كيف تتأسس العلاقة بين المرأة والرجل، وأيهما المُبادئ إلى الآخر، والراغب أكثر في الارتباط بالآخر، والمحتاج أكثر إلى الآخر، وما الوسائل التي يستخدمها كل منهما في التقرب من الآخر، وكيف يتشكل الوعاء الذي يجمعهما، وما موقع كل منهما فيه؟
تتحول هذه الأسئلة إلى استراتيجيات في البعد الاجتماعي والثقافي تهدف إلى ضبط صيغ العلاقة بين أفراد الجنسين، وتحديد مساحة كل منهما داخل وعاء العلاقة على أساس المساواة أو المشاركة أو توزيع الأدوار أو الغلبة أو التكامل.
يمشي الروائي
الياباني "كوبو آبي" (1924- 1993) في الحقل الملغّم الفاصل بين المرأة والرجل، ويحاذر في روايته "امرأة في الرمال" من الوقوع في فخّ اللغة الوصفية المألوفة في تصوير العلاقة المطلقة بين المرأة والرجل.
وعلى الرغم من مرور ستين عاماً على صدور
الرواية، إلا أنها ما زالت حاضرة في الذهن بوصفها عملاً أدبياً شاملاً لكل سياق أو شكل أو صيغة يمكن أن تتخذها العلاقة بين المرأة والرجل.
السرّ في شمولية هذه الرواية هو أن أحداثها تدور داخل كثبان الرمال المتحركة، والعلاقة بينهما محكومة بكل ما تتميّز به الرمال من خصائص؛ التقلّب، والتبدل، واللزوجة، والتكرار، والعبثية، والأسر، والانزلاق، والرقة، والخفة، والنعومة، والجفاف.
مقدمات العلاقة تبدأ من عند الشاب المكتمل الرجولة، الراغب في استكشاف العالم الواسع، واستكناه الطبيعة، والبحث عن أدق التفاصيل فيها، فتقوده رحلته إلى شواطئ المحيط.
يحركه فضوله المعرفي إلى البحث في الحشرات وأنواعها ودورة حياتها وخصائصها البيولوجية، والرمال وتركيبها وخصائصها الكيميائية والفيزيائية، وتأثير كل منهما في الآخر داخل هذه البيئة الطبيعية المملوءة بالأسرار.
لا يدرك الرجل المستغرق كلياً في الطبيعة أنه جزء لا يتجزأ منها، وأن قوانينها تسري عليه كما تسري على الحشرات والأنواع.
وفي لحظة الاستغراق الكلي في الطبيعية الخارجية يجد نفسه في القلب منها، ويجد لزاماً عليه أن يحوّل بصره إلى الداخل ليكتشف خصائص نوعه وأسراره.
كان الرجل يطمح إلى "اكتشاف نوع جديد من الحشرات التي تعيش في الكثبان"، لكن الترتيبات الاجتماعية قادته إلى النزول في حفرة محاطة بالكثبان فيها بيت صغير تعيش فيه امرأة وحيدة.
أغراه رجال القرية المجاورة إلى النزول في الحفرة للمبيت ليلة واحدة، لكنهم سحبوا حبال السلم بعد نزوله ليجد نفسه أسيراً في المكان.
"الجمعية التعاونية" التي دفعه رجالها إلى الحفرة أصبحت سلطة قهرية تجبره على العمل، جنباً إلى جنب، مع المرأة في وظيفة عبثية قوامها صدّ زحف الكثبان داخل الحفرة، ومقابل التناوب مع المرأة في هذا العمل المضني يُسقط لهما رجال "الجمعية" ما يسد رمقهما من طعام وماء.
هذا التأطير الأوّلي للقاء الرجل بالمرأة يبدو إطاراً لشراكة أقل ما يقال عنها، من ناحيته، أنها سالبة للحرية، وخالية من الطموح، ومقيدة للذكاء، ومهلكة للجسد، ومضيعة للزمن.
من ناحيتها تستقبل المرأة نزول الرجل إلى "حفرتها" بوصفه قانوناً حتمياً من قوانين الحياة، وتنظر إلى الشراكة معه بوصفها هبة مستحقة من هبات "الجمعية التعاونية"، نظير صبرها وإخلاصها في العمل واضطلاعها بالمهة الأكثر صعوبة وخطورة، وهي مهمة التصدي للاندثار تحت ذرات الرمال الزاحفة.
