هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يعتبر "دير مار سابا" في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية، واحدا من أهم الأديرة القديمة في فلسطين، والوحيد الذي يحرم على النساء دخوله، والذي بُني قبل حوالي 1380 سنة، وعمّره عدد من الرهبان والقساوسة بعضهم تولى مناصب رفيعة في الدولة الأموية، ليتحول هذا الدير إلى مزار للسياح الأجانب.
ويقع "دير مار سابا" بحسب الدكتور وائل حمامرة، مدير التنقيب والمسح الأثري في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية على بعد 15 كلم إلى الشرق من مدينة بيت لحم، و5 كلم إلى الشرق من بلدة العبيدية القريبة من القدس.
وأوضح حمامرة في حديثه لـ "عربي21" أن الدير بُني على سفح أحد الجبال، بشكل يطل على وادي قدرون، المعروف باسم (وادي النار) في المنطقة المعروفة باسم برية القدس، ويبدأ هذا الوادي من مدينة القدس، ويسير بشكل متعرج إلى أن يصل إلى البحر الميت.
وائل حمامرة، مدير التنقيب والمسح الأثري في وزارة السياحة والآثار الفلسطينية
وأشار إلى أن الدير يعرف بأسماء عدة منها: الدير الكبير، ودير السيق لوقوعه على واد ضيق شديد الانحدار، مؤكدا أنه يقع أسفل الدير نبع ماء صغير، ينزل إليه بدرج طويل.
وشدد على أن دير مار سابا أصبح من أبرز الوجهات التي تقصدها السياحة الأجنبية والمحلية في فلسطين، وهو من ضمن المواقع التي عملت وزارة السياحة والآثار على وضعها في القائمة التمهيدية (المؤقتة) للتراث العالمي الخاصة بدولة فلسطين ضمن عنوان البرية والأديرة، الممتدة شرق مدينة القدس والخليل، معربا عن أمله أن يتم تجهيز ملفه واعتماده في اليونسكو قريبا ليصبح موقع تراث عالمي.
وقال حمامرة: "سمي الدير على اسم القديس سابا الذي عاش في الفترة الممتدة من 439 ـ 532م، والذي جاء من منطقة كابادوكيا الواقعة في وسط الأناضول (تركيا حاليا)".
وأضاف: "قبل بناء الدير عاش القديس سابا في مغارة صغيرة في الجهة المقابلة للدير الحالي عام 478م، ورافقه مجموعة كبيرة من الرهبان الآخرين، حيث توجد في المنطقة حوالي 70 خلوة (صومعة) من الكهوف الطبيعية، وفي عام 483م أسس الدير الكبير الرئيسي الذي نشاهد اليوم قسما من معالمه القديمة، لذا لقب القديس سابا برئيس النساك في فلسطين، علما أن مؤسس حياة الرهبنة في فلسطين هو القديس هيلاريون الذي بنى له ديرا عام 329م قرب مدينة غزة، والرهبنة عبارة عن نظام عاش به الرهبان وكرسوا فيه حياتهم للتنسك للعبادة والانعزال".
وأوضح أن الدير بني على مراحل، وشهد إضافات متنوعة ابتداء من الفترة البيزنطية والأموية والصليبية والعثمانية حتى الوقت الحالي.
وقال حمامرة: "عمارة الدير والطبيعة المحيطة به تكون مشهداً خلّاباً عند مشاهدته للوهلة الأولى، إذ أنه مجمع ضخم يشبه القلعة، مبني بالحجارة المشذبة بطريقة تتناسب مع الانحدار الموجود على حافة الوادي، ويظهر من واجهة الدير الشرقية طبقات عدة تتلو بعضها البعض، مشيدة بشكل متدرج ويعلوها قباب وأسقف جملونية أو مسطحة".
وأضاف: "إن جوانب الدير ترتكز على دعامات ضخمة مثبتة على الصخر، وتميل إلى الداخل لإضافة القوة والمتانة للمبنى، ولتقلل تأثير الزلازل أو التصدعات، حيث أن ذلك له علاقة بالخبرة التي اكتسبها مصممو المبنى عبر العصور، وتتميز شبابيك بنايات الدير بحجمها الصغير، وأضيفت المصاطب والشرفات وبعض الساحات والأدراج لتسهل عملية التنقل بين أقسام الدير وطبقاته".
