قضايا وآراء

دفاعا عن السردية الإصلاحية ما بعد النيوليبرالية.. لأجل منظومة دعم عادلة ومنصفة

عصام الدين الراجحي
1300x600
1300x600

"«There is an alternative"

 

منذ سنوات ومع إطلاقة سيرورة الثورة التونسية، وُضع على جدول أعمال جل الفاعلين الاجتماعيين نقاش متواصل حول الخطوط العريضة لضبط الحد الأدنى من قاعدة المساواة والكرامة والإنصاف في السياسات العمومية.

هو اليوم أكثر من أي وقت مضى، يراوح مكانه وسط صدى الهتافات الصاخبة التي عبر عنها الشعب التونسي على نطاق أوسع في جميع الاحتجاجات والحراك الشعبي دفاعا على تحقيق العدالة الاجتماعية، في مقابل صمت مريب ورغبة جامحة من الممسكين بالسلطة لإحداث تغيير راديكالي للإنفاق وللسياسات الاجتماعية؛ بحجة أن التحولات الحادة في السياسة والاقتصاد، أدت إلى إجهاد البرامج الاجتماعية الحالية وتفاقم ضغوطها المالية، في ظل العجز المتواصل.

لقد أدى الأمل المتجدد في دولة رفاه اجتماعية بُعيد كانون الثاني/ يناير 2011 إلى المطالبة دوما بإصلاحات شاملة وفعالة للسياسة العمومية، رغم التوجس من النتائج اليمينية للصندوق، خصوصا أنه من المستحيل فصل السياسات الاجتماعية عن هوية المؤسسات السياسية. ومن المناسب أن نُسائل ونتساءل: كيف تعاملت هذه المؤسسات مع قضايا عدم المساواة الاجتماعية منذ تشكيل أول حكومة منتخبة وحتى بُعيد انقلاب 25 تموز/ يوليو؟

لن نبحث كثيرا، فسيظهر أمامنا جليا تفاقم الفوارق الجهوية، خصوصا وقد أخفقت جل السياسات التي طُبِّقت من قبل الحكومات المتتالية في تحقيق العدالة الاجتماعية، وكشفت عن وجود هوّة ساحقة بين العمل الحكومي وقضايا الفئات الهشة والمحدودة الدخل والجهات الداخلية والأحياء الشعبية، رغم الترويج الدائم أن المسألة الاجتماعية هي جوهر الانتقال الديمقراطي.

أما في ظل النظام الخامس والعشرين من تموز/ يوليو، فمرسوم المالية لسنة 2022 يبيّن وبالملموس التضارب الفاضح والانفصال الحاد بين القول السياسي لسعيّد وفعله الاقتصادي والاجتماعي، فلا رمزياته ولا سردياته حُولت إلى قرارات عملية تقطع مع التوجهات النيوليبرالية، بل كما عوّدنا دائما بقيت ثرثرة فراغ.

1- ملف مستعجل: منظومة الدعم في تونس

يجزم الكثير من المتابعين بأن أولى الملفات المطروحة للحسم النهائي ضمن خطط الإصلاح الهيكلي المفروض من صندوق النقد الدولي سيكون منظومة الدعم، خصوصا أن الوصفة جاهزة وتسوّق في الإعلام والمؤسسات ذات الصلة. ففي الوقت الذي يشكو فيه جل التونسيين من اهتراء قدرتهم الشرائية وغلاء المعيشة، يدفع عرابو السلطة نحو مراجعة الإنفاق الاجتماعي، وتدور الكثير من السرديات حول التعويض والدعم دون معرفة دقيقة بتفاصيله، أو حتى تبيان هيكلته ونشأته وأهدافه.

تأسس الصندوق العام للتعويض، الذي يتعرض رأسا لعملية شيطنة من سياسيين في الداخل ومن هيئات مالية دولية، في أربعينيات القرن الماضي بموجب مرسوم صادر عن الباي في 28 حزيران/ يونيو 1945، وتمت هيكلته كصندوق خاص للخزينة بداية من سنة 1967 ومن ثم إدماجه في ميزانية الدولة سنة 1971، بهدف إرساء مخطط لدعم القدرة الشرائية للمواطنين، لا سيما ما يتعلق بالمواد الأساسية والتخفيف من وطأة تقلبات الأسعار العالمية وتشجيع الإنتاج الوطني، خاصة من الحبوب والحليب.

