هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
"سأستوقفُكَ لأُشهدَكَ على العهدِ الذي قطعتُهُ على نفسي بأن أظلَّ في خدمة من شُرِّدْتُ معهم، وأصابني ما أصابهم، وسيظلّ شعري صورةً صحيحةً لآلامِهم وآمالِهم.. فَأَلَمُهُم مُلْهِمي، وأَمَلُهم قُوّتي..".
هذه الكلمات من مقدمة ديوان "صوت الجياع" للشاعر خليل زقطان، الذي استمدّ ديوانه الأول من بؤسِ حياته وحياة اللاجئين في المخيم. لم ينصفه المجتمع الثقافي ولا إعلامه، رغم قصائدة الجميلة التي يصور فيها جوانب عديدة من وحي النكبة التي عايشها حين طُرد من قريته (زكريا)، ويعبر عن اللاجئين ومشاعرهم وجراحاتهم وعلى الحياة التي يعيشون بها، ديوانٌ في أوائل الخمسينيات حمل رسالة اللاجئين في مخيمات الشتات الفلسطيني برفض البؤس والإصرار على العودة. فهو شهادة تاريخية عن جريمة الحرب الكبرى التي ارتكبت في فلسطين على يد الاحتلال وأعوانه.
كان "صوتُ الجياع" صرخةَ اللاجئين الذين لم ينسوا بلادهم رغم البؤس، ودعا للثورة فيه موجهاً رسالة واضحة:
لمن يهمّه الكلامْ..
رسالةٌ من الخيامْ..
تهزُّ، تفضحُ النِّيامْ..
ومخفضي الرؤوس كالنَّعامْ..
أعلن شاعرُنا لهم كلاجئٍ رفضَه للتحلي بالصبر على اعتداءات الاحتلال، فيقول:
يا كونُ يا تجّارَ مجزرتي
عشرون عاماً حَسبُكُمْ
يا رهطَ "ضبط النّفس"
ويا أسبابَ قَتْلي
في مسرحي هذا التَّسَلِّي
أحسدُكم على هذا "التحلَّي"
وفضحهم عندما كتب "الخطّة المتوحّشة"، التي قال فيها:
هي خطة وحشية لا ترفقً .. الغرب واضعُها وقومُك طبّقوا
هي نكبة رقصت على أشلائها .. كفُّ المطامع وانبرت تتصدقُ
هذي الأكفّ غدت لنا معروفةً .. كفٌ مصافحةٌ وأخرى تخنق
برع الحليف بفنّه، فمدمراً .. حيناً، وحيناً آسِياً يترفقُ
يا أمةَ الشهداءِ حسبكِ ساسةً .. ما حلَّ خطبٌ فيكِ إلا أبرقوا
غُضوا العيونَ فَهذه أشلاؤنا .. وإذا مررتم بالخيام فأطرقوا
يا أمتي أو يا بقايا أمتي .. إن الزعامةَ أهلها قد أخفقوا
فمن هو شاعرنا؟
ولد الشاعر خليل زقطان عام 1928 في قرية "زكريا" قضاء الخليل.. وعاش حياته يتيماً منذ الصِّغر، وتلقى تعليمه حتى الصّفّ السادس في مدرسة القرية، المكوّنة من غرفتين.. وظهرت موهبته الشعرية مبكّرة، في سن الثالثة عشرة.. كان ذكيّاً، خفيف الرّوح، سريع البديهة، حسن المعشر.
برز اسمه قبل النكبة، حين شارك في مؤتمرٍ نُظّم لإحباط عملية بيع الأراضي في قرية عجّور، فألقى قصيدةً رحب فيها بالمشاركين، ومنهم أحمد حلمي باشا (الشاعر والسياسي والاقتصادي، ورئيس حكومة عموم فلسطين لاحقاً)، الذي أعجبته القصيدة ووعده بوظيفة في بنك الأمّة في الرملة، وبقي في وظيفته هذه حتى سقوط الرملة في يد العدو عام 1948، فنزح واستقرّ في مخيم الفوّار.
وتفجرت موهبته الشّعرية بعد النكبة التي ألمّت بالشعب والوطن عام 1948 من قلب أزقة المخيم، حين أصبح أحد اللاجئين في هذه المخيمات. فكان شاعراً ملتزماً هموم شعبه ووطنه وقومه وهموم الإنسان التزاماً ذاتياً فردياً قبل أن ينطلق إلى التأثير الجماعي الخارجي.
بعد النكبة عمل مدرّساً ثم مديراً للمدرسة، فمديراً لمركز التربية الأساسية في مخيّمات اللاجئين في عمّان، واستقرّ في مخيّم الكرامة إلى سنة 1967، نزح بعدها إلى جبل التاج في عمّان، ثم استقرّ في الرصيفة، وتوفي هناك عن عمر 52 سنة، في مثل هذه الأيام 3-6-1980 أثناء إلقائه كلمة في أحد الاحتفالات.