ويتكون الدير بحسب حمامرة من مغارة مقطوعة في الصخر الطبيعي مكث فيها القديس سابا خمسين عاماً في حياة الرهبنة، وبني ضريح للقديس سابا في الساحة الرئيسية للدير، فوقه مبنى مثمن تعلوه قبة، وخلال الفترة الصليبية نقل جثمانه إلى فنيسيا في إيطاليا، إلا أنه أعيد عام 1964م عندما زار بابا الفاتيكان بولس السادس الأراضي المقدسة، وأسفل الساحة توجد مقبرة للرهبان.
وأوضح أنه أقيم مصلى للقديس مار نقولا محفور في الصخر، يضم مجموعة من جماجم الرهبان الذين قتلهم الفرس أثناء غزوهم فلسطين في الفترة الواقعة ما بين 614 ـ 628م.
وأشار إلى أنه في الجهة الشرقية تتواجد كنيسة مريم العذراء التي بنيت في عهد الإمبراطور جستنيان في القرن السادس الميلادي ورممت في العصور اللاحقة خاصة الصليبية، ويعلوها قبة مستديرة، وهي أجمل معالم الدير الزخرفية، زينت جدرانها باللوحات والرسومات الجدارية، والأيقونات، ومنها ما يمثل حياة السيد المسيح، والقديس سابا، وتطغى على جدرانها الألوان الحمراء والبنية والزرقاء والصفراء بدرجات متفاوتة، وتأثرت الزخارف باستخدام الشمع ومصابيح الزيت التي كونت بعض اللون الأسود عليها.
وأكد أن من المعالم المهمة في الدير مصلى يوحنا الدمشقي الذي عاش في الفترة الأموية في فترة عبد الملك بن مروان، وابنه هشام، وكان يوحنا من عائلة ثرية عمل والده وزيراً في بلاط الخلافة الأموية، وكان جده رئيساً لديوان الجباية المالية فيها.
وقد جمعته صداقة مع عدد من الخلفاء الأمويين، ولكنه فضل حياة الرهبنة، وانتقل ليعيش في دير مار سابا، وله العديد من المؤلفات التي كتبها في الدير. بحسب حمامرة.
وأكد أن الدير يحتوي على مكتبة، ومطبخ، وغرف للطعام، وغرف للمبيت والخزين، ويحيط به سور مرتفع بني ورمم في فترات عديدة.
وأوضح أنه شُيد برج مربع للحماية في الزاوية الشمالية الغربية للدير، يبلغ ارتفاعه حوالي 18م، ويعرف باسم برج جستنيان، إلا أن طراز عمارته تعود للفترة الصليبية.
وقال: "أقيم برج آخر على الطرف الجنوبي الغربي للدير، وموقعه يوفر الإطلالة على الدير، ويبعد عنه عدة أمتار، يطلق عليه برج النساء أو (قصر البنات)، توءمه النساء اللواتي يجئن لرؤية الدير، لأنه ووفقا للتقاليد المعروفة فإنه يحرم على النساء دخول الدير، عملاً بوصية القديس سابا، وحافظ الرهبان على نمط الحياة البسيطة الخاصة بهم، ولا تتوفر به الوسائل التكنولوجية أو الحديثة في المعيشة اليومية".
ومن جهته قال جريس قمصية، المتحدث الرسمي باسم وزارة السياحة والآثار الفلسطينية إن الوزارة تعمل على الحفاظ على الموروث الثقافي المادي في فلسطين من خلال الحفاظ على المواقع الأثرية والتاريخية الهامة التي تزخر بها فلسطين والتي شكلت هوية الشعب الفلسطيني على مر التاريخ.
وأضاف قمصية لـ "عربي21": "إن عددا من المواقع الأثرية تقع في مناطق خارج نطاق السيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبالتالي هي عرضة للاعتداءات وأعمال التنقيب غير الشرعي والنهب أحيانا".
جريس قمصية المتحدث الرسمي باسم وزارة السياحة والآثار الفلسطينية.
وأكد على تواصل الاعتداءات على الأماكن الأثرية المسيحية من قبل المستوطنين اليهود، وقوات الاحتلال بشكل مستمر ومنها ما يحصل في دير سمعان ودير مار سابا وغيرها من المواقع الأثرية التاريخية.
وأوضح أنه عند إعداد وزارة السياحة والآثار الفلسطينية قائمة تمهيدية للمواقع الأثرية المرشحة للانضمام إلى قائمة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للتراث العالمي عام 2016، كان دير مار سابا في صدارة عشرين موقعا.
