قام الرئيس
التونسي ليل 25 تموز/ يوليو بإجراءات تمثل انقلابا
واضحا على المسار الديمقراطي في بلده. وإذا كانت دراسات التحول الديمقراطي تتحدث عن ثلاث مراحل للتحول الديمقراطي، تبدأ بانهيار النظام السلطوي، ثم مرحلة الانتقال الديمقراطي، وأخيرا مرحلة ترسيخ
الديمقراطية، فإن المرحلة الانتقالية أهم هذه المراحل؛ إذ تعد مرحلة وسيطة بين الحراك الذي هدم نظاما سلطويا، وبين تحقيق تطلعات المجتمع الراغب في التغيير. وهي بهذا تعد معركة طويلة أكثر خطرا من المعركة القصيرة التي تنتهي بنصر مؤقت للمجتمع إزاء السلطوية، فإما أن ينزاح رأس السلطة ويدخل المجتمع في صراع شرس وخطير مع بقايا النظام السلطوي، وإما أن يقوم رأس النظام بتغييرات شكلية تهدف إلى تهدئة المحتجين، وما أن يهدأوا يعود أشرس مما كان. وعلى هذا المقياس نسأل: أين كانت تونس وإلى أين ستذهب؟
نجحت تونس في إزاحة النظام السلطوي بجدارة، ورغم المقاومة الشديدة التي أبداها بقايا النظام السابق في القوى الأمنية التونسية، فإن التونسيين نجحوا في إجراء عدة استحقاقات انتخابية ودستورية، وتشكّلت مؤسسات الدولة بصورة ديمقراطية، ليضعوا أقدامهم في مرحلة الانتقال الديمقراطي، عبر تشكيل المؤسسات وتوضيح اختصاصاتها.
قاربت تونس على بلوغ مرحلة الرسوخ الديمقراطي بعد ثلاثة رؤساء منتخبين بصورة ديمقراطية، ومجلس نيابي، ودستور تم التوافق عليه بين جميع الفرقاء السياسيين. لكن جاء أحد الفقهاء القانونيين على رأس السلطة ليعصف بما نجح التونسيون في تحقيقه
وجرى ذلك عبر ابتعاد الجيش عن الانخراط السياسي المباشر، وقيام حركة النهضة بتقديم تنازلات مهمة في كل مرحلة انتصرت فيها انتخابيا، فقدمت مصلحة تونس على مصلحتها الضيقة. فقاربت تونس على بلوغ مرحلة الرسوخ الديمقراطي بعد ثلاثة رؤساء منتخبين بصورة ديمقراطية، ومجلس نيابي، ودستور تم التوافق عليه بين جميع الفرقاء السياسيين. لكن جاء أحد الفقهاء القانونيين على رأس السلطة ليعصف بما نجح التونسيون في تحقيقه، وجريمته الكبرى أنه انقلب وهو يتذرع
بالنص الدستوري، وهو موقن تماما أن الدستور يجافي كل مرسوم صدر عنه.
لماذا نهتم بالشأن التونسي؟
علمتنا
التجربة المصرية أن ما يحدث في إحدى دول المنطقة بالسلب يؤثر في غيرها بالسلب أيضا، وقد انتكست المنطقة كلها بعد الانقلاب المصري في 2013، فتدخل محور الشر العربي بالسلب في ليبيا، واستمر بشار في حكمه بعدما كاد أن يفقد سيطرته على كل الأراضي السورية، وتعرضت تونس لمحاولات عديدة لإحداث رِدة في المسار الديمقراطي، وقُسّم اليمن بذريعة توحيده.. كل ذلك جرى عقب الانقلاب المصري، فأيقنّا أن السلب يؤثر.
أما التجربة التونسية فقد علمتنا أن ما يجري بالإيجاب يؤثر في دول أخرى، فإزاحة ابن علي أدت إلى إزاحة مبارك، والقذافي، وعلي صالح، ومن بعدهم بوتفليقة، وعمر البشير. فالمنطقة مرتبطة بمصير واحد إيجابا وسلبا، ولم يعد شأن الدول الداخلي خاصا بها وحدها، بل يشترك الجميع في تحمل أخطاء نخبة أي بلد، ويحصد الجميع نجاح نخبة أي بلد. ومن هنا نعتبر أن إجهاض الانقلاب مسؤوليتنا، كما نعتبر أن نجاحه خسارة لنا.
