أصبح واضحا أن الخط البياني للحريات في تونس يتراجع بشكل ملحوظ رغم نفي الرئيس سعيد لذلك بكل قوة و"يقين". فهو يعتقد بأنه يخوض حربا نظيفة ضد الفساد والفاسدين والمتآمرين عليه وعلى الوطن، ولم يدرك حتى اللحظة خطورة الانتهاكات التي تصاحب عديد الخطوات والقرارات التي يتخذها بشكل متسارع
اللافت للنظر في الكثير من هذه البيانات تحذيرها المتكرر من العودة إلى مربع ما قبل الثورة. يومها، لم يدرك الرئيس زين العابدين بن علي والأطراف المساندة له خطورة التمادي في التضييق على الحريات. لم يعبأ بالمواقف الصريحة التي كانت تعلن عنها المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية، ولم ينتبه إلى أن هذه المواقف هي أضواء حمراء موجهة إليه، تحذره من اقتراب لحظة ستكون فارقة في مساره السياسي، وتؤكد له أن تحذيراتها المتكررة لن تبقى بدون أثر، وأن من نتائجها تعميق العزلة الدولية، وتمهيد لرفع اليد عنه وعن نظامه في حال حصول تغيير موازين القوى على الصعيد الداخلي. ولم يفهم ابن علي ذلك إلا في وقت متأخر، حين سبق السيف العذل.
عندما يتحدث الأمين العام للأمم المتحدة بهذه اللغة الواضحة والقاطعة، يعني أن المسألة التونسية تتدحرج بشكل سريع نحو التدويل. وهو أمر سيئ جدا، لا يقبله التونسيون لبلادهم، ويخشون من أن يؤدي ذلك إلى المساس بمصالحهم وبالسيادة الوطنية. هذا ما يفسر تنديد بعض الأطراف بما يصفونه بـ"التدخل الخارجي" في الشأن التونسي، لكن ينسى هؤلاء ما كان يحدث قبل الثورة، حيث كانت الأجهزة الرسمية تختفي وراء هذا التبرير للتخفيف من حدة الضغوط الخارجية، وتتهم المعارضين بالعمالة والاستئساد بالخارج. واستمر ذلك السجال إلى أن ثار التونسيون، واضطر ابن علي إلى الفرار من الغضب الشعبي، ولم يجد أحدا في الداخل أو في الخارج يسنده ويدافع عنه.
قيس سعيد ليس نسخة مكررة من زين العابدين بن علي؛ يختلف معه في أشياء عديدة، لكن مع ذلك، يبدو أن هناك من يدفع به نحو الوقوع في نفس المطب. هناك من يريد أن يحسم الخلاف بين الرئيس وخصومه عن طريق الحلول الاستثنائية، بما في ذلك المعالجة الأمنية التي غالبا ما تنسف شرعية الرؤساء
قيس سعيد ليس نسخة مكررة من زين العابدين بن علي؛ يختلف معه في أشياء عديدة، لكن مع ذلك، يبدو أن هناك من يدفع به نحو الوقوع في نفس المطب. هناك من يريد أن يحسم الخلاف بين الرئيس وخصومه عن طريق الحلول الاستثنائية، بما في ذلك المعالجة الأمنية التي غالبا ما تنسف شرعية الرؤساء، وتفقدهم الكثير من الحلفاء، وتعزز دائرة المعارضين، وتعطي فرصة ذهبية للراغبين في تغيير المشهد السياسي برمته.
اليوم، يريد الرئيس سعيد حسم معركته مع القضاء والقضاة، ومرة أخرى لا ينتبه للوسائل التي يعتمدها في هذه الحرب المفتوحة، كما يستخف بالهياكل القضائية وما يمكن أن تقوم به للدفاع عن شرعيتها، خاصة في ما يتعلق بمبدأ الاستقلالية الذي يعتبر من بين شروط الأنظمة الديمقراطية السليمة. وهي قضية حساسة من شأنها أن تحتل مكانة محورية في ملف التدويل الذي تتعزز أوراقه ومحاوره يوما بعد يوم. وعندما يصبح القضاة جزءا من الجبهة المناهضة لسياسة الرئيس فإن ذلك من شأنه أن يحدث تغييرات جوهرية للمشهد التونسي، عندها لن يستطيع وزير الخارجية والطاقم الدبلوماسي إقناع العالم بأن القضاء وظيفة وليس سلطة مستقلة، ولن يتمكن أنصار الرئيس سعيد من الرد على كل الذين يرددون اليوم أن البلاد تتجه بنسق سريع نحو الحكم الفردي.
لا يوجد تعليقات على الخبر.