منذ
نشأة التجمعات السياسية عرفت المجتمعات توازن القوى، سواء داخل المجتمعات أو خارجها،
فقوة القبائل في داخل المجتمع الواحد تحدد مستوى المشاركة في إدارة شأن هذا
التجمع، وقوة المجتمعات المحيطة تحدد مساحات حركة كل مجتمع في محيطه. ثم تطور شكل
هذه المجتمعات وصولا إلى شكل الدولة الحالي التي أصبحت فيها قوة التجمعات الداخلية
محصورة في التأثير السلمي -بتنوع أشكاله الاجتماعية والاقتصادية- دون القوة
المسلحة، واحتكار قوة السلاح بيد القائمين على الحكم فقط.
نشأت
فكرة احتكار السلاح بناء على نظريات العقد الاجتماعي التي تجعل خضوع الحاكم
للمحكوم رهنا بمدى عمل الحاكم لمصلحة المحكومين، وذلك في نظام سياسي يُمَثَّل فيه
المجتمع في مستويات الحكم عبر انتخابات نزيهة، لا تقصي ولا تستبعد فاعلا من
الفاعلين المحليين. ثم اقتبست النظم المستبدة فكرة احتكار السلاح، دون إخضاعه
لرقابة اجتماعية، ودون العمل لصالح المحكومين، بل تجاوزوا ذلك إلى اضطهاد
المحكومين بقوة السلاح المموَّل منهم.
استقر
هذا الوضع لسنوات طويلة إلى أن بدأ ظهور فئة ممن يُسمُّون بالفاعلين الدوليين من
غير الدول، فالفاعلون الدوليون من غير الدول مثل المنظمات الأممية والشركات
العابرة للقارات وما إلى ذلك، انضمت إليهم الجماعات المسلحة التي ترفض سياسة دولهم
في الإطار المحلي والعالمي، فهم لم يقنعهم الدور الذي تقوم به الدولة في مواجهة
العدوان الخارجي، أو الممارسة الداخلية، فخطَّت لنفسها مسارا مختلفا، ومع الوقت
تعاظم دور هذه الحركات لتصبح فاعلا دوليّا بحق، وليست مجرد فاعل محلي أو حتى
إقليميّ.
جاء طوفان الأقصى في سياق حكم عربي متجاهل لما يحيق بالقضية الفلسطينية، بل يشترك في حياكة المؤامرات لتصفيتها، وبعدما كانت الزعامة العربية تُكتسب من الاهتمام الصوري بالقضية الفلسطينية، أصبحت الزعامة، في زمن سيادة المال الخليجي على القرار العربي، تُكتسَب بالبُعد عن القضية الفلسطينية وتضييعها
وجدت
المجتمعات أن الدولة أو الأنظمة السياسية التي تحكم في عموم المنطقة أصبح دورها
السيطرة على المجتمع، وتحجيم قوته، وضبط إيقاع حركته، لا البحث عن مصالح المجتمع، فخرجت
أفكار شديدة الاختلاف في التعبير عن رفض ذلك الوضع، وأصبحنا أمام معارضة سلمية
تجابه الاستبداد بغرض إسقاطه، أو حركات عنف مسلح تواجه الأنظمة، أو حركات تحرر
وطني في الأراضي المحتلة مثل لبنان وفلسطين، تقوم بدور المواجهة دون قبول احتكار
النظام السياسي للسلاح.
قررت
هذه الحركات المبادرة بمواجهة
الاحتلال، وباركت الدنيا عملها عند الانسحاب عام
2000 من جنوب لبنان، أو من غزة عام 2005، وكان الانسحاب (تحرير الأرض) نتاج عمليات
عسكرية منفصلة عن القرار السياسي للدولة أو السلطة
الفلسطينية، وقتها لم يكن هناك
متصهينون يتبجحون في وجوهنا، عن جدوى الحجارة أو البندقية، لكنهم أصبحوا يتبجحون بعدما
وصلت
المقاومة إلى امتلاك صواريخ بدائية، رغم أنها محلية الصنع، وقادة الدول الذين
يتملقونهم لا تصنع دُوَلُهم حبَّات مِسْبَحَة.