وفي أوائل التسعينيات، اقتصر دعم المواد الغذائية على المنتجات الأساسية التي تستهلكها الفئات ذات الدخل المنخفض، وهي التي يغطيها برنامج الدعم الحالي المحدّث في كانون الأول/ ديسمبر 2010 من الحبوب (القمح الصلب والقمح الكامل والشعير والذرة ومنتجاتها من العجين الغذائي والكسكسي والخبز والسميد)، والحليب نصف دسم والسكر والطماطم المعلبة وزيت الطبخ النباتي (زيت الحاكم)، يضاف إليها منتج آخر هو الورق المعد لطباعة الكراس والكتاب المدرسي.

ويتولى الصندوق مسؤولية التصرف وإدارة الدعم عبر متابعة بيع السلع المحلية أو المستوردة بأسعار محددة بأقل من تكاليف الإنتاج أو الاستيراد، لذلك فإن دعم هذه المواد الغذائية يشكل تخفيضات في الأسعار يستفيد منها المستهلكون بشكل مباشر، ويحوّل الفرق بين التكلفة الفعلية للإنتاج أو الاستيراد إلى المصنعين والمستوردين.

ولكن منظومة الدعم لا تقتصر على هذا الصندوق، فهي تتوزع إلى ثلاثة أنظمة مختلفة ومستقلة  بعضها عن بعض: الصندوق العام للتعويض سابق الذكر، دعم الطاقة ودعم قطاع النقل العمومي.

وتقدّر نفقاتها في ميزانية السنة الجارية (2022) بـ3771 مليون دينار مُخصصة لدعم المواد الأساسية، وبمبلغ قيمته 600 مليون دينار لدعم النقل العمومي بعنوان دعم النقل المدرس والجامعي والنقل بتعريفات منخفضة، وكذلك النقل المجاني لبعض الفئات الخصوصيّة والأسلاك النشيطة، فيما خُصص مبلغ 7262 مليون دينار لدعم المحروقات، التي يبدو أن معظمها لتقديم الإعانة للشركات العمومية الثلاث التي تركز أنشطتها على قطاع الطاقة ("STEG" و"ETAP" و"STIR").

2- على أبواب تغيير جذري؟

تتحجج جل التقارير الصادرة عن الهيئات المالية الدولية بأن الأسر ذات الدخل الأعلى في تونس، تستفيد على وجه الخصوص من دعم المواد الغذائية بما يقرب من أربعة أضعاف ما تستفيده الأسر ذات الدخل المنخفض. وبالمثل، تستفيد الأسر ذات الدخل الأعلى من دعم منتجات الطاقة بما يقرب من 40 مرة أكثر من الأسر ذات الدخل المنخفض.

وتقدّر أن وصفتها لتعديل نظام الدعم الحالي في تونس سيخفض التكاليف المالية ويحمي الفقراء بشكل أفضل، عبر الإلغاء التدريجي لدعم الأسعار المعمم وإنشاء شبكات أمان اجتماعي، وإنشاء نظام التحويلات المباشرة لصالح الأسر أو الأفراد الفقراء، وأن ذلك من شأنه أن يوفر حماية أفضل للمحتاجين. بالإضافة إلى ذلك، سيقلل من نفقات ميزانية الدولة ويحرر مواردها، وهو الهدف الأصلي من الموضوع.

وهذا طرح ينفيه الباحث في الاقتصاد السياسي محمد ضياء الهمامي الذي استند في مقال في الغرض لدراسة حول توزيع الدعم في الصندوق العام للتعويض، صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء (INS) ومركز البحوث والدراسات الاجتماعية (CRES) والبنك الأفريقي للتنمية (BAD)، تضمّنت المعدّلات السنويّة للدعم للفرد الواحد بالدينار حسب الفئة الاجتماعيّة للسكان، وأسقط السردية الملفقة من انتفاع الأسر الميسورة أربع مرات أضعاف انتفاع الأسر الأقلّ دخلا بمنظومة الدعم. فالفرق لا يتجاوز 21,9 دينارا سنويا، وهذا يعادل ربع الدعم التي تستفيد منه الأسر الميسورة خلال سنة كاملة، وهي التي تدفع ما أدناه 200 دينار سنويا إلى الصندوق العام للتعويض كضريبة 1 في المائة على الدخل، وتشمل من تتجاوز مجموع مرتّباتهم السنويّة 20 ألف دينار؟ وبذلك تغطّي الضريبة انتفاعهم بالدعم، فهل ما يزال بوسعنا القول إن هذه الأسر تنتفع بالدعم؟ أو أن الطبقة المتوسطة كذلك معنية بالإسقاط من هذا الامتياز؟

