هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أحرص، منذ بضعة أسابيع، على قراءة المقالات التي تمتدح الرئيس عبد الفتاح السيسي، خاصة تلك التي تبالغ، بصورة فجة، في المديح. في البداية لم أتبين الداعي لمداومة تحمل مثل هذه المعاناة؛ فغالبا ما تنتابني حالة يتمازج فيها شعور بالغثيان والهذيان، أظل أكبح تناميها حتى أنتهي من القراءة، ثم تصورت أن سبب الحرص على قراءة هذه النوعية من المقالات يرجع لرغبة لاواعية في تغذية إصراري على مواصلة السير في الطريق العكسي بمزيد من المبررات، وكأني أقول لنفسي "يا راجل ما أنت نازل هبش في الراجل، سيب الناس تقول اللي هي عايزاه، عشان تقول اللي أنت عايزه".
لا أقصد أني أذم أو أهجو مقابل هذا الفيض من المديح، لا فأنا لا يخطر ببالي الذهاب في هذا الطريق، وإنما أقصد الطريق العكسي، طريق التحليل والنقد، لكن هذا التفسير لم يكن كافيا، وظللت حائرا، غير قادر على تفسير حرصي هذا تفسيرا منطقيا، وواصلت قراءة هذه النوعية من المقالات على أمل أن تتكشف لي حقيقة دواعي هذه الممارسة الضارة بالصحة النفسية، بلا شك.
كان العنوان كافيا لإبطال طاقة الكبح بصورة مطلقة، وهكذا صاحبت الغثيان والهذيان، أو هما اللذان صاحباني، أو واصلنا ثلاثتنا الرحلة حتى الكلمة الأخيرة، لكني أكتب هذه الكلمات بعد أن نحيتهما جانبا، فالقراءة تحتمل هذه الصحبة، لكن الكتابة لا يليق بها مصاحبة مثل هذا الشعور.
هذا هو العنوان: "الرئيس السيسي.. فارسُ التنوير الجسور"، وقد بدأت صاحبته الكاتبة والشاعرة والمترجمة والناقدة، فاطمة ناعوت، المقال بجملة تنضح بـ "التنوير"، وسأوردها على الرغم من طولها: "لا نكادُ نصدِّقُ أن الله تعالى قد منَّ علينا برئيس جسور لا يهابُ صياحَ الحناجر التى ترفضُ الحقَّ والتنويرَ وحفظ حقوق المواطنة واحترام القيم الأخلاقية الرفيعة في المجتمع، فيقوم فى لحظة بفتح ملفات "المسكوت عنه" في قضايا تهذيب وتشذيب وشحذ الوعي، لكي تصيرَ العقليةُ المصرية عقليةً مفكرة ناقدة، لا عقلية تابعة ناقلة مشحونة بالعنصرية والطائفية العمياء التى تُقوّض أركانَ المجتمع وتهدمُ أولًا بأول كلَّ محاولات التنمية والبناء".
اقرأ أيضا: صحفية مصرية: لم أندم على شيء بقدر ندمي على مدح السيسي
أولى "أعمدة التنوير التي أرساها" السيسي، بحسب ناعوت، زيارة الكاتدرائية للتهنئة بعيد الميلاد (يناير 2015)، ثم تستخلص من هذا العمود: لم تكن تلك الزيارةُ مجرد "تهنئة" لفصيل كبير من أبناء شعبه وحسب، بل كانت "رسالة" حاسمة ونهائية تُعلن منذ اليوم الأول في عهد الرئيس السيسي أن "مصر دولةٌ مدنيةٌ تقفُ على مسافة متساوية من العقائد"، يا سلام على المقدمة والاستخلاصات، يا سلام على التنوير!.
أعجبني تعبير "عقلية مفكرة ناقدة"، وسأحاول أن أكون كذلك تجاه كلمات الكاتبة والشاعرة والمترجمة والناقدة فاطمة ناعوت، فأولا استخدام كلمة "فصيل" لوصف مواطنين مصريين غير لائق لا اجتماعيا ولا قانونيا وبالطبع لا "تنويريا"، المسيحيون في مصر مواطنون وفقط، وصفهم بأنهم "فصيل" حط من كرامتهم، واعتداء على حقوقهم، ثانيا مصر ليست أبدا، في هذه اللحظة، وفي ظل الدستور الحالي، بتعديلاته التي جرت في عام 2018، دولة مدنية، مطلقا، وهذا واقع إلى أن يتم تغييره، وهذه بعض الأدلة "العقلية" وليست "النقلية".
