هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
راشد حسين وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران.. خمسة شعراء ملأوا الأرض المحتلة شعراً جميلاً جسّد آلام شعبنا في مناطق 1948 وآماله تحت الاحتلال.. ورغم عزلتهم والتعتيم الإعلامي عليهم، بدأت أشعارُهم مع انطلاقة الثورة الفلسطينية، تخرج من السجن الكبير إلى الوطن العربي الكبير فالتقط أشعارهم الأديب غسان كنفاني، وكتب عن شعرهم كتاب "الأدب الفلسطيني المقاوِم تحت الاحتلال". وكتب الشاعر يوسف الخطيب عنهم كتابه "ديوان الوطن المحتل".. وكُتِبت الأبحاث الكثيرة عنهم. وكانت الكتابةُ عنهم فعلَ مقاومة تُشبه تسريب رسائل ومعلومات عن سجناء في "الغيتو" المعزول.
اثنان من هؤلاء الخمسة غادروا الوطن المحتل، أحدهما (درويش) رتَّب مغادرته ترتيباً يضمن استمراريته ومكانته، والآخر (راشد) غادر فقط من أجل أن يغادر من تحت سطوة الاحتلال، ليقول كلمته بحريّة. رغم أن الأول نصحه بعدم المغادرة في ذلك الوقت المبكّر.
وكتب عن نيويورك وحيفا مقارنة جميلة:
أتيتُ الطبَّ في نيويورك
أطلبُ منهُ مستشفى
فقالوا: أنت مجنونٌ ولن تشفى
أمامَك جنَّةُ الدُّنيا
ولستَ ترى سوى حيفا
لا تبدأ الوطنية وتثبيت الهوية من العمل السياسي فقط، بل من شيء ما داخل الصدر، مصنوع من الجذور والتاريخ والمجتمع والأحاسيس والشعور بالحاجة النفسية لتحقيق الوجود الوطني (كان راشد حسين يعتمر الحطة والعقال في بداياته)، ثم تبدأ السياسة والعمل الحزبي. وهذا ما اختلف فيه راشد حسين عن زملائه في هذا التيار.
الشّعر المؤثر هو الشعرُ المعبّر عن بيئته والمحرك لها، ولطالما كنت أعتقد أن أشعار راشد حسين في مضامينها وتراكيبها الفني أقرب إليّ شخصياً (بعيداً عن التجاوزات الشرعية)، من أشعار بقية رفاقه الخمسة. فهو لم يغرق في الحزبية ولا الحداثة والرمزية المُغرقة ولا متطلبات الشهرة العالمية. بل انعكست حياته العامة في شعره، وانعكس شعره في حياته، فكان كما وصفه محمود درويش "النجم الذي يكتب عن أشياء بشرية كالخبز والجوع والغضب".
ورغم ذلك، لم يحظَ شاعرُنا باهتمام المؤسسة الرسمية الفلسطينية، رغم عمله في مؤسساتها، ولم يحظَ بما حظي به غيره عنما غادر الوطن المحتل. فعاش غريباً غارقاً في متاهاته، مدمناً تصدر عنه غضبات ألحقت به الأذى والعزلة.
فمن هو شاعرنا؟
راشد حسين اغبارية، شاعر وخطيب وصحفي فلسطيني ومترجم من العبرية إلى العربية وبالعكس. وُلد في 28/12/1936 في قرية مصمص شمال فلسطين باسم حاتم حسين، ولكنه سُجّل خطأً باسم راشد، وتوفي عام 1977 إثر حريق في شقته في مدينة نيويورك.
التحق بمدرسة ابتدائية في بلدة أم الفحم القريبة من قريته. وتلقى تعليمه في مدينة الناصرة وتخرج منها في مدرسة الناصرة الثانوية. وصف حسين نفسه بأنه "مسلم متراخي"، كتب مرة في عام 1961: "أنا لا أصلي ولا أذهب إلى المسجد وأنا أعلم أنني بهذا أعصي إرادة الله.. الآلاف من الناس مثلي يتراخون في تنفيذ الوصايا الإلهية. لكن هؤلاء الآلاف العصاة لم يسكتوا عما سكت عليه قضاتنا الأتقياء الذين يصلون ويصومون".
في عام 1955 عمل في الناصرة مدرساً لفقراء الريف في غرف مدرسية متداعية تفتقر إلى الكتب المدرسية الكافية. واختلف بشكل دائم مع المشرفين الصهاينة على التعليم العربي في مدينة الناصرة التي كانت تُعدّ مركزَ نشاط حيوياً بين فلسطينيي الداخل.
في هذه المرحلة بدأ راشد يكتب أشعاره، وأصبح مشهوراً بين زملائه، وأصدر ديوانه الأول عام 1957، وكان يلقي أشعاره على قارعة الطريق وفي المقاهي والساحات والتجمعات الوطنية، وأصبحت أشعاره جزءاً من هموم الناس. فكان جمهوره كلَّ شعبه الذي كان يردد أشعاره في المظاهرات، فأصبحت قصائده حجارةً تقاوم بأيدي الجماهير، حتى أصبح راشد سيد المنابر في أواخر الخمسينيات. وأصبح شاعر الساحة الفلسطينية الأول في الداخل الفلسطيني.