جاء
طوفان الأقصى في سياق حكم عربي متجاهل لما يحيق بالقضية الفلسطينية، بل يشترك في
حياكة المؤامرات لتصفيتها، وبعدما كانت الزعامة
العربية تُكتسب من الاهتمام الصوري
بالقضية الفلسطينية، أصبحت الزعامة، في زمن سيادة المال الخليجي على القرار العربي،
تُكتسَب بالبُعد عن القضية الفلسطينية وتضييعها.
اليوم
بعد أن وجد أهل القضية استباحة مقدساتهم وأرضهم دون تحرك عربي يوقفه، وبمباركة
دولية، قرروا أن يرفعوا سقف حركتهم إلى مداه الأقصى، فأخذوا خطوتهم الرائدة بطوفان
الأقصى. وفي الجنوب اللبناني المحرَّر، قررت حركة التحرر هناك أن تُسنِد المظلومين
مستندة إلى إباحة الدبلوماسية العربية لتفعيل الدفاع العربي المشترك، وإلى مشاركة
قوات عربية في حرب عام 1948، وقبل ذلك إلى مفاهيم دينية وعربية تنصر المظلوم
وتؤازره، وبدلا من اللحاق بركبهم أصبح خطاب معسكر المتصهينين في منطقتنا، أو
المتألمين لحال غزة ولبنان، مُنصبّا إلى مهاجمة المدافعين عن أوطانهم، واتهامهم
بأنهم ورَّطوا دولهم وشعبهم في حرب شرسة!
بهذا
المنطق نتساءل: لماذا قرر السيسي إنفاق أموال المصريين في الصراع في ليبيا؟ وإذا
كانت السعودية شاركت في اليمن لدعم أحد الأطراف اليمنية ضد طرف يمني أيضا، بغض
النظر عن التحالفات الخارجية، فلماذا كان هذا مبرَّرا، رغم أنه ترتب عليه هجوم
لمنشآت نفطية وتضرر الشعب السعودي منه؟ ولماذا شاركت الإمارات في اليمن وليبيا
والسودان؟ إذا كان كل هذا مبررا، فلماذا يكون من غير المبرر أن تدعم الدول العربية
فلسطين في معركتها ضد محتل؟
بل
أكثر من ذلك؛ شاركت مصر في دعم حركات مسلحة وطنية ضد الاحتلال في عموم أفريقيا
والمنطقة العربية، ولم يكن ذلك مُستَنكرا، وما يزال الإعلام المصري والدولة
المصرية تتحدث عن هذا الدور، فإما أن يعلن النظام المصري بوضوح أن ما حدث كان خطأ
من نظام عبد الناصر ولْيعتذرْ عنه، أو في المقابل ألا يستنكر على حركات المقاومة
دورها، بل ويمدها بالسلاح كما كان يحدث في الخمسينيات والستينيات، حيث أرسل وقتها
عبد الناصر ضباطا من سلاح الجو إلى نيجيريا لدعم حليفه، وذلك بعد هزيمة حزيران/ يونيو
1967 مباشرة، وهذا بغض النظر عن تقييم تلك الفترة سياسيا، أو صواب المشاركة
العسكرية الخارجية، فهذا ليس موضع تقييمها، بل موضع توجيه الأسئلة إلى مقدِّسي
الدولة ونظامها.
ثم
هناك سؤال كبير آخر: هل ورطت مصر العرب بالدخول في معركة غير متكافئة عام 1973؟
فقد أرسلت دول عربية عديدة قوات عسكرية، ودخل العرب في حرب نفط مع الدول الغربية،
وكانت المنطقة على شفا حرب إقليمية واسعة، وقد أرسلت أمريكا ما أرسلته لنجدة الطفل
المدلل الفاشل لإنقاذه، وإذا استمرت الحرب فربما كانت ستشارك بكثافة عسكرية كبيرة،
فهل ورطت مصر العرب وقتها لتحرير أرضها، رغم أن ميزان القوى غير متكافئ تماما؟ وأيضا،
لماذا تشارك الولايات المتحدة والدول الأوروبية في حرب تبعد عن أرضها بآلاف أو
عشرات آلاف الأميال؟ هي تفعل ذلك لحماية مصالحها، وكذا تفعل حركات المقاومة وتحمي
مصالحها.
