كتاب عربي 21

قروض الصمود الغذائي الذليل

نور الدين العلوي
1300x600
1300x600

نكتب بروح حزينة عن الصمود الغذائي وقد فقدنا كل قدرة على الحياد. هنا بلد كان يصدر فائض أغذية يقف اللحظة على حافة الجوع، فيغرق في اللغة الفخمة ويسمي توسل الغذاء بقرض صمود وينسى أن الصمود دفاع أخير، إنه كمون خائف خلف ستر الدفاع الأخيرة وقد تكون هشة حد الانكشاف. هنا تونس وهنا يمضي رئيسها الخارق للسنن قرض الصمود الغذائي ويزنى باللغة، وهنا تستبشر النخب بضمان رواتبها المجزية.

لقد يقن أو لُقِّن بعد طول عناد أن البلد خلفه يجوع وأن عليه تدبير وسيلة للصمود في وجه الجوع القادم، وليس أمامه إلا أن يقترض، أما أن يحرض الناس على العمل فأمر فاته ذكره خاصة بعد انكشاف فواتير اللحم. لكن لماذا يقرضونه؟

القرض الأوروبي أو سقيا المنازع

في لحظة الاحتضار يقطر الماء في حلق من ينازع السكرات ويلقن الشهادة. الاتحاد الأوروبي منح الرئيس في تونس قطرة الماء في لحظة النزع، لكنه لا يملك أن يذكره بالشهادة فالشهادة ثقافة أخرى لا تشملها القروض. لماذا ينجده ويمد في أنفاسه؟ وحتى متى سيفعل ذلك؟

الاتحاد الأوروبي أول من يعرف بأن المنقلب كسر مسار بناء الديمقراطية في بلد عاش ألف سنة تحت حكم الفرد، وكان شاهدا على تفاصيل بناء المسار ثم ساهم في كسره ويساهم في تحطيمه برفد الانقلاب بالمال ليبقى. المبررات المعلنة صراحة وضمنا هي منع الانفجار الاجتماعي في تونس، بالسماح للنظام (المنقلب) بدفع فواتير الغذاء إلى الموردين وقد ثبت عجزه عن الدفع بالنقد الأجنبي. إنها عملية توقّ واستباق لكن وقاية مِن مَن، ومن ماذا؟ الإجابة صارخة بالوضوح: وقاية الجوار الأوروبي من شظايا الانفجار الاجتماعي في تونس، وترجمة ذلك استباق موجات الهجرة غير النظامية بدفق غير قابل للضبط والاستيعاب. فبعض الهجرة مقبول في حدود طاقة استيعاب سوق شغل أوروبية غير كاسدة، لكن إذا فاق الدفق المهاجر قدرة السوق فإن كلفة ذلك تصبح أعلى من كلفة دعم النظام لمنع حصول كوارث هجرة. إنها قروض تسييج الحدود التونسية لمنع خروج الجياع، قروض صمود غذائي دفاعا عن أوروبا لا حماية لتونس.

قروض الغدر بالديمقراطية

لقد كانت صورة البلد الضعيف بيّنة قبل الثورة وكانت الهجرة السرية وسيلة تهديد للغرب استعملها ابن علي كما استعملها القذافي، مع فارق في بواعث القرار. وكانت الثورة تتحدث عن الخروج من هذا الوضع الهش نحو حالة نمو اقتصادي تستوعب كل فيض العمالة في الداخل، لكن المسار كان ينتكس ويستعيد وضع الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية حتى وصلنا إلى قرض الصمود الغذائي.

