هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أجساد راقصة (SWAYING BODIES) هي رواية قصيرة، صدرت في عام 2021، عن مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث (لبنان)، للكاتب والباحث المصري أحمد عبد الحليم.
ناقشت الرواية عبر سردها الأدبي فلسفة وجود الجسد في الفضاء السِّجنّي، ومدى تفاعلّاته مع السُلّطة، وكيف الثانية تؤثر فيه، إذ تُهدمه وتُعيد هندسته من جديد، كذلك علاقاتيّة الجسد بالأجساد والعُمران من حوله، فضلا عن أن الرواية مصحوبة برسومات تساعد القارئ على تخيّل المشاهد التي يسردها الكاتب، والصور رسمتها الفنانة السورية ديما دالي.
نحاول بإيجاز الوقوف على أهم الملامح الفلسفية التي تعاطى معها الكاتب.
لا اسم ولا مكان، جسد وفقط
خلَت الرواية القصيرة طيلة سردها من ذكر أي أسماء أفراد أو أماكن أو ذكر أسماء سُلطات أو دول بعيّنها، يحاول عبد الحليم من خلال هذا، الابتعاد كُلّية من حصر الجسد باسم إنسان أو قضيته سواء سياسية أو غير ذلك، أو حصر السُلطات والعمران، بدول وأماكن معيّنة. يتمركّز السرد كُلّه على الجسد وتفاعلاته وتحركاته. (أدب سيميولوجي بامتياز).[1]، الجسد هو بطل الرواية.
ويبدأ عبد الحليم، بمعاناة الجسد المُكدّس داخل عربة الترحيلات، هنا أصبح الجسد وحيدا ومشابها لأجساد أُخرى من حوله، هذه هي أولى فقدان التمايز الإنساني عن الآخر، ليس التمايز بمفهُومه الطبقي، التمايز هنا بالمفهوم الكينوني.
ثاني مراحل الإفقاد المُتعمّد من السُلطة، تتمثل في بدايات دخول الجسد من بوابة السجن، حيث يلقى ضربا وسبابا مبرحا ومُهينا، ومن ثم تصبح الأجساد عاريةً من أجل التفتيش، إلى بدايات تسكين الأجساد المُتشابهة في زنازين مُتشابهة.
يضع عبد الحليم، آخر الممارسات الصادمة للجسد في مرحلة البدايات، في موقف ما يُعرف دخول الأجساد السجينة إلى زنزانة "الإيراد"، حيث تتعرّى الأجساد، وتتبرّز أمام رجال السُلطة من أجل معرفة، إن كان هذا الجسد يُخبئ شيئا في مؤخرته من عدمه.
وينتقل عبد الحليم، من هذه الممارسات وأثرها الصادم على النفس والجسد، إلى سرد آخر، سردٌ فيه بعض من التماهي والتطبّع مع الحياة الجديدة التي استقبلت الجسد وسكّنته بداخلها. جسدٌ بات وسط أخوته من الأجساد التي طُبّعت كُرها مع الحياة السِّجنّية.
اقرأ أيضا: رواية "أسرى وحكايات".. الأسير الشرباتي يكتب من خلف القضبان
يصف عبد الحليم أن الأجساد القديمة تتضايق من الأجساد الجديدة القادمة لها، ومن ثم تكمُن فلسفة الضيق تجاه الأجساد لبعضها البعض، وهذا بسبب مساحة العمران التي فُرضتْ كي تَحوي هذه الأجساد، عُمران مساحته سنتيمترات (30 سم أو 27 سم). إذ يحسب الجسد هُنا مساحته بالسنتيمتر مُربّع، ويفرح ويتضايق في حالة زيادة أو نقص هذه السنتيمترات.
كذلك يذهب عبد الحليم إلى تشرّيح حاجات الجسد البيولوجية، تحديدا إخراج البراز والحاجة الجنسية. في الزنزانة التي وُضع فيها الجسد، لا يوجد منفذ جيد لإخراج البراز، ما يضطر الأجساد إلى الانتظار يومًا كاملا حتى الخروج لمدة دقائق، لإخراج برازهم.
وفي أحايين لا يستطيع الجسد الانتظار، بسبب كهُولته وشيخوخته، فيُخترع عند ذلك ممارسات تُريح الجسد، إذ يأخذ السجين طبق من الأطباق ويغلّفه في كيس أسود، ومن ثم يضعه على الأرض، ويتَقرفص من فوقه، ويبدأ في إخراج برازه في الطبق، ومن ثم يلف الكيس ويضعه عند باب الزنزانة لإخراجه صباحا عند فتح الباب.
هنا ارتاح الجسد بعض الشيء، لكن في هذا الارتياح عُفونّة، حيث يُعفّن الجسد لعدم اغتساله بشكلٍ جيد، فضلا عن الرائحة السائدة بالعفن ضمن حيّز الزنزانة، فتصبح الأنف هُنا ناقلة لهذا العفن. هذا العفن الذي يجعل الأجساد تكره الأجساد، وتتمنى زوالها، أو حتى جوعها، ولذلك كانت الأجساد تحرص على تناول أطعمة معينة في أوقات مُحددة، حتى يتحكّموا في الساعة البيولوجية للتبرّز.
