كيف حافظت طالبان على تماسكها الداخلي وحققت انتصاراتها؟

استطاعت حركة طالبان منذ الإطاحة بحكمها في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2001 على أيدي قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، أن تحافظ على تماسكها الداخلي، باصطفافها والتفافها حول قيادتها رغم كل التحديات التي واجهتها خلال عشرين عاما، خاضت خلالها مواجهات عسكرية شرسة مع القوات الأمريكية وقوات الحكومة الأفغانية الموالية لها. 

كان من الطبيعي أن يتفرق مقاتلو طالبان بعد إسقاط دولتهم في أوساط قبائلهم وحاضنتهم الشعبية، وأن يتواروا عن الأنظار ويلوذوا بالصمت إلى حين، مع احتماء بعضهم في جبال أفغانستان الوعرة وإقامتهم فيها، حتى تتمكن الحركة من تضميد جراحاتها، وإعادة ترتيب أوراقها، ورص صفوفها من جديد، لتبدأ بعد فترة عملياتها العسكرية المنظمة ضد القوات الأمريكية وحلفائها.
 
وظل زعيم الحركة، الملا محمد عمر يقود الحركة، ويدير شؤونها، بعد الإطاحة بحكمه واختفائه، إلى أن تم الإعلان عن وفاته بسبب المرض، والذي أكدته طالبان في 30 تموز/ يوليو 2015 من غير أن تحدد تاريخ وفاته، اختارت الحركة الملا أختر منصور خليفة لزعيمها الملا عمر، لكن سرعان ما اغتالته طائرة أمريكية بدون طيار عام 2016، وبعد مقتله أعلنت طالبان تعيين الملا هيبة الله أخوندزاده زعيما جديدا للحركة، الذي ما زال يقودها إلى يومنا هذا.

وبعد عشرين عاما من مقاومة حركة طالبان الشرسة للقوات الأمريكية، والقوات الأفغانية الموالية لها، باتت الحركة رقما صعبا لا يمكن تجاوزه في المشهد الأفغاني بعد أن فشلت أمريكا في كسر شوكتها، ما أجبرها على عقد مفاوضات مع الحركة عبر وسطاء، ثم قررت الإدارة الأمريكية سحب قواتها من أفغانستان، والذي سيكتمل في 31 آب (أغسطس) المقبل وفق ما أعلنه الرئيس الأمريكي جو بايدين قبل أيام، وتشير الأخبار إلى توسع الحركة في بسط نفوذها وسيطرتها على مناطق وولايات أفغانية جديدة، وهو ما يُنذر بعودة طالبان لحكم أفغانستان مرة أخرى حسب مراقبين. 

مسيرة الحركة الطويلة في طورها الأول حينما تمكنت من إقامة حكمها وبسط نفوذها على غالب الأراضي الأفغانية عام 1996، وفي طورها الثاني بعد سقوط حكمها، وانخراطها في المقاومة المسلحة ضد القوات الأمريكية وحلفائها، وما آلت إليه من تحقيق انتصاراتها وفرض وجودها تثير أسئلة حول الأسباب الكامنة وراء محافظة الحركة على تماسكها الداخلي، واصطفافها خلف قيادتها، وتمكنها من فرض وجودها في الميدان العسكري، وهو ما أهلها لتحقيق نجاحات لافتة في المفاوضات مع أمريكا وحلفائها. 

أسئلة يتداخل فيها السياسي بالفكري، والجغرافي بالاقتصادي، تثيرها "عربي21" مع عدد من الخبراء بالشأن الأفغاني.

في هذا الإطار أوضح الكاتب الصحفي الفلسطيني، المختص في الشأن الباكستاني والأفغاني، جمال إسماعيل أن "عناصر طالبان هم أبناء المدارس الدينية الذين تربوا في هذه المحاضن على أيدي علماء باكستانيين وأفغان، وتتم تنشئتهم على وجوب السمع والطاعة للأمير وخاصة إن كان الأمير صاحب علم شرعي". 