الظاهر أن سياسة الدعم وآلياته تتجه نحو تغيير جذري عبر فرض النظام المستقبلي لتحويل مبالغ ثابتة بصفة سنوية مباشرة بعد إطلاق برنامج المعرف الوحيد استعجالا. وستقتصر المنح حصرا على العائلات المعوزة وبدرجة أقل المحدودة الدخل، فيما ستتضرر باقي الفئات من هذا التغيير لحاجة الحكومة خفض الإنفاق الاجتماعي.

3- حجم الهشاشة الاجتماعية

تونس التي تعاني الهشاشة الاجتماعية الحادة مع تداعيات أزمة كوفيد وتبعاتها، من تقلص النمو الاقتصادي وانهيار المنظومة الصحية، تبدو السلطة القائمة فيها منذ سنوات غير معنيّة بالارتدادات العنيفة للوضع الاقتصادي الراهن على الطبقة الوسطى وعلى الفئات الاجتماعيّة الأكثر هشاشة. فالمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، أكد في دراسة أعدها منذ فترة أن نسبة الطبقة الوسطى تراجعت في تونس من 70 في المئة عام 2010 إلى 55 في المئة عام 2015، لتصل عام 2018 إلى حدود 50 في المئة، والرقم في ازدياد بخاصة بعد جائحة كورونا.

وتطالعنا دراسة نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان "سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا: الخوف، الهشاشة، الانتظارات"، أن حجم الهشاشة الاجتماعية في تونس في تزايد مطرد، حيث تشير الأرقام الرسمية إلى أن الطبقة ضعيفة الدخل والمحدودة والعائلات المعوزة تتجاوز المليون عائلة، حسب الأرقام الرسمية الصادرة في كانون الأول/ ديسمبر 2021، حيث تشير تقارير وزارة الشؤون الاجتماعية إلى أن عدد العائلات المعوزة والمنتفعة بالعلاج مجاني والمنحة (200 دينار) يقدر بـ310 آلاف عائلة، تضاف لها العائلات ضعيفة الدخل المنتفعة فقط بعلاج التعريفة المنخفضة، وعددها 630 ألف عائلة، إضافة إلى العائلة المنتفعة بجراية تقاعد لا تتجاوز 180 دينارا، وعدد حوالي 140 الف عائلة في معدل لهذه العائلات يفوق 3 أفراد فما فوق، لنتحدث من ثم عن حصيلة تتراوح بين ثلاثة ملايين ونيف إلى أربعة ملايين فرد يعانون من الهشاشة الاجتماعية، ومقبلين على سنوات ضنك؛ يمثّل فيها التضخم المطرد وغلاء الأسعار العنوان الأبرز للمرحلة والكابوس اليوميّ للمواطن.

هذه الأرقام لا تختلف كثيرا عن نسبة مؤشر الفقر متعدد الأبعاد التي توصّلت إليها دراسة رسمية ظلت مخفية في أروقة المعهد الوطني للإحصاء، وعرضت في ندوة دولية حول موضوع الفقر متعدد الأبعاد في مدينة "أكابولكو" بالمكسيك يومي 8 و9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، وشارك فيها لطفي فرادي، رئيس هيئة التوازنات الكبرى والإحصاء بوزارة التنمية، ومحمد الهادي السعيدي، مدير المعهد الوطني للإحصاء، وأشارت إلى نسبة فقر وطنية بتونس بـ28,97 في المائة، يأخذ فيها هذا المؤشر بعين الاعتبار أربعة أبعاد، تتمثل في الصحة والتعليم والشغل وظروف العيش.

ومع وجود أكثر من مليوني شخص يعملون خارج المسالك القانونية كمهن حرة ولا يتمتعون بالتغطية الاجتماعية، تتوسع قاعدة الهشاشة الاجتماعية لتضاف لها أرقام العاطلين عن العمل التي تقارب 700 ألف، أو العاملين في الحضائر الجهوية، ممن يتقاضون منحة زهيدة تقارب 350 دينارا شهريا.

