قضايا وآراء

بأي منطق "يعظنا" جمال مبارك؟

محمد ثابت
1300x600
1300x600
جدد حوار المستشار وزير العدل الأسبق أحمد مكي منذ أيام أسئلة مريرة خاصة بإطلالة جمال مبارك مخاطباً المصريين في فيديو للمرة الأولى بعد إزاحة أبيه عن الحكم في 11 من شباط/ فبراير 2011م. فقد برز الوريث الذي "كان" محتملاً لحكم مصر بالمرحلة الأولى من حكم أبيه؛ هذه المرة بعيداً عن السجون والإمساك بـ"المصحف الشريف" ومحاولة "ابتزاز" شفقة شعب أغلب شرفائه عانوا من فساد وتربح أبيه وكامل أسرته ومحيطيهم.. برز جمال في ثياب "الواعظين" منذ أيام، وبضغط من دولة خارجية على السلطات المصرية لنشر فيديو "محاضرته" باللغتين الإنجليزية والعربية لنفي أي تربح أو تكسب مالي لأسرته من استمرار أبيه لنحو 30 عاماً في حكم مصر.

وفي رده أفاض مكي في توضيح أن الدولة المصرية ليست إلا "نهيبة" منذ قبل عهد مبارك، وأن مسؤولين لا يتخيل أحد أنهم لصوص هربوا أموالاً لا يمكن حصرها للخارج، وأن اقتصاد دول عرفت باستقبال الأموال المشبوهة قائم على هذه "السرقات"، فكيف يعيدون الأموال بسهولة؟ وبالتالي فإنه سأل السفيرة الأمريكية السابقة آن باترسون عما نهبه مبارك فأقرت بـمليوني دولار "فحسب"، فلما قال لها إنه متهم بنهب 70 مليار دولار، أجابته بأن على "المصريين" أن يبحثوا بأنفسهم في الأمر!

ولعله من بسيط المسلمات أن المليونين التي أقرت بهما باترسون لمكي (حسب حواره مع موقع عربي21 في 30 من أيار/ مايو الماضي) ليسا إلا "حبة فكة" أو "مسح حلق" في تركة مبارك التي تركها لزوجته وابنيه علاء وجمال.

ولعل من الأسئلة البسيطة المريرة التي ثارت لدى كل مصري مخلص يعاني من وجوده في فترة بالغة الحساسية وانتشار الظلم في ربوع وطنه: بأي صفة يطل نجل مبارك على شعب مغلوب مقهور على أمره، يزيد من معاناته ووقوعه تحت قسوة حكم عسكري جديد أقوى وأكثر وحشية واستبداداً من عهد أبيه؟ ومن بقية الأسئلة الموازية والتائهة: هل يمثل ظهور جمال أو "جيمي" بحسب محبيه؛ "جس نبض" للمصريين من جانب دولة من أقوى الدول الداعمة لنظام الجنرال عبد الفتاح السيسي؟ وهل هناك تلويح بتغيير، ولو بنسبة ضئيلة، بحدوث انفراجة في مصر بإزاحة رأس النظام؟ ولماذا الآن تحديداً؟!

يمثل عدد المصريين اليوم قرابة ربع الأمة العربية خاصة مع إضافة المغتربين منهم، ورغم تاريخ التأثير المصري في المنطقة، ورغم افتراض تأصل الديمقراطية في مصر خاصة مع التقدم المعاصر الذي يحيط بالبشرية ويفترض أن يؤدي لتطور النظم السياسية، إلا أن الواقع يشهد إلى أن الكنانة تتأخر سياسياً بتقصير من أهلها المخلصين المفترض أنهم مقاومون ولو سلمياً للظلم ثم للتدخلات الخارجية المضنية. ويحزننا أن مصر التي كان من المفترض أن تظل في مقدمة صفوف الأمة دفاعاً عن قضاياها، ودفعاً للظلم عنها، ومناداة بعودة الاستقرار على جميع الأصعدة فيها، يؤلم ويضني أن القاهرة تعبت بل أُجهدتْ منذ أحداث تموز/ يوليو 1952م وحكم العسكريين لها.

ومن بعد الآمال المورقة في ثورة يناير 2011م جاءت الخيبة والانكسارات تترى حتى تمامها بوصول السيسي للحكم في حزيران/ يونيو 2014م؛ وعبر سلسلة من إراقة الدماء، فكان مجسداً لتمام فضاء الهزيمة الداخلية الذي ولد تجرؤا إثيوبيا غير مسبوق على النيل، وتفريطا مصريا بجزء من ترابها للسعودية، ومزيدا من تدخل للكيان الصهيوني في سيناء مع تهجير السيسي لطرف من أهلها، وتزايد الإرهاب على ترابها وإهدار المزيد من دماء أبنائنا الجنود الأبرياء البسطاء، بالإضافة لتزايد الديون والقهر والتسلط وإذلال المواطن بالغلاء الفاحش، وقمع أدنى قدر من حريته.. وكم من مصريين استشهدوا مقابل كلمة اعتراض على الجنرال فقط؟ مع توالد انقسام في المشهد الاجتماعي والنسيج الوطني بشكل حاد يزكيه السيسي أملاً في استمرار حكمه وبقائه.

