رسالة الكاتب، قد غادر مقره المعروف منذ ما يزيد عن تسع سنوات، ولم يستدل على عنوان جديد له، بعد أن أغمض عينيه وأصم أذنيه عن سماع حتى اتباعه ومريديه، بعد أن هجر من جاءوا به من جوقة 30 يونيو، وانتقل لمقر جديد مجهول في بكتاجون معبده الجديد، لجأ إليه مع زوجه وبنيه وخاصته التي تأويه إلى حين قريب، بعد أن لحست مخه جرعات الترامادول المتزايدة التي أدمن تعاطيها، لتخفي هوانه واضطراب عقله عن أعوانه، عندما يطل بوجهه على متبعي دينه ومصدقي هرطقاته، فقد تفاقمت تأثيرات الترامادول الذي يزوده به كاتم أسراره ورئيس مخابراته، وقد أخبر من رآه ببصيرة، أن سيسيهم قد تحول إلى خيال مآتة، مزود بمكبر للصوت لا يسمعه إلا اتباعه، الذين سيلحقون به إلى مقره الأخير، وقد ختمت جبهته العريضة بأربعة حروف واضحة للمبصرين، وهو خاتم التمييز المعروف لأمثاله من دجاجلة العصور، وسيسيهم كما أخبرهم هو بلسانه، مزود بثلاث فلاتر فلا يصل له كلام اتباعه، وقد سمعه من يحيطون به وهو يرهف بصوت مسموع بأنه المهدي المنتظر الذي سيقود شعبه إلى مصيرهم المحتوم.