ولا يمثل هذا الرقم استثناء، فالأرقام المتوفرة حول متوسط الأجور في الدول العربية (مؤشر numbeo للأرقام)، تشير إلى أن متوسط الأجر في تونس سنة 2018 يقدر بنحو 286 دولارا، وتأتي أسفل الترتيب إلى جانب كل من سوريا التي تعيش حربا، ومصر التي يفوق عدد السكان فيها 100 مليون نسمة، بل حتى أجور الوظيفة العمومية في تونس، تعتبر من أضعف الأجور وأزهدها في المنطقة وفي البحر الأبيض المتوسط.

الأرقام الصادمة متتالية، فوفقا لنتائج المشروع النموذجي "ميزانية الكرامة في تونس" الذي أُعدّ بالاشتراك بين أنتارناشيونال آلارت ومعهد الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بفرنسا ومؤسسة فريدريش ايبرت- مكتب تونس، كُشف أن ما بين 40 و50 في المائة من سكان تونس الكبرى يفتقرون إلى الموارد اللازمة لضمان ظروف معيشية كريمة، وغير قادرين على الولوج إلى الاحتياجات الضرورية، فكيف الحال مع الهوامش والدواخل؟! كما أظهرت نتائج المشروع الصادر أواخر سنة 2021، أن كُلفة السلةِ الدنيا لضمان عيش كريم لعائلة تتكون من أربعة أفراد، قٌدر بدخل شهري بـ2466 دينارا بناء على الأسعارِ المتداولة ربيع 2019، وذلك لضمان الحصول على الاحتياجات الضرورية، وهي التغذية والسكن والتعليم والصحة والخدمات وغيرها.

إذن، بقدر ما تنمو ظواهر الفقر والتهميش من سياسات اقتصادية غير إنتاجية يقوم منها الاقتصاد الطفيلي والريعي مقام الأس، فهي تتغذى في الوقت عينه من سياسات غير عادلة في توزيع الثروة، فلا عجب أن مجتمعا يُلقي التهميش الاجتماعي فيه بكلكله على فئات واسعة من الشعب، وينخر الفقر والحرمان أكثر من نصف سكانه، هو مجتمع مقصي، موضوعيا، من دائرة الشأن العام، وبعيد من ميدان المشاركة والانتماء والمواطنة الإيجابية.

4- عيوب لا يمكن إنكارها

أصبح النقاش المتكرر اليوم حول التعويض أكثر حدة ويمثل معضلة يتعين حلها، من جهة بالنظر إلى نصيبها الكبير في ميزانية الدولة وضرورة معرفة أين تذهب أوجه صرفها الحقيقية، وكذلك الدور الذي يؤديه في ضبط الأسعار والحفاظ على السلم الاجتماعي.

فقد أدى الارتفاع الكبير في أسعار المنتجات المدعمة وموادها الأولية في الأسواق الدولية إلى ارتفاع كلفة الشراءات والنقل البحري ومكوث الحاويات في الميناء والخزن، وإلى حدوث انفجار في نفقات الدعم، أيضا تسارع الآثار الضارة المرتبطة بسوء الإدارة من قبل وزارة التجارة على مدى سنوات (ضعف الحوكمة والرقابة، سطوة اللوبيات، مأزق التبذير والتبديد، تحويل الوجهة والتهريب)، فكان الرد السريع الضغط داخليا وخارجيا لإعادة النظر في تكاليف الإنتاج والتوزيع لمختلف المنتجات المدعومة، والدفع نحو الترفيع التدريجي في الأسعار، دون أن تقوم الحكومة بواجبها في تكثيف المجهودات في مجال مراقبة تجارة المواد المدعمة بمختلف المسالك، وبخاصة تجارة التوزيع والجملة، وكذلك المطاحن ومصانع العجين الغذائي ومؤسّسات تعليب الزيت النباتي المدعم، رغم وضوح المبادلات غير المنظمة والعمليات الاحتكارية في عنوان هذه المواد، علاوة على تحويل وجهة كميات كبيرة من المنتجات المدعمة لصالح الصناعيين (إشباع احتياجاتهم من المواد الأساسية: الدقيق والزيت والسكر) ومقدمي الخدمات (أصحاب النزل والمطاعم) والمهربين نحو ليبيا والجزائر.