وفي ظل هذا الغليان المكتوم داخل قرابة 104 ملايين مصري في الداخل، يعاني مناضلوهم وشرفاؤهم ومخلصوهم من المطاردات والملاحقات الأمنية، واستشراء الفساد، واشتعال متطلبات الحياة، مع تسطيح الخطاب الإعلامي الموجه إليهم، وإصرار حاكم قادم بقوة الرصاص والدبابة على سيناريو تقسيم أبناء الوطن الواحد ومحاولة إفناء المقاومين السلميين له، وتفننه في زيادة معاناة كل إنسان يمتلك نصيباً ولو قليلاً من العزة وحب الوطن.. في خضم ذلك كله خرج مبارك الابن بعد أكثر من عشر سنوات على ذهاب حلمه بحكم مصر، بل بعد أن أيقن أن رغبته المحمومة في الوصول للسلطة أودتْ بأبيه وأخرجته من الحكم، إذ اعترض الجيش على توريث مبارك الحكم لنجله الصغير المدني.

ورغم فشل جمال في الوصول إلى الحكم في ظل وجود أبيه، ثم العصف بهما معاً وبأخيه الكبير علاء، وتعرض ثلاثتهم للمحاكمات والسجن، وإدانتهم بحكم قضائي في 2016م، وافتضاح نهبهم لخيرات مصر وتحويلها لحسابات بالمليارات في بنوك خارجية، رغم سابق مماطلة المجلس العسكري الذي حكم بعد نجاح الثورة الأول، ثم تبديد نظام السيسي لفرصة استرداد أموال مصر التي نهبها مبارك وآل بيته المقربون، ورغم افتضاح الأمر عالمياً.. إلا أن الفتى المدلل المرفه المعتاد على باذخ الحياة والاستهتار بمقدرات البشر من حوله؛ لم يجد غضاضة في أن ينتهز فرصة وفاة حاكم الإمارات السابق الشيخ خليفة بن زايد في 13 من أيار/ مايو ليطلب من شقيقه الرئيس الحالي محمد بن زايد تقديم العزاء إليه.

ورغم أن محاولة سابقة له منذ نحو عامين لتقديم العزاء في الراحل أمير الكويت السابق صباح الأحمد الجابر، ورفض النظام خروجه، إلا أن الفتى المرفه لم يرعوِ وكرر المحاولة معتمداً هذه المرة على ما يبدو أنه دلال له على النظام الإماراتي، أو وجود سابق ترتيبات مسبقة لخروجه من مصر وتنفيذ سيناريو محكم لضغط إماراتي جديد للاستحواذ على مزيد من خيرات مصر وتهديد السيسي بخصم آخر، إن لم يلن أكثر ربما حتى كشف ورقة التوت!

إننا نشهد للأسف الشديد انحداراً غير مسبوق في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، وتدخلاً خارجياً غير معهود جعل ملايين المصريين يتشهون حكم الملكية بعد أن أذلهم العسكريون وأخرجوا أسوأ ما فيهم، حتى إن فريقاً من المصريين الموالين للسيسي يُذيقون أشرف أبناء الوطن آيات الذل والهوان، في ظل تراجع وتقاعس مرير من المقاومين الذين هربوا للخارج أملاً في إيجاد حل للمعاناة الداخلية. واستمرار الوضع العام في سياقه الحالي يؤذن بمزيد من الدمار والخراب لمصر، وتبدو البدائل التي يُضغط بها على النظام بالغة السطحية والاضمحلال، فنجل مبارك الأثير لنفسه كلف المصريين التضحية وإصابة عدة آلاف من خيرة أبنائهم لئلا يأتي للحكم.

إن الديمقراطية المزيفة التي أتت بالسيسي تبدو وصمة عار في جبين النظام العالمي الحالي بعد مشاهدته لبراكين من الدماء أسالهم وما يزال، وإن مبارك الصغير الذي يشب بعنقه من جديد لحكم مصر رغماً عن رغبة المصريين، وهو يلوح بانفراجة ترحمهم قليلاً من بطش السيسي يمثل ترجمة حرفية للمقولة العربية الشهيرة: "كالمستجير من الرمضاء بالنار"، فإن كانت مصر بخيراتها ومخلصي رجالها عزَّ عليها التصرف في لحظة مريرة من عمرها، فإن للأقدار وترتيباتها أبعاداً وتدخلات أخرى. وإن غداً لناظره لقريب، فإنا منتظرون أحداثاً لا يرتب لها أشرار وإنما يوفق إليها الأخيار وإن قلوا، تنجي مصر وتعين الأمة على نهضتها مجدداً!
التعليقات (0)