وأضاف: "تجربة الأحزاب الجهادية الأفغانية أعطت درسا لأصحاب المدرسة التقليدية في أفغانستان من العلماء الدينيين، بأنه لا يمكن الاعتماد على هذه الأحزاب الإسلامية والجهادية بعد أن انغمسوا بشكل كبير في التنافس على الدنيا والمناصب، فزاد هذا من حرصهم على أن يكون أبناء المدارس الدينية عاملا لإعادة هيبة الإسلام، وإصلاح الوضع أكثر من أن يكونوا منافسا سياسيا وحزبيا للآخرين".

   جمال إسماعيل.. الكاتب الصحفي الفلسطيني، المختص في الشأن الباكستاني والأفغاني

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "كان ينقص التجربة التي مرت بها الإمارة الإسلامية في الحكم الكثير من الخبرة في التعامل مع الآخرين، وفي تطبيق الأحكام الشرعية الإسلامية، لكنها كانت أكثر فترة أمن فيها الشعب الأفغاني على ماله ونفسه وعرضه، وهو ما شد من أزر الإمارة الإسلامية، ورص صفوفها، كما جعل فئات كثيرة من الشعب في المدن، وفي الأرياف خاصة، يزيدون من ثقتهم بالإمارة الإسلامية ويدعمونها". 

ولفت إلى أن حركة طالبان بعد الغزو الأمريكي "ظهرت بأنها هي التي تقود الجهاد ضد الغزاة، وهو ما زاد من تأييد الشعب الأفغاني بمختلف فئاته لها، بينما انغمست بعض من كانت تُسمى بالأحزاب الجهادية في التنافس على خدمة المحتل، ومحاولة الوصول إلى مناصب في الحكم في العاصمة كابل، والولايات المختلفة، وهذا عدا عن أنه مخالف للشريعة وأحكامها، فهو مخالف لعادات الشعب الأفغاني في كيفية الوقوف ضد المحتل الكافر، وهو ما زاد من صلابة الإمارة الإسلامية، ووحد صفوفها". 

وقارن إسماعيل بين طريقة إدارة الأحزاب الجهادية إبان قتالها ضد الاحتلال الروسي للمناطق وبين طريقة إدارة حركة طالبان بأن الأولى كانت تعتمد في إداراتها للمناطق على أشخاص من نفس المنطقة فيولونهم مناصب إدارية وغير ذلك، وهو ما أنتج قادة بات الواحد منهم شبه ملك لمنطقته يحكم ويرسم.. فكان من الصعب إزاحتهم عن أماكنهم أو من مناصبهم، على عكس طالبان في إدارتها خاصة بعد تجربتها الأولى، فقد عمدت إلى تغيير قادتها في المناطق المختلفة بين الفينة والأخرى، حتى لا تتكرر الظاهرة السابقة، ويبقى المجاهدون تحت إمرة الحركة وقيادتها المركزية". 

وتابع: "وقد نجحت قيادة الحركة عبر سياستها تلك إبان مقاومتها للاحتلال الأمريكي في عدم تمكين الاحتلال وحكومة كابل من التواصل مع أي من القادة الميدانيين للإمارة في أي منطقة لعقد اتفاقيات محلية للتهدئة أو لتجنيد هؤلاء القادة، ومعرفة خطط الإمارة في المنطقة، على عكس ما كان أيام الأحزاب الجهادية ضد الاتحاد السوفييتي وحكومة كابل، حيث ثبت كل قائد في منطقته واشتهر بها، ومن ثم أطمعه السوفييت وحكومة كابل بالمال والمناصب.. فسهل عليهم عدم الانصياع لقرار ورأي قيادة الحزب أيام كانت قيادات المجاهدين في بيشاور أو حين انتقلت إلى أفغانستان".  

وشدد إسماعيل على أن "تمسك قيادة الإمارة وجنودها بمبادئ الإسلام في التعامل مع العدو الصائل ومن يتعاون معه وعدم قبول الإمارة بحلول وسط بين الطرفين، زاد من تلاحم عناصر وجنود الإمارة مع قيادتها، وتمسك القيادة بالحكم الشرعي ورأي العلماء الشرعيين في كافة المسائل، أبعد عن الإمارة خطر الانقسام".