كما أن التبذير الغذائي وانعكاسه لا يمكن غض الطرف عنه، فبقايا الطعام والمأكولات في سلة المهملات لا تقتصر فقط على شهر رمضان، بل أصبحت ثقافة استهلاكية سيئة متأصلة تساهم في اختلال موازنات الصندوق، جراء الاعتماد على استيراد المنتجات المدعمة (بين 75 في المائة و100 في المائة من الزيوت والحبوب والسكر وما إلى ذلك)، فالدولة تستورد 80 في المائة من احتياجاتها من القمح الليّن، أي أن أربع باقات من خمس مستوردة، وتمثل واردات الحبوب وحدها 51 في المائة من وارداتنا الغذائية، حسب دراسة أعدها المعهد الوطني للاستهلاك، وتوضح أن تونس تحتل المراتب الأولى عالميا في استهلاك الحبوب، لتنفق حوالي 35 مليون دينار سنويا على الخبز الذي تُلقي منه حسب بعض الأرقام 900 ألف خبزة يوميا في سلة المهملات؛ يعاد بيع جزء منها في أكياس لمربي المواشي المختصين في التسمين.

المفارقة أن المعهد الوطني للاستهلاك أشار منذ سنوات إلى أحد التقارير الصادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة حول الأمن الغذائي والتغذية في العالم (أيلول/ سبتمبر 2017). وحسب هذا التقرير، فإن حوالي 600 ألف تونسي لا يتغذون بالكيفية والكمية اللازمتين (sous-alimentés)، وهو ما يمثل 4.9 في المائة من السكان (إن لم يكن أكثر اليوم).

لقد بات من الضروري حوكمة منظومة الدعم، ولكن من ناحية أخرى سيكون من الصعب للغاية تنفيذ إلغاء مفاجئ لجميع أشكال الدعم التقليدية؛ لأنه من وجهة النظر الاجتماعية موضوع متفجر والحلول الجاهزة تقشفية، فحفاظا على مصالح الرأسمال الغنائمي ولوبيات الفساد والتهرّب الضريبي والاقتصاد الموازي، تحمّل الحكومات كلفة الخيارات اللاعادلة واللاشعبية للشرائح والطبقات الاجتماعية المهمَّشة والمفقرة.

5- بدائل عادلة ومنصفة

منظومة الدعم ليست استثناء تونسيا، ولا تقدر تكلفتها المرتفعة (إن أُحسنت أوجه صرفها وحوكمتها) أمام حجم الهشاشة الضاربة في أعماق البلاد ودواخلها، بل تستخدمها معظم البلدان حتى الدول الليبرالية. فالتشكيك في أداة متجذرة في الواقع التونسي لا يبدو خيارا صائبا؛ لأنه في الأساس إنجاز اجتماعي بني بفكر وسواعد بناة الدولة الوطنية.

ومهما اختلفت تقييماتنا للدولة التونسية، يبقى لديها دائما دور اجتماعي نبحث على تطويره ودعمه لا التخلي عنه. والدعم والتعويض هو أحد رافعات السياسة الاجتماعية للدولة، والأمر يتعلق بالسياسات العامة التي تتطلب رؤية وشجاعة حقيقية للإصلاح، فالإصلاح ممكن تماما من خلال التوزيع العادل للتكلفة على قاعدة الإنصاف والإدماج لا التقشف.

إن دعم الدولة للمنتجات الأساسية هو أداة اقتصادية توضع تحت تصرف الطبقتين الضعيفة والوسطى (غالبية الشعب)، فهي من ستعاني أكثر من غيرها، ويمكن أن تقع فئات عديدة في براثن الفقر؛ فالطبقة الوسطى في تآكل واضح منذ سنوات.

من البيّن إذن التأكيد أن إصلاح منظومة الدعم وحوكمتها يتكون من عنصرين مهمين: بلورة الرؤية والأهداف الوطنية، ثم رسم الاستراتيجيات والجوانب الفنية للإصلاح المنصف وتدرجه.