يمكننا أن نجد أسبابا كثيرة من داخل البلد ومن فعل النخبة لهذا الانتكاس، ولكن اليد الخارجية كانت حاضرة ومؤثرة بل فاعلا رئيسيا. لقد انكشفت الهشاشة الداخلية، ولكن معول الهدم كان خارجيا وفرنسيا بالتحديد. إن فرنسا التي خربت مسار البناء الديمقراطي في تونس بواسطة أياد تونسية (نقابية بالتخصيص) هي التي تحرض الاتحاد الأوروبي على منح تونس قروض الصمود الغذائي. وقد وجب أن ننظر إلى هذا الدعم الغذائي كدعم للانقلاب، وهو مواصلة الاعتداء على الديمقراطية بتحطيم ما بني منها ومنع ترميم ما تهدم، وقطع الطريق على أية عودة محتملة ولو على مدى طويل. الأمر يشبه تقديم علف لدواب سجينة مع وجبة دسمة للراعي للإبقاء على القطيع في زريبته.

هل هذا الوضع قابل للاستمرار بعد مرحلة دعم الصمود الغذائي بما هي مرحلة حفظ بقاء فقط؟

لو كان الأمر يتعلق بعلاج الإحباط الذاتي لقلنا إن هذا الوضع سينهار غدا وأن مخرجا تاريخيا يتهيأ، لكن معاينة المشهد السياسي الداخلي تكشف أن اليد البانية لا تزال مشلولة وأن اليد المخربة لا تزال قادرة على التخريب، وأن كل أمل في استعادة الديمقراطية هو تهديد للمخربين يجب استباقه وتحطيمه بضمان توفر الغذاء للقطيع الصامت.. مصير البلد ليس بيد أبنائه الباقين بعد الصمود الغذائي.

الحل لن يكون إلا خارجيا

يؤسفنا أن نكتب هذا ونرسخه.. قروض الصمود الغذائي هدفها الإبقاء على وضع الهشاشة الاجتماعية دون بلوغ الانفجار، وهو وضع قابل للاستمرار (كلفة ذلك على الجوار أقل من كلفة تبعات انهياره). يظن المنقلب أنه يحقق نجاحات سياسية ويمضي في تنفيذ أجندته الخاصة التي لا تكلف الجوار شيئا.

الجمهور أو عوام الناس توقفوا عن محاولة الرفض وانتقلوا إلى إنتاج السخرية السوداء من كل شيء، وهم يتدربون الآن على العيش في عالم الندرة، حيث يصبح الحصول على وزنة سكر غنيمة للتباهي ونشر صور السيلفي، بما يولد شعورا بالاستسلام الذليل.

النخب السياسية ما زالت مرابطة في حفرة الاستئصال، وشعارها إسقاط الانقلاب سيعيد الإسلاميين إلى المشهد لذلك دعه يخرب. الإسلاميون يقولون ما دمنا وحدنا لن نقاوم وحدنا لنسأل لاحقا "بكم كيلو النضال؟". وفي عالم الصمود الغذائي بالقروض الفرنسية لن يوجد عسكري مغامر يتلو البيان رقم واحد، فبعد البيان رقم واحد سيظل البلد في منطقة قروض الصمود الغذائي.

هذا هو الوضع المثالي لبلد محتل دون استعمال قوة عسكرية لاحتلاله، إنه يأتي طوعا ويقدم طقوس الولاء ويقبل الأكتاف ويتوسل الرضا. هل هان البلد على أولاده؟ ربما علينا طرح سؤال قبل السؤال: هل يعرف أبناؤه معنى العار وذل العيش بين الأمم بقروض الصمود الغذائي؟

إن المزية الوحيدة لقرض الصمود الغذائي هي إنهاء وهم النخبة التونسية، فالنخبة التي استبشرت بالقرض لضمان رواتبها لا تملك نخوة الغيرة على الأوطان.. وهذا درس بليغ للمستقبل.

 

التعليقات (1)
إِذا طَمَحَتْ للحَياةِ النُّفوسُ
الأربعاء، 05-10-2022 12:01 ص
كنت ما أترك مقال فيه تونس إلا و قرأته الآن أقول الحفرة زادت عمقا و الظلام سواد لا يحي الموتى إلا الحي القيوم