هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتأسس هذا المقال على أطروحة مفادها، أن "حالة الاستثناء" التي دخلتها تونس منذ 25 تموز/ يوليو "إلى إشعار آخر"؛ تعبّر عن أزمة تتجاوز العقل السياسي الذي هندس تلك الإجراءات، أو كان ضحيتها المباشرة أو "المؤجلة".
فحالة الاستثناء هي - في وجه من وجوهها -، نتيجة منطقية لفشل مسار الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، أو على الأقل هي تعبير عن سوء إدارة وسائط الديمقراطية التمثيلية لذلك المسار. ورغم خطورة عدم تحديد الرئيس أجلا معلوما لإنهاء حالة الاستثناء التي أصبح يديرها بمنطق المرحلة الانتقالية بين "زمنيين سياسيين"، فإن منطق "التأجيل" أو "التسويف" والهروب إلى الأمام ليس حكرا على تلك الإجراءات، بل هو سمة من سمات الانتقال الديمقراطي منذ مرحلته التأسيسية.
مهما كان موقفنا من إجراءات الرئيس يوم 25 تموز/ يوليو، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن أزمة الحكم في تونس ترجع إلى أسباب بنيوية وتأسيسية تسبق دخول السيد قيس سعيد إلى قصر قرطاج. كما أننا لا نستطيع أن ننكر "قابلية" المشهد السياسي والرأي العام لأي تغيير جذري، مهما كانت المخاطر التي قد تحف به. ولكنّ ما تقدّم لا ينفي مسؤولية الرئيس نفسه في تأزيم المشهد السياسي والدفع به
- عبر الاستفادة من تناقضاته نصّا وممارسة -، إلى نقطة "تصحيح المسار" أو "الانقلاب"؛ بحكم تضارب المواقف من إجراءاته.
بصرف النظر عن سوء إدارة النخب السياسية للشأن العام، وسوء إدارتها لخلافاتها داخل أروقة البرلمان وخارجه، فإن تلك النخب المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية بوسائطها الحزبية والنقابية والمدنية المعروفة؛ قد ارتكبت خطأ جسيما قبل الانتخابات الرئاسية، وثنّته بخطيئة بعد وصول السيد قيس سعيد إلى قصر قرطاج.
أما الخطأ، فهو أنها لم تأخذ المشروع السياسي للرئيس على محمل الجد، واعتبرته مجرد "صوت صارخ في البرّية"، ولن يكون حتى في حالة فوزه إلا جزءا من الديمقراطية التمثيلية؛ رغم مواقفه السلبية المعروفة من هذه الديمقراطية، ووسائطها الحزبية ومنظومتها السياسية برمتها.
وأما الخطيئة، فهي أن هذه النخب قد حاولت توظيف سعيد لإعادة هندسة المشهد السياسي في تلك الديمقراطية التمثيلية، دون أي وعي بأن التقاءها الموضوعي معه تحكمه استراتيجيتان سياسيتان متناقضتان: هم يريدون تعديل المشهد بالاستقواء بالرئيس، وهو يريد بناء مشهد سياسي جديد لن يكونوا أول ضحاياه، ولكن لن يكون لهم أي موقع فيه؛ سواء خلال حالة الاستثناء (غياب أي حوار وطني أو خارطة طريق)، أو بعد الاستفتاء على المشروع السياسي الشامل للرئيس (نظام ديمقراطي قاعدي ينفي الحاجة إلى الأحزاب وإلى أغلب وسائط الديمقراطية التمثيلية، أو على الأقل يدفع بها إلى الهامش في منظومة سياسية مختلفة جذريا).
من منظور الخطاب الوطني الجامع، لا يمكن اعتبار الرئيس التونسي نموذجا جيدا في المستوى الاتصالي، ولكن رغم كل الانتقادات الموجهة إلى جملته السياسية (خطاب عنيف تقسيمي أساسه رؤية "مهدوية" تهيمن عليها أحادية الصوت، وغياب الحوارية، وتحوّل المشروع السياسي إلى مشروع "شبه عقائدي"، تسانده قاعدة شعبية عنيفة وغير قابلة لأي حوار حتى مع "أنصار الإجراءات")، فإن المراقب الموضوعي للشأن التونسي، لا يستطيع أن ينكر فاعلية ذلك الخطاب وقدرته التعبوية التي تخترق الكثير من التونسيين على اختلاف أعمارهم وفئاتهم وجهاتهم. كما لا يستطيع أي مراقب أن ينكر كفاءة الرئيس (أو من يقف وراءه) في توظيف أزمة الانتقال الديمقراطي؛ بصورة جعلته يصبح فاعلا أساسيا قبل الإجراءات، والفاعل الأهم بعدها.
لقد عرف الرئيس كيف يستفيد من "آفات" العقل السياسي التونسي المهيمن على الديمقراطية التمثيلية، سواء داخل نخب الحكم أو داخل النخب المعارضة. ولعل نجاحه في فرض الإجراءات لا يعود فقط إلى توظيف الغضب الشعبي على المنظومة الحاكمة (خاصة حركة النهضة التي نجح الإعلام في تحميلها كل أوزار التوافق، وأخرج شركاءها من دائرة المساءلة/ المحاسبة إلا قليلا منهم)، بل يعود أيضا إلى توظيفه مكبوتات العقل "المعارض" وآفاق انتظاره (خاصة عند تعبيرتيه السياسيتين الأساسيتين المحكومتين بمنطقي الاستئصال الصلب والاستئصال الناعم)؛ عندما أوهم "مسانديه" يوم 25 تموز/ يوليو بأن إجراءاته المؤقتة هي مجرد عملية "تصحيح مسار"، لن تخرج من سقف الجمهورية الثانية ودستورها.
ورغم أن الإجراءات اللاحقة قد أكدت تهافت الوعي السياسي عند "حزام الإجراءات"، فإنها لم تنتج الردود المتوافقة مع هذا الخطر الوجودي الذي يهدد جميع وسائط الديمقراطية التمثيلية، بل إن تشتت المعارضة التي توسعت مكوناتها بعد إجراءات يوم 22 أيلول/ سبتمبر؛ يؤكد أن الخروج من "حالة الاستثناء" لن يكون نهاية للأزمات الدورية، التي تطبع المشهد السياسي التونسي منذ هروب المخلوع.
مهما كانت التسويات السياسية التي قد تعقب حالة الاستثناء، فإن غياب مقومات السيادة الوطنية واستقلالية القرار الوطني من جهة أولى، وغياب مشروع وطني جامع يتجاوز – من جهة ثانية - سياسات التوافق بشروط المنظومة القديمة ومنطق الصراع الوجودي واستراتيجيات النفي المتبادل على أساس هوياتي بائس، أي غياب مشروع وطني يقوم على إصلاح مبدئي وصلب (لا انتهازي وهش) للدستور وللقانون الانتخابي وللهيئات الدستورية، وللإعلام وللعمل النقابي في شكليه المدني والأمني، ولخيارات الدولة الكبرى اقتصاديا وثقافيا، كل ذلك سيجعل الانتقال الديمقراطي برمته "حالة استثناء" أو مرحلة مؤقتة يتهددها مشروع العودة إلى الجمهورية الأولى؛ بغطاء الإنقاذ أو الإصلاح أو غيرهما من الحجج التي لن يعدمها المستفيدون من استضعاف الدولة، والمتضررون من أي مشروع مواطني اجتماعي في الداخل والخارج.
twitter.com/adel_arabi21