فما يتداول من إجراءات منذ فترة، هي المطالب التي اقترحها صندوق النقد الدولي، لكن أين رؤيتنا؟ يجب أن تكون للبلد رؤيته الخاصة لدور الدولة، بعيدا عن سطوة الكمبرادور والضغوطات التي تُفرض قهرا لتنفيذ خطة تهدف أساسا إلى إعادة النظر في مهام ووظائف الدولة.

طبعا هم لا يريدون للدولة أن تتخلى عن وظيفتها الأمنية والقمعية، التي توضع على ذمتها جميع الموارد مثلما توضحه الميزانية الأخيرة 2022، ولكن يريدون التفويت في الوظيفة الاقتصادية (المؤسسات العمومية) والوظيفة الاجتماعية (خدمات الصحة والتعليم والنقل ومنظومة الدعم خصوصا).

فالاعتماد المتسرع لنظام التحويلات المباشرة سيتسبب، بالإضافة إلى انخفاض القدرة الشرائية، في تأثير تضخمي حتمي، خصوصا إن تم تعجيل القيام به بشكل سيئ وهو الأقرب للظن، مما سيؤدي إلى دوامة تضخمية قاصمة، فنتائج محاكاة رفع الدعم عن المواد الغذائية الأساسية أبانت احتمالات ارتفاع معدلات الفقر على المدى القصير بـ3.6 في المائة ومعدل الفقر المدقع بـ1.7 في المائة.

لذا؛ لا بديل عن إقامة نقاش مجتمعي حقيقي حول منظومة الدعم في تونس لتحديد أسباب أوجه القصور، ومن الضروري إعطاء فكرة للمواطنين التونسيين وتوعيتهم حول حجم التكاليف السنوية الحالية للبرنامج وحدوده، مع ضرورة إشراكهم في ضبط التدابير المستقبلية للإصلاح، بل يجب على مؤسسات الدولة إقناع المواطنين كشريك فعلي بأن المدخرات ستستخدم بحكمة وحسن تصرف من خلال تعزيز آليات الحوكمة والرقابة، من أجل تقاسم المسؤولية واتخاذ الخيارات التصحيحية لتطوير آليات الدعم وتنويع السلة بما يقتضيه الاستهلاك والتغذية الصحية المتوازنة.

ولا يبدو الأمر صعبا للمضي في خطوات رسم استراتيجية وطنية للتحكم في تبذير الخبز وترشيد استهلاك مادة السكر، فالتونسي يستهلك سنويا 37 كلغ من هذه المادة، أي أكثر من ضعفي معدل الاستهلاك في العالم، ما يستدعي زيادة الوعي المجتمعي بأهمية الغذاء الصحي والحد من هدره للمحافظة على الأمن الغذائي.

كما حري بوزارة التجارة أن تتخلص من ضغوط اللوبيات وتتحمل أدوارها عبر وضع نظام رقمي للتصرف في الدعم، وتفعيل برنامج تأهيل مسالك التوزيع ومكافحة التهريب، وتطوير آليات المراقبة الاقتصادية والمالية، واعتماد سياسة تقفي الأثر لكل المنتجات المدعمة.

ولن يكون ذلك متاحا إلا بتحمل السلطة التنفيذية والتشريعية لمهامها وتطوير التشريعات ومراجعة العقوبات وتشديدها، والتشجيع على إدماج التجارة الموازية في الدورة الاقتصادية.

ويقع على عاتق مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني، دور كبير في وضع وتنفيذ مجموعة متكاملة من المبادرات والبرامج والأنشطة التوعوية تستهدف جميع قطاعات المستهلكين، لتسليط الضوء على أهمية ترشيد استهلاك الطاقة والمياه، وتبني أسلوب واعٍ ومستدام، والمراهنة على الطاقات المتجددة الممهدة لتمكين الاقتصاد الأخضر والنظيف، في ظل ما تزخر به تونس من إمكانات مهمة لإقامة مشاريع كبرى، حيث الجنوب التونسي الذي يتمتع بالإشعاع الشمسي على مدى السنة، علاوة على وجود مواقع في شمال البلاد تخوّل إنشاء مشاريع الطاقة الهوائية لتوليد الكهرباء.