ومن ثم ينتقل حليم إلى الممارسة الجنّسية، كحاجة جسدية يفتقدها السجناء، ما يدفعهم إلى محاولة ممارسة أي أفعال لتعويض هذا الاحتياج.
يركّز أيضا حليم على تعامل السلطة مع الحاجة الجنّسية للأجساد السجينة لديها، حيث تعرف السلطة جيدا، مدى وجود هذا الاحتياج لديهم، ومن ثم تحاول ضبط وهندسة وعقاب الممارسة الجنّسية التي يفعلها السجناء، إن وُجدتْ.
ويسرد حليم تفاصيل كثيرة، لما يدور في ذهن السجناء، من إلحاحاتٍ وأفكارٍ تجاه الجسد واشتياقه إلى الجنس، ومدى تأثير هذا الافتقاد على التطبّع مع الحياة القهريّة (السجنِّية).
والأجساد حين تُفكّر في الانتحار والهروب والمُقاومة. التف عبد الحليم حول هذه الأفكار التي ما تدور في وجدان الأجساد السجينة، حيث الحياة الجحيمية، تجعلهم دائما يفكرون في التخلّص من أرواحهم، وتعطيل أجسادهم.
أجسادهم التي ومن خلالها تُمارس السُلطة عليها أدوات القهر والإخضاع. هنا يقف الجسد، حائرا وبشدّة، إنهاء مأساته عذاب نفسي، واستكمال هذه المأساة تآكل نفسي وجسدي، ومن هنا يبدأ التفكير.
ينجح الجسد (بطل الرواية) في إنهاء حياته، في نصف الرواية، ومن ثم يكمل حليم سرد بقية قصته، وكأنّه لم يمت، في دلالة واضحة أن الجسد هنا هو جسد جماعاتي، وليس جسد فردانيّ، يخص ذاته واسمه وفقط. جسد يُعاني، لأن الجميع يُعاني. جسد ليس سياسيا ولا جنائيا، جسد وفقط.
ويشرّح عبد الحليم، التفكير في المُقاومة، الهروب هنا جزء منها. يسرد بطابع أدبي، يلمّح فيه بِطابع بَحثي/فلسفي، كيف تأخذ السُلطة كافة إجراءاتها للحدّ من مُجرّد تفكير الأجساد السَجينة في المقاومة أو الاضطراب أو الهُروب.
يأخذ هنا العُمران والأجساد الحارسة للأجساد السَّجينة، دورا هاما ضمن أدوات السُلطة لتفكيك أفكار وممارسات المُقاومة. إذ ضخامة العُمران وبنيويّته شديدة الصلابة، مع الأجساد الضخمة والكثيرة التي تقف في كُل مكان لترى الجميع، هم أساس تفكيك سُبل المُقاومة، مع أدوات وممارسات أُخرى، تُجريها السُلطة دائما.
وبهذا تتبخر أي أفكار أو خطط لمقاومة الأجساد السَّجينة، وترى هذه الأجساد أن لا فِرار من هذه الحياة المُعذّبة، إلا بالموت.
يعطي عبد الحليم بصيصا من الأمل حين يُصوّب التفكير بشكل فردي، على الجسد السجين الذي يُنهي إجراءات خروجه من السجن، فيبدأ في تخيّل رجوعه مرة أُخرى، كإنسان يعيش وينام ويخرج فضلاته ويتكلم ويمارس كل حياته بشكل آدمي، يبدأ في أمل واستِرجاء التحول مرةً أُخرى، من نمط حياتي بدرجة دون الإنسانية إلى الإنسانية مرةً أُخرى.
لكن النجاة هُنا هي نجاة فردية وفقط، حيث يعطي حليم مشهدا ختاميا، وهو مشهد البداية ذاته، متمثلا في أجساد سجنّية جديدة تسلّمتها السُلطة وتضربها وتسبّها وتُفتّشها، وجسد آخر يخرج من السجن.
حث حليم على أن الجسد السجيني هو جسد جماعاتي، والجسد الخارج من السِّجنّية هو جسد فراداني.. أجساد راقصة هي رواية، بها سرد أدبي مُعمّق بالتحليل في مدى علاقاتيّة الجسد بالجسد، والجسد بالسُلطة.
هوامش:
الإيمائِـية، ولها أسماء ومصطلحات عدة، منها (السيميولوجيا/ Semiology، السيميوطيقا/ Semiotics، السيميائيات/ السيميائية/ السيمياء، علم العلامات/ العلاماتية، وعلم الرموز، علم الإشارات/ الإشاراتية، علم الأدلة/ الدلالية).
ونقصد بها هنا حركةَ الجسد ونمط اللغة داخل الفضاءات المُختلفة. وقد عـرَّفها العالمُ اللغوي السويسري فرديناند دي سوسير أنّها «دراسةُ حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية». للمزيد انـظر: سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1 سوريا 2012، ص 9