دروس التجربتين المصرية والتركية
الدرس الذي ينبغي على رافضي الانقلاب التونسي أن يدركوه ويتحركوا في إطاره، أن كل لحظة تتأخر فيها مقاومة الانقلاب فإنها ترسخه
الدرس الذي ينبغي على رافضي الانقلاب التونسي أن يدركوه ويتحركوا في إطاره، أن كل لحظة تتأخر فيها
مقاومة الانقلاب فإنها ترسخه، وينبغي أن يعي الجميع أن الانقلاب لن يسمح بوجود شركاء مدنيين. ففي مصر احتاج السيسي إلى مشاركة مدنية واسعة، وبالفعل شارك مدنيون في تشكيل أول حكومة بعد الانقلاب، لكن سرعان ما استغنت السلطات العسكرية عنهم واحدا تلو الآخر، بل إن بعضهم كان مصيره السجن. وبعد التخلص من هؤلاء الساسة المدنيين، بدأ في التخلص من رفاق الانقلاب في المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية.
وهذه الأطراف ظنت أنها شريكة في ما جرى ولا يمكن عزلها، لكن لا يوجد انقلابي يحتمل الشراكة، ولا يوجد ناج من
الاستبداد الناتج عن الانقلاب العسكري، بما في ذلك البسطاء من المدنيين الذين لا علاقة لهم بالسياسة. وهذه رسالة تحتاج إلى ترويج بين جميع التونسيين، وتسليط الضوء على ما جرى في مصر من استبداد، وقمع، وتردٍّ اقتصادي غير مسبوق، وهدم للبيوت، وهدم للمقابر، يكفي لبيان مساوئ الانقلابات.
كذلك هناك
التجربة التركية، فما جرى أن شعبا انتفض بقوة لرفض الانقلاب، ودعمت قوات مسلحة هذه الانتفاضة، وبدون وجود قوة عسكرية تردع المسلحين الانقلابيين فسيكون مسار عودة الديمقراطية شديد الصعوبة، وربما غارقا في الدماء. فمشهد اجتماع
قيس سعيد خلال إعلان إجراءاته بقيادات أمنية وعسكرية يشير إلى صعوبة التراجع عن هذه القرارات، إذ جرى في ظل موافقة القيادات الأمنية والعسكرية، وهي أدوات مسلحة لإنفاذ إرادة الانقلاب، ومواجهتها لن يكون سهلا بمجرد الصدور العارية.
قيس سعيد يعيد هذه الصورة بجمعه السلطات التنفيذية والقضائية في يديه، وغلّه يد السلطات التشريعية. وهذه الصورة الكاملة للاستبداد، فإن لم يكن فعله انقلابا على الديمقراطية فبمَ يوصف الاستبداد والانقلاب؟
لا يعني هذا أن يقوم المدنيون بحمل السلاح، بل على التونسيين أن يستفيدوا من
إقالة وزير الدفاع التونسي، وهذا القرار يشير إلى إمكانية رفض الوزير لتلك الإجراءات فتمت إقالته، وهو أقدر شخص على ضمان ولاءات أبناء من المؤسسة لعرقلة الانقلاب، كما أنه يمكنه أن يشير إلى القيادات التي يمكنها أن تتعاون بهذا الصدد، ولا ينبغي تجاهل أهمية دوره في تلك اللحظة. ونذكر أن أول قرار تم اتخاذه عقب الانقلاب المصري، كان إقالة مدير جهاز المخابرات العامة المصرية، الذي قيل أنه لم يكن متعاونا مع مسار الانقلاب العسكري، ومرّ هذا القرار دون الانتباه إلى أهمية هذا الرجل في لحظة هامة.
إن سوابق التحول من الانتخاب الديمقراطي إلى الاستبداد لا تزال شاخصة في العصر الحديث، وأبرزها كان وصول هتلر وموسوليني إلى الحكم في ألمانيا وإيطاليا، وتسبب وصولهما وتحويلهما نظم الحكم من الانتخاب إلى الاستبداد، إلى إشعال حرب عالمية راح ضحيتها عشرات الملايين، وخسائر مالية هائلة. وقيس سعيد يعيد هذه الصورة بجمعه السلطات التنفيذية والقضائية في يديه، وغلّه يد السلطات التشريعية. وهذه الصورة الكاملة للاستبداد، فإن لم يكن فعله انقلابا على الديمقراطية فبمَ يوصف الاستبداد والانقلاب؟
twitter.com/sharifayman86