وقال: "القائمة كانت معدة سلفا لكن المساعي في هذا الصدد تسارعت بعد أن أصبحت فلسطين تتمتع بعضوية كاملة في اليونسكو عام 2011".
وأضاف: "من بين المواقع الأخرى في قائمة المواقع المرشحة: جبل جرزيم، كهف شقبا، تل أم عامر، ميناء غزة القديم، قرى الكراسي، وبلدة الخليل القديمة، وقد نجحنا في تسجيل المدرجات المائية في قرية بتّير على لائحة التراث العالمي".
ومن جانبه أكد الكاتب والصحفي فادي العصا، أنه وبدون الإعلام لا يمكن تسليط الضوء على أي قضية والتي من ضمنها قضايا التاريخ والمواقع الأثرية خاصة وأن لكل صحفي وكاتب طريقته المختلفة في عرض تلك القضايا التي لا تتضمن عملا متسلسلا أو مصادر موثوقة ومعلومة يتم العودة لها وقت الحاجة.
وفي حديثه لـ "عربي21" قال العصا: "إن جيش الاحتلال يقوم بتدمير المواقع الأثرية أو ينسبها لنفسه في محاولة لإيجاد أي رابط تاريخي بأحقيته بفلسطين، وهنا يكمن دور الإعلام في دحض هذه الأكاذيب وإبراز الرواية الصحيحة عن هذه المواقع الأثرية والتاريخية".
فادي العصا.. كاتب وصحفي فلسطيني
وأضاف: "دير مار سابا الأثري أنشئ في القرن الخامس الميلادي على يد الراهب سابا الذي كان موجودا في منطقة الأناضول ثم انتقل إلى فلسطين، حيث تنبع أهميته كراهب وهب نفسه للرهبنة في صومعة أو دير فجمع حوله 150 من الرهبان من مختلف مناطق العالم وذلك بسبب إخلاصه في عبادته".
وتابع: "الموقع الأثري موجود على بعد 17 كلم من مركز القدس المحتلة حيث يقع على طريق القادمين والذاهبين من وإلى الأردن ويوجد في منطقة بعيدة تفتقر لخدمات الكهرباء ووسائل الاتصال المعروفة إضافة إلى تعبيد بسيط للطرق لعبور المركبات حتى اليوم".
وأشار العصا إلى أن الدير يضم مجموعة من الغرف ومكتبة تضم عددا كبيرا من الكتب أغلبها مكتوب باللغة اليونانية القديمة لذلك له دور مهم أثري، مؤكدا أنه يتبع اليوم لطائفة الروم الأرثوذكس أو الطائفة الشرقية من مدينة القدس المحتلة بوجود البطريرك.
وبين أن الوادي كان يسمى في الكتب القديمة وادي النطرون ومن المفترض أن تكون فيه مياه قادمة من مدينة القدس إلا أنه لم يسلم من محاولات التهويد والتخريب التي تمارسها سلطات الاحتلال بحقه فمع مرور الزمن وبفعل التكسرات والمنحدرات والجغرافيا أصبح مصبا للمياه العادمة القادمة من القدس وبيت لحم وبالرغم من ذلك ما يزال يحتفظ بمكانته التاريخية.
وأكد على أنه يجب البحث مع أشخاص مهتمين في الآثار والتاريخ وإيجاد بحوث علمية مصدقة بالأدلة والبراهين خاصة وأن كثير من الإعلاميين وقعوا في حفرة الرواية الإسرائيلية، وذلك بسبب محاولة إطفاء هذه الرواية وعدم وجود المعلومات الكافية لدى الأفراد لدحضها.
ونبه الكاتب الصحفي الفلسطيني إلى أن الاحتلال يحاول دائما إيجاد أي شيء له في فلسطين فيسعى لربط كل موقع أثري في كل منطقة سواء أكان معلما أثريا أو مساجد أو أديرة من باب القوة التي يتمتع بها.
ويرى أنه لا توجد أوراق علمية بحتة للمواقع الأثرية لكن الجيد أن هناك مجموعة كبيرة من المختصين الذين يملكون معلومات ووثائق إذا ما تم العمل عليها وتوثيقها فإنها تصلح لتصبح مرجعا مهما وذا فائدة يمكن من خلاله الوقوف في وجه الرواية الإسرائيلية.
وأكد أن ذلك لن يكون صعبا أو مستحيلا فأصحاب الحق ومهما تم التزوير سيؤكدون أحقيتهم بالأرض ويبينون زيف الرواية الإسرائيلية القائمة على الباطل.