اقتصاد منهار وعتمة.. لبنان بعد مبادرة بري: الفوضى أو الانتخابات!

المراوحة السلبية سمة الساعات الأخيرة في ظل العجز المتمادي على حسب الوطن وأهله، المسؤوليات ضائعة بين كل الأفرقاء واللاعبين، فالكل يحمّلون الكل لعنة التعطيل الذي بدأ ينذر بالفوضى الشاملة، حيث الناس يحتنقون عضبا يوما بعد يوم ولا مجيب لوجعهم الصامت.

وكأني بالناس يساقون إلى حتفهم ساكتين عن حقهم أو عجزا أو خوفا، أو إيمانا بأن هذا هو لبنان وهذه تركيبته الهشة الفاسدة التي على ما يبدو استنفدت لمئة عام خلت منذ العام 1920 تاريخ التأسيس الذي أضحى ذاكرة تاريخية لا توحي باستمرار الصيغة ولا الدور ولا الكيان.

ونذكر بكلام أحد الدبلوماسيين الأوروبيين مؤخرا: "لبنان أشبه بالسفينة تيتانيك وهي تغرق" والكل باتوا ينتظرون الارتطام الكبير لزوال السفينة أو أن يأتي زمن الأعجوبات. ولكن للأسف زمن الأعاجيب ولى وحل مكانه زمن الدولار الطائر فوق 16000 ليرة وبانتظار 20000 ليرة للدولار الواحد ولا أحد يعلم السقوف التي سيبلغها، وطوابير الذل على أبواب محطات الوقود مستمرة بشراسة في انتهاك أبسط حقوق العباد؛ في بلادٍ أضحت الكهرباء حلما سورياليا والمازوت حلما آخر لكي تستمر المولدات في عملها، أما ما تبقى من مصانع فعلى ما يبدو أنها قاب قوسين أو أدنى من التوقف؛ لا لشيء إلا أنه لا وقود ولا مازوت ولا من يحزنون، وكل ما تبقى هو في رحلة البحث عن كيفية الانقضاض على الاحتياطي الإلزامي، إن بدعم البطاقة التمويلية التي ستفشل بعد الحديث عن 350 ألف عائلة فقط!! أو باللعب بنار إما دعم المحروقات أو حرق البلد.. للأسف كلها معادلات صعبة وأقصر الحلول مكلف على الجميع.

من هنا كان ملفتا ما جاء على لسان الرئيس نبيه بري من أنّ مبادرته قائمة، ولا سبيل غيرها لإخراج لبنان من أزمته، وبالتالي هو ليس في وارد التراجع عنها تحت أي ظرف وأشار برّي إلى أنّه يتراجع عن مبادرته في حالة وحيدة، وهي أن "تحضر مبادرة أفضل منها بديلة عنها، تكون مقنعة للجميع ولي أيضاً، وتحقق الغاية المنشودة بتشكيل حكومة إصلاح وإنقاذ، من اختصاصيين لا سياسيين وبلا ثلث معطّل لأي طرف".

وشدّد بري على ضرورة الاستفادة من فرصة المبادرة والذهاب فوراً إلى تشكيل حكومة تبدأ في اتخاذ ما يلزم لمعالجة الأزمة، وكلما جرى التعجيل بتشكيل حكومة نعجّل بمعالجة الأزمة. وقال: "أزمة لبنان صعبة جداً، ولكن يجب أن نؤكّد في المقابل أنّه وضع ليس ميؤوساً منه ويمكن أن نعالجه. فلبنان ليس مفلساً، بل هو يملك إمكانات وأملاكاً وقدرات هائلة في البر والبحر، من شأنها لو أحسن استخدامها أن تُخرج لبنان من أزمته في فترة قياسية. لكن المهم أولاً تشكيل حكومة لتبدأ العمل".

واللافت في الكلام أنه جاء بعد زيارة المبعوث الأوروبي جوزيب بوريل؛ الذي شدد على ضرورة تشكيل الحكومة، وكلام السفيرة الفرنسية في لبنان السيدة آن غريو خلال لقائها لجنة الصداقة النيابية اللبنانية- الفرنسية بعيداً عن الإعلام. فهي دعت إلى وجوب تشكيل حكومة جديدة، لعدم المجازفة بمستقبل البلد وليس لإرضاء الرئيس الفرنسي. وكلامها حمل ما يشبه التحذير. وهي شدّدت على أنّ باريس تعمل لوضع لبنان على الأجندة الدولية، فيما هو موجود الآن على الأجندة الإقليمية. وتابعت غريو كلامها المشفر بالرسائل قائلة بأنّ لبنان هو الآن بند في ملفات أخرى، فيما يريد ماكرون تغيير ذلك، وأن يكون ملفاً مستقلاً. فرغم الجهود، لكن الحل قد لا يحصل إلا برفع مستوى التحشيد الدولي.