تأسست العلاقة تحت سلطة قهرية خارجية، وفي ظروف اختبارية قاسية، كأنها تجربة في مختبر، والمختبر هو الحفرة، والظروف القاسية هي الأسر، وقلة الموارد، والعمل الشاق في معاركة ذرات الرمال التي لا تكف عن التسرب إلى الفم والعينين والأنف وكل ثنايا الجسد، وتنخر أعمدة البيت وجدرانه وتهدد بتقويضه.
لم يختر الرجل من ناحيته الدخول في التجربة، ولم تسعَ المرأة من ناحيتها إلى إدخاله فيها. ثمة ترتيب خارجي مسؤول عن اقتياد الرجل نحو المرأة، ومسؤول عن إعداد المرأة لاستقباله، ومسؤول أيضاً عن صناعة الظروف والشروط التي يحدث فيها اللقاء.
يقابل الرجل التجربة برفض شروطها، والتمرّد على ظروفها، وكره المرأة برغم انجذابه إليها.
ومن ناحيتها تقابل المرأة التجربة باستعدادها المسبق للتكيف مع ظروفها، ورغبتها بنقل خبرتها في التكيف إلى الرجل، وتعليمه قواعد العمل اليومية في الحفرة.
تواجه المرأة تمرّد الرجل بالصبر وقلة الكلام، إلا في الأشياء الأساسية المتعلقة بتوزيع المهام، وترشيد استهلاك الطعام والماء، وشروط البقاء.
يستغرق تكيّف الرجل وقتاً طويلاً، وتكون الرغبة الجنسية أقوى الأسباب في الاستقرار بجوار المرأة، إضافة إلى سبب ثان يتمثل في سلطة "الجمعية التعاونية" التي تراقبه، وتتحكم في موارده، فتعاقبه بحرمانه من الطعام والماء عندما يرفض العمل، وعندما يحاول الخروج من الحفرة.
وتبدو المرأة راضخة لسلطة "الجمعية التعاونية"، وراضية بشروطها، ولكنها في الوقت نفسه تميل إلى إرضاء الرجل، وامتصاص حالاته النزقة وعقلنتها، وتعوّل على الإمكانيات الكامنة فيه كي يجعل حياتهما المشتركة أفضل.
تتولد العاطفة تدريجياً في نفس الرجل نحو المرأة، ومعها يتنامى إحساسه بالمسؤولية عن بقائها على قيد الحياة، وحمايتها من تهديد الرمال المستمر، ويُعمل ذكاءه لا في محاولة الخروج من الحفرة، وإنما في محاولة تحسين شروط الحياة فيها.
وفي الوقت نفسه تظل فكرة الحرية تلح عليه، لا بوصفها بديلاً عن حياة "الحفرة" ومشاركة المرأة فيها، وإنما بوصفها تحدياً لسلطة "الجمعية التعاونية"، واستعادة لكرامته، وإعادة ترتيب لسيناريو اللحظة التأسيسية، ورغبة في أن تكون علاقته بالمرأة خارج "المختبر" وشروطه، وأن تكون حياته معها ملك يده، لا ملك يد "الجمعية".
يكتشف الرجل طريقة لتقطير الماء من الرطوبة الكامنة في ذرات الرمل العميقة. ويمنحه هذا الاكتشاف شعوراً بالتحرر من سلطة "الجمعية" والاستقلال عنها.
ويتزامن ذلك مع حلول موعد ولادة امرأته، وقدوم رجال "الجمعية" لاصطحابها إلى المستشفى، وتركهم سلم الحبال ممدوداً في الحفرة. "فمد يده في تردد، ولمسه بأطراف أصابعه، وبعد التأكد من أنه لن يتبدد، شرع في التسلق ببطء.. كان هذا سلم الحبال الذي طال انتظاره".
تحرر الرجل بعد أن تغيّرت فكرته عن الحرية، فقد أدرك أن الحرية ليست في الخروج من الحفرة، ولا بعيداً عن المرأة. "لم تكن هناك حاجة خاصة تدعوه إلى الإسراع في ما يتعلق بالهرب.. وبمقدوره أن يؤجل هربه إلى ما بعد ذلك".
لقد وجد الماء العذب في قلب الرمال الجافة القاتلة، وأدرك أن سرّ الحياة كامن في هذا المكان، مع المرأة التي تحمل طفله، في العلاقة المطلقة معها، التي يذوب فيها الزمان والمكان والمشاعر والرغبات والصراع. ويتذرى الجسدان وتتلاشى الذاتان، وتأخذان شكل الرمال.