كان من مؤسّسي الاّتحاد العام للكتّاب والصحفيّين الفلسطينيين. ونال وسام القدس عام 1990 تكريماً لشعره الوطني.
مؤلفاته
- ديوان "صوت الجياع"، مطبعة دار الأيتام الإسلامية، القدس، 1953.
- "رسالة إلى آيزنهاور" (قصيدة طويلة).
- "خليل زقطان: الأعمال الشعريّة غير المنشورة"، جمع وتحقيق زياد أبو لبن، دار الكرمل، عمّان، 1995.
أما أعماله المفقودة فهي:
ديوان "صور من فلسطين"، ديوان "قصر الكوخ"، وديوان "على الدرب" الذي اختفى من المطبعة، ولك أن تتخيل حسرته على قصائده التي احتارها ونقّحها وتابع طباعتها.
وكتب ملحمة شعرية عن حرب فييتنام عام 1956، ومسرحية شعرية عن حرب تحرير الجزائر.
قصيدة:
مَن نُؤبِّن
يا صاحبَ الدربِ من منّا الذي ذهبا .. من ماتَ في السجنِ؟ أم من ضاعَ مُغترِبا
ومن نؤبّنُ؟ تاهتْ كلُّ قافيةٍ .. وضيّعَ الدربُ من غنّى ومن نَدَبا
كلُّ الكؤوسِ تعاطَينا مذاقتَها .. وليس فرقاً أسُؤْراً دُرنَ أم صَبَبا؟
لم يبقَ شيءٌ من الدنيا فنخسرُهُ .. إلا الدمَ الحرَّ نعطيه إذا طُلبا
وكلُّ كلُّ دروبِ الأرض تعرفنا .. طُلابَ حقٍ زرعنا فوقها النُصبا
كلُّ اللغاتِ حفظناها لنُسمِعها .. للناس - لكنّهُ - الصوتُ الذي غُلِبا
أكانَ في اللوح أن نُغضي على وَهنٍ؟ .. أستغفر اللهَ.. ما هذا الذي كُتِبا؟
لكنهم أهلُنا والنوم يأخذهم .. والخُلْفُ يجعلهم في دارهم "غُرَبا"
ونحن ندفع ـ تكفيراً ـ خطيئتَهم .. وإثمَ كلِّ خلاف بينهم نشبا
في السجن أنتم وفي المنفى بقيّتنا .. والموتُ بعضُ الذي في دربنا انْتَصَبا
فليهدأِ الغاصبُ المحتلُّ في وطني .. وليزرعِ السهل ورداً والربى عنبا
والقدسُ يجعلُها وجهاً لدولتهِ .. وليمخرِ البحرَ أنّى شاءَ أو رغبا
فريدُ.. واستوقفتني ألفُ خاطرةٍ .. ما قيمةُ الشعر بَكّاءً ومُنتحِبا
رصاصةٌ خلفَ سور القدس نُطلقها .. تُعادل الشعرَ والكتّاب والكُتُبا
أمام جرحك تجثو كلُّ ملحمةٍ .. وينتهي الشعر لا جاهاً ولا لقبا
وهبتَ عمركَ للأرض التي سُلِبتْ .. وهل أعزّ من العمر الذي وُهِبا
قضبانُ سجنكَ ما أخفَتْ تذمُّرَها .. وأنتَ تقضي.. وتقضي العمرَ مُنتصِبا
وظلَّ سجانُكَ الوحشيُّ مُرتجِفاً .. وأنتَ تبسمُ للموتِ الذي اقتربا
ما كان أهونَ أنْ تختارَ سانحةً .. للعيش رخواً ولكنّ الضمير أبى
وجَدتَ في البذل ما يُدني عروبتَنا .. من اللقاء وأغلى واجبٍ وجبا
دفعتَ للوحدةِ الكبرى ضريبتَها .. ما أروعَ البذلَ إنْ كانتْ لهُ سببا
فهل أُغنّيكَ أم أرثي الذين مضوا .. يستمرئونَ حياةَ الذلِّ مُنقلَبا
يكفي خصاماً ويكفي إننا مِزَقٌ .. يكفي الذي ضاع يكفينا الذي نُهِبا
تكفي الدروسُ التي مرّتْ على وطني .. عشرونَ عاماً وعشرٌ بعدها نُدبا
أقسمتُ لو أنهم هبّوا لنصرتنا .. صدقاً لما كان مُحتَلا ومُغتصِبا
أقسمتُ لو أنهم ثابوا لوحدتهم .. لحرّروها وظلوا دائماً عَرَباً