-1-
يفتتح يوسا روايته العظيمة بمشهد الزبالة في
ضواحي ليما، حيث يصور روتين حياته اليومية ككاتب روائي، ويختتمها بنفس المشهد. وفي
هذا رمزية واضحة المعالم تتخذ من الواقع المعاش لغة فجة، تغلف مقولة الكاتب ووجهات
نظره، وكأنه يضع هذه التحفة الروائية كاستعارة بين قوسين يضعان هذه السردية التي
يختلط فيها الخيال بالتاريخ أمام تحديات الواقع المعاش/ وقت كتابة
الرواية سنة
1982، حيث تبدأ سلسلة من الصراعات المسلحة في بلده البيرو وتمتد لسنة 2000.
يجيد هذا الكاتب لعبة التعاطي الخادع مع
التاريخ، وهو لمن خبر مغامراته الروائية أفضل من ابتدع هذه المحاورة الماكرة مع هذا
الصنم المصمت المسمى تاريخا، إذ يتلمس بعناية الخبير مفاصله الباردة ثم يلج إليها
محاورا ومجيدا في إعادة صياغة ما غمض منه، وهو ما يفتأ يذكرك بمناسبة ودون مناسبة، أنه
لا يكتب تاريخا، وإنما يستلهمه في صياغة رواية فيها الكثير من الخيال والقليل من
الأحداث التي حدثت بالفعل.
لماذا يلجأ روائي مثل يوسا إلى هذه الطريقة
في مناقشة قضايا محورية في التاريخ قررت مصائر بلد بأكمله، وبهذه الخفة التي تكاد
السخرية تنظم حباتها ويكاد الماضي يطوي صحائفه، هل يحاول إعادة صياغة الأحداث بأن
يكون جزءا محوريا منها؟
الطهرانية الثورية، هي جل ما يبحث عنها
الكاتب في شخصية مايتا. هذه الطهرانية التي نتوهم واثقين إمساكها في راحتينا، ثم
ما تلبث أن تتحول إلى محض سراب غير موجود إلا في خيالاتنا التي تنسج بفطرتها
المريضة بالكمال ومع ذلك، فهو
ما يلبث إلا أن يضعنا في مقام الحيرة الخابطة، مسلطا علينا شمس السؤال الحارقة، متوازنين من غير يقين ولا تأكيد.
بعد سلسلة من النهايات التي لا تليق ببطل
طهراني، سنظل نتساءل: هل كان مايتا مناضلا ثوريا منزوعا من أية نوازع غير ثورية، أم إنه مجرد لص سارق يمارس السطو المسلح على البنوك، ويقضي فترة حكمه مستكينا هادئا
ومتصالحا مع قدره؟ هل كان ساذجا غدره أصدقاؤه، أم إنه كان ثائرا حقيقيا خذلته
الظروف، ثم واصل حياته دون أن يرمش له جفن في تذكر ما مضى؟ هل المشكلة بالفكرة أم
بتداعياتها؟
في التاريخ الحديث للبيرو، فإن أليخاندرو
مايتا قام بتمرد على نطاق ضيق في منطقة خاوخا، ولم يكن معه سوى أربعة من الرجال
البالغين، وبضعة تلاميذ من المدرسة المحلية. كانت مجموعة من التروتسكيين
الشيوعيين، وسرعان ما تم القضاء على هذا التمرد بسهولة ويسر، وفي ظرف اثني عشر
ساعة، تم قتل اثنين من الثوار واعتقال الباقي. هذا التمرد لا يكاد يذكر في تاريخ
التمردات في البيرو تلك الفترة. يتتبع يوسا هذا التمرد ويناقش الأفكار
الشيوعية التي كانت سائدة في تلك الاثناء
حول الثورة والتغيير. هذه ببساطة خلطة يوسا الأولية لهذه الروايةن التي تتفرع
ويزداد حجمها فتصبح علامة بارزة في مشواره الروائي، ويتم قراءتها سياسيا من حيث
هجاء يوسا لتاريخه وللحركات اليسارية ومشروعها بشكل عام. وهذا ما يدعوه لأن يصرح
بأكثر من مقابلة بأن هذه الرواية هي أكثر كتاب له ظلم من ناحية القراءة المتعسفة
له.
ـ 2 ـ
بتاريخ 22 ـ 4 ـ 1987 وفي قرية صغيرة في
الجنوب الأردني، اسمها ذات رأس ضمن محافظة الكرك، كانت حشود من المناضلين الشيوعيين
الأردنيين تجتمع لدفن فتى نهاية العشرينيات، اسمه حمدان الهواري، ويبدو أننا سنعرف
فيما بعد أن القوم قد دفنوا أحلامهم الأممية ـ آنذاك ـ معه، تحت شجرة وارفة كان
يتفيأ ظلالها قبر والده المحامي من قبله.
حمدان الهواري، لدى البحث عن سيرته، سنجد
نزرا يسيرا من حياته الحقيقية والكثير من ظلاله وإشعاعه في كتابات من عاصروه، ويتأكد لدى المتتبع لأخباره أنه من أولئلك الثوريين الطهرانيين الذين عاشوا الحلم، وربما تجرعوا انكساره.
ظلال كثيرة وتأثيرات لا يمكن لنا تجاوزها، أدت بشاعر أردني كبير مثل حبيب الزيودي إلى تخليد ذكراه بقصيدتين، أولاهما بعد موت
حمدان بسنة (عام 1988)، والثانية قبل موت الشاعر نفسه بأشهر من عام
2012، وما بينهما الكثير من المقالات والأحاديث.
طالب في الجامعة الأردنية في أواخر
السبعينيات يؤسس حزب العمال الشيوعي الفلسطيني، فيحكم عليه بالسجن لمدة 10 سنوات، ثم في سجنه يغير رفاقه في الحزب البوصلة ويتقربون من حركة فتح، فيقرر الانتماء
للحزب الشيوعي الأردني، وفي آخر أيامه يصاب بمرض السرطان، فيخرج بعفو إنساني، وينتهي به المطاف مسجى في قريته الصغيرة في جنوب الأردن.
تنتهي به الأحلام الكبرى والجدوى خارجا من
سجن المحطة، ويترك رئته الممزقة للريح وللمراثي. هل خذله الرفاق، هل وشوا به، هل تركوه نهبا لأفكار تتنازعه حول الجدوى؟ أين كان يقف في لحظة خروجه من سجن
المحطة؟ هل تقاسم رفاقه مخصصات وزارة الداخلية في دعمها للأحزاب المرخصة بعد موته
بعام، في ظل الانفتاح الديمقراطي الذي شهده الأردن؟ ماذا كان سيقول لو أنه شهد
تجمع القوى اليسارية المدعوم من الحكومة؟ هل كان لابد له من الموت ببساطة لأن
النظام العالمي الجديد بعد 1991 لا يمكن له استيعاب الطهرانيين.، أم إنه كان مجرد
طالب جامعي تمور في رأسه كل طواحين الأردن التي ظلت تستجدي الرياح؟
ستظل الأسئلة التي طرحها يوسا في روايته
تلاحق كل الثوار الطهرانيين، منذ الحسين عليه السلام وحتى حمدان الهواري. ولكن، من يجرؤ على هذا الطرح سوى كاتب كبير مثل يوسا لا يأبه للتابوهات؟