وعن حالة الانسقام التي حدثت على يدي مولوي رسول وعبد المنان نيازي، ذكر إسماعيل أن "غضبهما يرجع إلى عدم إعلامها بوفاة أمير المؤمنين الملا محمد عمر، وإبقائه سرا لأكثر من عامين، وهي ليست بالمسألة التي تكون سببا للانقسام، لكن كانت هناك أهداف أخرى للمنشقين عن الإمارة، أظهرت الأحداث أنهم تعاونوا مع حكومة كابول ومع من يديرها، ومع دول أخرى، وهم الذين بدأوا القتال ضد قوات الإمارة، وتمت هزيمتهم، بعد أن أرسلت لهم وفودا لإعادتهم إلى صفوف الإمارة لكنهم رفضوا ذلك". 

من جهته أرجع الكاتب والإعلامي السوري، المتخصص في الشأن الباكستاني والأفغاني، الدكتور أحمد موفق زيدان نجاح حركة طالبان في المحافظة إلى تماسكها الداخلي، ومواصلة طريق المقاومة والجهاد بالالتفاف حول قيادتها إلى "تلك الطبيعة البنيوية للشعب الأفغاني التي ساعدت على تحقيق ذلك، المتمثلة في القبلية والمذهبية، فهناك مرجعية قبلية يعود إليها الشعب الأفغاني، وتراتبية قبلية دقيقة وخضوع القبائل لبعضها البعض". 

       موفق زيدان.. كاتب وإعلامي سوري مهتم بالشؤون الأفغانية والباكستانية

وأضاف: "فهناك اللويا جركا (مجلس القبائل الكبير) الذي يحل كل مشاكل القبائل، وهو تقليد متفق عليه ومجمع عليه منذ مئات السنين، وكذلك المرجعية المذهبية حيث مذهب واحد بمدارس دينية وفكرية واحدة، وأساتذة وشيوخ معروفون، وبالتالي يتخرج الطالب بنفس الأبعاد الفكرية والأيديولوجية والفقهية والعقدية، ساعد في ذلك احترام الطالبان كمقاتلين وجماعة من قبل المدرسة الدينية إذ يستحيل أن ترى شيوخا هاجموا الحركة أو العكس".

وتابع في حديثه لـ"عربي21": "ولا ننسى أن المدرسة المذهبية القديمة، ورؤيتها للبيعة ونقض البيعة ومخاطرها الشرعية وهو ما استفادت منه الحركة، وهناك مسألة مهمة وهي آلية الشورى التي تتخذ القرارات من خلالها، وهو ما رسخه الملا محمد عمر، ما ساعد في عدم حصول أي انشقاقات، ما دامت الشرعية للشورى ولكبار رجال الحركة المؤسسين". 

ولاحظ زيدان من خلال تغطيته لأحداث أفغانستان لما يقارب الثلاثين عاما أن "الجيل الجديد من حركة طالبان أكثر انفتاحا مقارنة بالجيل السابق، الذي لم يسبق له أن خرج وعرف لغات، وتعرف على مشاكل العالم، بخلاف الجيل الحالي الذي شهد سقوط الحركة ثم عودتها، وبعضهم قادته الأقدار إلى معتقلات غوانتانامو، وعرف اللغات أثناء وجوده في الشتات، وخاض تجربة سياسية مهمة في التفاوض". 

وأنهى زيدان حديثه بالإشارة إلى أن "الجيل الجديد يدرك تماما أن التشدد الديني هو الذي أسقط الحركة، وبالتالي فإنه أكثر انفتاحا في أطروحاته المذهبية التي كانت تتسم من قبل بالتشدد خاصة تجاه المرأة والآخر، لكنه لن يقبل المساومة في الحكم إلا ممن يخضع للحركة كما حصل مع حقاني وآخرين".