الدليل الأول: نص المادة الثانية من الدستور: "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، أي عاقل مفكر ناقد سيقرأ نص هذه المادة سيسألك: يا سيدتي عما تتحدثين؟، هل أنت جادة وأنت تكتبين "مصر دولة مدنية"؟ عني شخصيا، أنا كاتب هذه الكلمات، أريد أن تلغى الفقرتان الأولى والأخيرة من المادة الثانية من الدستور، فهيا، إذا كنت توافقينني الرأي، وأقنعي "منة الله"، أقصد "الرئيس السيسي.. فارس التنوير الجسور"، فليطرح للاستفتاء الشعبي العام تعديلا على نص المادة، بحيث يلغي التعديل النص على أن "الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".
صدقا أقول: أنا، شخصيا مع إلغاء المادة الثانية تماما من الدستور، والإبقاء فقط على أن اللغة العربية لغة الدولة الرسمية، فإذا كان تقديرك أن "منة الله"، أقصد "فارسُ التنوير الجسور" ليس جسورا إلى حد التفكير في مثل هذه الخطوة، فعندي بديل لكي يكون حديثك عن أن الدولة في عهد السيسي "تقفُ على مسافة متساوية من العقائد"، فليجر الفارس تعديلا دستوريا ينص على: "تلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية التي يحتاجها المصريون من المسيحين واليهود لبناء دور العبادة الخاصة بهم"، وذلك أسوة لالتزام الدولة تجاه الأزهر، الوارد في المادة (7) من الدستور.
هذا البديل صعب، أيضا، على منة الله فارس التنوير الجسور؟ فليشرح لنا، إذن، لماذا رمى بالكاتدرائية الجديدة، في العاصمة الإدراية الجديدة، خارج الحي الحكومي؟ لماذا لم يبنها بجوار جامع الدولة، أو في طرف بعيد عنه لكن داخل نطاق الحي الحكومي؟ عندها كان يمكن أن "نبتلع" كلماتك عن المسافة المتساوية من العقائد التي تأخذها الدولة.
ثانيا، في ما يتعلق بمدنية الدولة، هلا تفضلت وشرحت لنا ما تعنيه المادة (200) من الدستور، ونصها كما لا شك تعلمين: "القوات المسلحة ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها، وصون الدستور والديمقراطية، والحفاظ على المقومات الأساسية للدولة ومدنيتها، ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد".
تصف الكاتبة والشاعرة والمترجمة والناقدة فاطمة ناعوت ما قام به السيسي بأنه "معجزةٌ"، وقد أوافقها الرأي لكن لأسباب ونتائج مختلفة، فهو بالفعل "معجزة"، فلم يتمكن حاكم مصري في العصر الحديث من مركزة واحتكار السلطة، بصورة مطلقة، كما فعل، ويفعل، ولم يستهن حاكم بدماء المصريين وكرامتهم وحريتهم كما فعل، ويفعل السيسي.
وقد أوافقها حين تكتب: "لم تصل أحلامي قطّ بمعاصرة رئيس جسور يُقرّر بحسم وجرأة تصويبَ خطاب الطائفية والكراهية والإقصاء"، مع تعديلات بسيطة: فلم تصل إحلامي قط بمعاصرة رئيس جائر يعمق خطاب الكراهية والطائفية والإقصاء كما فعل، ويفعل السيسي.
تكثر ناعوت من ذكر الله في مقالها، وهي، إذ بدأت بأنها، وآخرين، لا يكادون يصدقون أن الله "منَّ" عليهم بـ "رئيس تنويري جسور"، تختم بالدعاء لله أن يحفظ مصرَ ويحفظ رئيسَها العظيم (و) الدينُ لله والوطنُ لمن يُنير دروبَ الوطن"، وعني شخصيا، أعتبر أن الله يمتحننا في شخص السيسي، إنه "فتنة، وابتلاء".
قدرت أني انتهيت من الكتابة، بهذه القفلة التنويرية العقلية المفكرة، لكني اكتشفت أن حرصي الذي تحدثت عنه في البداية لم يكن بكفاءة تامة، إذ إنه قد فاتني مقالان للكاتبة لم أطالعهما، مع حرصي الشديد، وللطرافة كان عنوانهما "أعلنها الرئيسُ: مسألة وعي!"، "السيسي.. قائدٌ يُنجِزُ.. ثم يُعلن"، وسأفكر مليا في ما إذا كان من الأسلم لصحتي النفسية مواصلة قراءة مدائح التنوير، أم يكفي ما تحملته.