لكن النقطة التي أثارت فضول النواب المشاركين، هي عندما تساءلت السفيرة عن أي نموذج مالي واجتماعي يجب أن يُعتمد في لبنان، وأنّ المفتاح الحقيقي للأزمة الحاصلة هو بإرساء أسس جديدة. لكنها استدركت بالقول، إنّ هذا يعود للبنانيين وحدهم.

فهل عدنا إلى كلام الرئيس ماكرون عن العقد الاجتماعي الجديد في لبنان؟! أم أننا ذاهبون إلى المؤتمر التأسيسي المنتظر على أبواب جهنم في كافة القطاعات الصحية والطبية والمالية (الاقتصادية والسياسية) الحكومية المقفلة؟ أم أننا في طريق الانتخابات النيابية على نار الضغوطات والفوضى من الداخل والخارج، خاصة بعدما تردد بأنّ حزب الله يُبدي انزعاجا كبيرا من كلام رئيس التيار الوطني الحرّ النائب جبران باسيل؛ الذي أطلقه خلال مؤتمره الصحفي الأخير الأحد المنصرم والذي اعتُبر بأنه رصاصة الرحمة على مبادرة بري. ولفت باسيل إلى أنّه في "الملف الحكومي يريد الاستعانة بصديق" هو السيد حسن نصر الله، علما أن السيد نصر الله نفسه فوض الصديق نبيه بري!! لا بل أكثر، فقال باسيل: "أريده حكَماً وأأتمنه على الموضوع، أنا لا أسلّم أمري ومن أمثّل إلى السيّد حسن بل أأتمنه على الحقوق".

وفي تلك الجملة ألف وألف مغزى وإحراج لقيادة حزب الله. حيث يعتبر الحزب أنّه كان من الأجدى بباسيل أن يُنسِّق أولا معه هذا الطرح قبل طرحه في الإعلام، وذلك لعدم إحراج قيادة الحزب والسيد نصر الله شخصيا، وكان من الأفضل طرحه في الصالونات المُغلقة حتى لا يستثار خصوم باسيل المسيحيون الذين لم يوفروا بابا للانتقاد.

كذلك يعتقد حزب الله أنّ باسيل الذي حاول رمي الكرة في ملعب السيد نصر الله يتحمَّل هو أيضاً جزءا من مسؤولية عرقلة تشكيل الحكومة. فالحزب لبى مطلب باسيل وأقنع الحريري برفع عدد الوزراء من 18 إلى 24، على أن تُقسَّم الحقائب على أساس (8+8+8)، إلا أنّه وجد في النهاية تراجعاً من قِبل باسيل عن السير بهذا الطرح واستعاض عنه بالمطالبة بـ12 وزيراً. وهنا جزء من المعركة السياسية مع سيد البرلمان.

إضافة إلى ذلك لا يخفي حزب الله الانزعاج الكبير من محاولة باسيل "كسر" الرئيس المكلف سعد الحريري في عملية التأليف، وفي ذلك تعويم للحريري في بيئته، وكذلك إحياء للفتنة السنية الشيعية التي لا يريدها حتما حزب الله في زمن الناس على فوهة بركان وباتت لغة التظاهرات والفتن المتنقلة على الأبواب!!

في الخلاصة، وبانتظار المؤتمر الفاتيكاني المخصص للبنان في الأول من تموز/ يوليو المقبل وما سيصدر عنه من توصيات ومبادرات، خاصة بعد التقارب الفرنسي- الأمريكي – الروسي بشأن المعضلة اللبنانية وذلك بعد قمتي بوتين- بايدن ولقاء مجموعة السبع، تبدو مبادرة بري هي الوحيدة على الطاولة برغم تشظيها في الصميم. فهل تكون مشاهد الفوضى التي يكثر الحديث عنها والتي بدأت مطالعها مساء الخميس؛ مدخلا لإحياء مبادرة الرئيس بري وتفعيلها، أم مقدمة لبلورة حكومة انتخابات تجدد المشهد السياسي المغلق؟ علما أن لكل من الخيارات السالفة محاذيره على كل القوى بما فيها الشركاء الجدد بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. ولكن أيها اللبنانيون لا تنسوا عتمات لياليكم، وطوابير الذل التي تعيشون، وودائعكم المنهوبة يوم اقتراعكم القادم متى أتى، ولكن القاعدة تقول: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.