ويبقى الأكيد أن ما سبق ذو أهمية مطلقة، ولكن يحتاج لتعزيز عبر دعم قطاع الفلاحة (تطوير زراعات الحبوب وتشجيع منظومة اللفت السكري، ودعم منتجي الحليب مباشرة أسوة بما يحدث في بلدان الاتحاد الأوروبي) وتطوير الصناعات الغذائية التحويلية، كأحد البدائل للنهوض بالاقتصاد الوطني وتحقيق الأمن الغذائي، ولتقليل فاتورة استيراد المواد الغذائية والكماليات التي تُوضع على رفوف وأجنحة الفضاءات التجارية الكبرى الحاملة للماركات الفرنسية، والتي انفردت بسوق التجزئة الداخلي التونسي، وفرضت نمطا استهلاكيا فاقم أزمة الميزان التجاري، وراكمت سطوة عرّابي الريع.

وسيكون من أوكد الإجراءات وضع ملف إعادة هندسة النظام التمويلي للصندوق العام للتعويض على طاولة الأولويات لتطوير مداخيله، عبر فرض أداء عادل على الوافدين وأصحاب النزل والمطاعم والصناعيين، وتوزيع العبء الاجتماعي من خلال ضريبة استحقاقية على الثروة، مع الحرص على مراجعة النصوص القانونية والترتيبية، وإرساء قواعد الحوكمة الرشيدة داخل الصندوق (لجان التدقيق ولجان الاستراتيجية ولجان المخاطر)، مع وضع آليات للمراقبة والتقييم أسوة بإصلاح وتطوير دور الديوان التونسي للتجارة.

نافل القول؛ إن نجاح السياسات الاجتماعية يُقدر بأهمية العقد الاجتماعي، الذي تتكامل فيه الديمقراطية السياسية مع المسؤولية الاجتماعية بهدف رسم السياسات العمومية المنصفة، وصياغة البرامج الكفيلة بتفعيل الحماية الاجتماعية الشاملة، وتحقيق التوازن والعدالة في توزيع الحقوق والأعباء والتضحيات بين المواطنين كافة.

المراجع:

- تقـرير حول مشروع ميزانية الدولة لسنة 2022، موقع وزارة المالية التونسية.

- دعم المواد الأساسية وتنظيم السوق، موقع وزارة التجارة وتنمية الصادرات التونسية.

- مقال أبجديات الصندوق العام للتعويض في تونس، موقع نواة بقلم محمد ضياء الهمامي، ترجمه من الفرنسية سميح الباجي عكاز.

- دراسة: سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا الخوف: الهشاشة.. الانتظارات

- تحليل أثر الدعم الغذائي وبرامج المساعدة الاجتماعية على الفقراء والضعفاء.

- متوسّط الأجور بالدول العربية.

 

- تونس ورفع الدعم: التضحية بالفقراء لحلحلة الأزمة الاقتصادية! فاطمة بدري، موقع دراج.

- تقرير دائرة المحاسبات حول منظومة الدعم 2012.

- احتساب نسب الفقر: تلاعب بالإحصائيات وطمس للتفاوت الجهوي، موقع نواة، ياسين النابلي.

- ميزانية 2018: حربٌ على الشعب وانحيازٌ لِلُّوبيات والمصالح الاستعمارية.

 
- أزمة المالية العمومية 2020-2021 عبد الجليل البدوي، قسم الدراسات الاقتصادية FTDES.

- السياسات الاجتماعية بين أيديولوجيا السلطة والمجتمع، هوازن خداج.

- نحو سياسيات اجتماعية متكاملة، إطار وتحليل مقارن.

- نقد السياسة في أمراض العمل السياسي لـ عبد الإله بلقزيز، المركز الثقافي للكتاب، 2019.

- السياسات الاجتماعية المتكاملة، الأسكوا، التقرير الخامس.

 
- Subvention de l’Energie et Compensation alimentaire en Tunisie- observatoire tunisien de l'économie.
 
- La Caisse Générale de Compensation, ITES, M.Slaheddine MAKHLOUF, 2017.
 
- Dimassi, H. (2012). Caisse de compensation: En sortir? Le Mag. Eco, 34-78.
 
- Le système de compensation en Tunisie: quelles réalités et quel avenir? Kadria, Mohamed and Boulila, Ghazi.
 
 
- Inclusion sociale en Tunisie: Les enjeux de l’emploi, de l’éducation et de la répartition des revenus mars 2017.
التعليقات (0)