إن
الأسئلة العبثية التي نضطر إلى التعاطي معها ليست في مكانها الصحيح، بل الصحيح ألا
يقال لمن شارك لِمَ شاركت؟ وأن يقال لمن لم يشارك لم تقاعست؟ هذا هو السؤال الصحيح
المبني على اتفاقية الدفاع العربي المشترك، والمبني على قيم العروبة والدين، والمرتكز
إلى حق الشعوب في تحرير أرضها كاملة، وهو نص دولي وليس تصرفا مارقا، فالمروق صادر
من الاحتلال غير الآبه بأي مواثيق، والاعتدال كل الاعتدال صادر من سلوك حركات
المقاومة التي تريد تصحيح الوضع السياسي والأخلاقي لهذه المنطقة.
من المستقر أن الأشخاص يحاولون تطبيع غيرهم بطباعهم ليعيشوا بسلام نفسي، فالفاسد لا يريد أن يرى من ينتقد فساده، ولا من يعيش نمط حياة مغاير له، ليتحرك بحريته، وإذا كانت لديه القدرة على تغيير الناس، فلن يتورع عن تغيير طبائعهم وتشويهها ولو بالقسر، وهذا حال حكام العرب وحملة المباخر في ظلهم الكئيب
من
المستقر أن الأشخاص يحاولون تطبيع غيرهم بطباعهم ليعيشوا بسلام نفسي، فالفاسد لا
يريد أن يرى من ينتقد فساده، ولا من يعيش نمط حياة مغاير له، ليتحرك بحريته، وإذا
كانت لديه القدرة على تغيير الناس، فلن يتورع عن تغيير طبائعهم وتشويهها ولو
بالقسر، وهذا حال حكام العرب وحملة المباخر في ظلهم الكئيب.
إن
ما أحدثته حركات المقاومة طول أربعة عشر شهرا الماضية، أنها مرَّغت أنف الاحتلال
وأذلَّته، وأثبتت أنه لولا الدعم الغربي عسكريا واستخباراتيا فإنه أوهن من بيت
العنكبوت حقيقة، ولو كان الحكام العرب يحملون بعض ذرات من وطنية أو شرف أو كرامة،
لما بقي الاحتلال في فلسطين بعد طوفان الأقصى، فضلا عن إفشال أهدافه من عدوانه
البربري والوحشي على القطاع.
لقد
حطمت حركات المقاومة جدار الثقة بين قادة الكيان ومواطنيه، دمرته تماما، ولم يعد
مغتصبو الشمال إلى منازلهم بكثافة رغم الإغراءات المالية، كما أصبح السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر رعبا مضاعفا للصهاينة في الشمال أكثر من الجنوب، وانطلقت هجرة عكسية
من داخل الكيان إلى خارجه، وأصبحت فكرة التزام قيادة الدولة بحماية المغتصبين
منتهية، بعد مماطلة نتنياهو في إعادة أسراهم، وغير ذلك العديد من الهزائم
الصهيونية في تلك المعركة.
ما
بقي ذكرُه، في مسألة حركات المقاومة، على وقع الأحداث في سوريا، أن نناشد ونطالب الحركات
المقاومة المسنِدة لغزة ولإيران، ألا يعيدوا التورط العسكري في سوريا، بعدما
رُمِّمت العلاقات بين السنة والشيعة، فلا مكسب لإسرائيل أعظم من إشعال الفتنة مرة
أخرى، وقطع الحبال الود التي وُصِلَتْ بعدما انقطعت.