في عام 1958، أصبح المحرر الأدبي لصحيفة "الفجر"، وهي صحيفة شهرية تصدر باللغة العربية تابعة لاتحاد عمال هستدروت، وكذلك لصحيفة "المصور" الأسبوعية.
في ذلك الوقت، وصفه الناقد اليهودي العراقي إلياهو خزوم بأنه "أكثر شاعر عربي واعد في إسرائيل"، و"الوحيد المهتم بدراسة اللغة العبرية" وقال أنه قد فاجأ جمهور الكتاب اليهود والعرب بـ "تلاوته قصيدته الأولى التي كتبها بالعبرية".
وقال عنه مراسل صحيفة (هاعولام هازي) الذي غطى أخبار اجتماع المثقفين العرب في كانون الثاني 1958 في الناصرة أنه شهد حدثاً فذاً، شهد شاباً قروياً يلبس كوفيةً وقد ألقى قصيدة ألهبت حماسة الجميع، وأن ذلك الصبي شاعر حقيقي، وهو أول شاعر يولد بين العرب في البلاد واسمه "راشد حسين".
بحلول عام 1959، كان قد ترجم العديد من القصائد العربية إلى العبرية والعكس، كما ترجم أعمال الشاعر الألماني بيرتولت بريخت والشاعر التركي ناظم حكمت والزعيم الكونغولي باتريس لومومبا وأحد الشعراء الفرس إلى العربية.
الشاعر راشد حسين يلقي بعض قصائده
شارك حسين في تأسيس "حركة الأرض". وفي عام 1962، طُرد حسين من حزب "مابام" اليساري، بسبب نزعته القومية العربية.
في عام 1965، غادر الأرض المحتلة إلى باريس، وبعد ذلك بعامين، أصبح عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية، وعمل في مكتبها بمدينة نيويورك، حيث عمل مترجماً عبرياً ـ عربياً. انتقل إلى دمشق بعد أربع سنوات. في عام 1973، عمل مذيعًا في برنامج اللغة العبرية التابع لخدمة الإذاعة السورية. في أواخر السبعينيات، عاد إلى نيويورك ليعمل مراسلاً لمنظمة التحرير الفلسطينية لدى الأمم المتحدة.
أبرز نشاطاته الإعلامية كانت في الأوساط الجامعية الأمريكية، حيث شارك في كثير من الندوات والسجالات حول القضية الفلسطينية. وكان هذا كما يبدو هو أخطر نشاطاته في نظر السلطة الصهيونية حينما سحبت منه الجنسية الإسرائيلية ومُنع من زيارة أهله.
كما شارك حسين في تأسيس مؤسسة الدراسات الفلسطينية. ومُنح اسمُه وسام القدس للثقافة والفنون والآداب في عام 1990.
ضريح الشاعر راشد حسين
كانت أعماله الأولى ذات خصائص عربية كلاسيكية صارمة، لكنه تدريجياً امتلك مزيداً من الحرية في استخدامه للأوزان الكلاسيكية وأصبح شعره أكثر هزلية. واستخدم في نثره روح الكوميديا السوداء التقليدية في وصفه لمعاناة فلسطينيي الداخل.
أعماله الشعرية
ـ "مع الفجر"، 1957. "صواريخ"، 1958. "أنا الأرض، لا تحرميني المطر"، 1976.
ـ كتاب الشعر الثاني: يضم المجموعتين الأولى والثانية، 1978.
ـ "قصائد فلسطينية"، 1980. ديوان راشد حسين، الأعمال الشعرية الكاملة، 1999.
وله عدد من الكتب النثرية والمقالات المنشورة، والكتب المترجمة عن العبرية والإنجليزية.
نماذج من أشعاره
ضد
ضدّ أن يجرح ثوار بلادي سنبلة
ضدّ أن يحمل طفل - أي طفل - قنبلة
ضد أن تدرس أختي عضلات البندقية
ضد ما شئتم.... ولكن
ما الذي يصنعه حتى نبيٌّ أو نبية
حينما تشرب عينيه وعينيها
خيولُ القتلة
ضد أن يصبح طفلٌ بطلاً في العاشرة
ضد أن يثمر ألغاماً فؤادُ الشجرة
ضد أن تصبح أغصانُ بساتيني مشانق
ضد تحويل حياضِ الوردِ في أرضي مشانق
ضد ما شئتم... ولكن
بعد إحراق بلادي
ورفاقي
وشبابي..
كيف لا تصبح أشعاري بنادق
قالت
قالت: "أخاف عليكَ السجن"، قلت لها
من أجل شعبي.. ظلام السجنِ يُلتَحَفُ
لو يَقصُرون الذي في السجن من غرفٍ
على اللصوص.. لَهَدَّت نفسَها الغُرفُ
قالت: "حلمتُ بطفل لا أريد له
أباً سجيناً".. فقلتُ "الحلم يعتكفُ
أتحملين بطفلٍ قلبُ والده
عبدٌ؟.. أعيذُك مِن عبد له خلفُ"
*كاتب وشاعر فلسطيني