كشفت
بلومبيرج قبل أيام عن تفاوض الصندوق السيادي
الصيني على
شراء 2 في المئة من أسهم
شركة أرامكو
السعودية، والحق في تخزين النفط وتكريره لمدة 50 سنة قادمة، ما يعني
أنّ السعودية ستتحوّل إلى أكبر شريك تجاري للصين.
وجاء
هذا الخبر بعد أسابيع قليلة من زيارة وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى المنطقة
ومباحثاته في السعودية مع الأمير محمد بن سلمان؛ حول كيفية التعاون بين الطرفين
على قاعدة التكامل بين رؤية الأمير محمد بن سلمان 2030، ومبادرة الحزام والطريق
التي أطلقها الرئيس الصيني شن جينبينغ عام 2013م، والحديث عن تعزيز الشراكة
الاستراتيجية بين الطرفين. تبع ذلك محادثة هاتفية بين الأمير والرئيس الصيني تركزت
- حسب الإعلام السعودي - على مبادرة الأمير المسماة "الشرق الأوسط
الأخضر"، والتي تعد من أكبر مشاريع التشجير في العالم والتي تتكامل مع مبادرة
محلية باسم "السعودية الخضراء"، وكيفية التعاون في مجال البيئة.
المحادثة بالطبع تطرّقت إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين، والأهم من
ذلك أنّها تعطي مؤشراً قوياً على الصعود المستمر في العلاقات السعودية الصينية،
وهو ما يطرح مجموعة من التساؤلات حول طبيعة هذه العلاقة، وآفاق تطورها.
يضع
البعض التطورات المتسارعة في العلاقة بين السعودية والصين، في سياق المناورات
السعودية مع إدارة بايدن والضغط عليه لتحسين موقفه من الأمير محمد بن سلمان،
وإرسال رسائل إلى البيت الأبيض بأنّ السعودية دولة تمتلك العديد من الخيارات وليست
مرهونة بشكل قدري للشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأنّ هنالك شركاء مهمون
مثل الصين؛ سيكونون سعداء للغاية بالتقارب مع الأمير محمد بن سلمان شخصياً بصرف
النظر عن كل الاتهامات الموجهة إليه، ومع السعودية كأكبر مصدر للنفط في العالم
وإحدى أهم دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ويبدو أنّ الرسائل السعودية قد وصلت
بالفعل لإدارة بايدن، فقد صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن على أمريكا أن توطن نفسها للعمل مع الأمير محمد بن سلمان، لأنه
سيبقى في الحكم فترة طويلة، ما يمكن أن يفهم منه أيضاً أنّ الأمريكيين لم
يعودوا مهتمين باستبداله بأحد أقاربه أو دعم المعارضين لحكمه في الخارج.
لكن حجم
التبادلات بين السعودية والصين والتسارع الصاروخي في العلاقة بين الطرفين لا يبدو
أنّه بغرض المناورة مع أمريكا فقط، إذ رغم استشعار السعودية للتراجع في الدور
الأمريكي على المستوى العالم، وعلى مستوى الإقليم، فإنّها ربما تكون في حالة إعادة
تموضوع فعلي وإعداد قائمة جديدة للحلفاء والخصوم. وهذا ليس مستغرباً، فهذا السلوك
لم يقتصر على السعودية وحدها، فقد رأينا كيف عادت العلاقات المقطوعة منذ ثماني
سنوات بين أنقرة والقاهرة قبل أيام، وصدرت تصريحات من رئيس تركيا
ووزير الخارجية
تثني على الأخوة بين الشعبين الشقيقين، كما أنّ هناك بعض التصريحات التركية
الإيجابية تجاه الإمارات، علماً بأنّ الإمارات اليوم هي أحد أهم مستوردي السلاح
التركي.
في نفس
السياق، هل يمكن تكون المحادثات السعودية شبه العلنية
مع إيران مؤشراً على إعادة
التموضع السعودي؟ لا يمكننا الجزم في هذه المرحلة، ولكن بما أنّ الولايات المتحدة
الأمريكية تسعى للانسحاب من المنطقة وتحسين علاقتها مع
إيران من خلال العودة إلى
الاتفاق النووي ورفع العقوبات الاقتصادية، فما الذي يمنع السعودية من أن تحذو
حذوها؟ وخصوصاً أنّها تعلم أنّ علاقة أفضل مع إيران قد تعني تحسّن الحالة الأمنية
في
حدّها الجنوبي مع اليمن، وتوقف الصواريخ الحوثية والطائرات بدون طيار التي
تستهدف المواقع الاستراتيجية في المملكة، وقد يقود أيضاً إلى حلّ الوضع برمته في
اليمن، وتوقف الاستنزاف المستمر للاقتصاد السعودي منذ 2015م. علاوة على ذلك، يمكن
أن يؤدي إلى علاقة أفضل أيضاً مع كل من العراق وسوريا وهي دول مهمة في المنطقة.
في المقابل،
فإنّ الظهير الأمريكي الذي كان يستند إليه الأمير محمد بن سلمان، متمثلاً في كل من
دونالد ترامب وجاريد كوشنر، قد أصبح فعلياً خارج السلطة، وحتى على المستوى
الإقليمي فإنّ بنيامين نتنياهو هو الآخر يوشك أن يفقد قوته، فهل سيكون ذلك سبباً
إضافياً في التقارب مع إيران، وخصوصاً أنّ التهديد الإيراني يمكن الحد منه عبر
علاقات أفضل مع كل من الصين وباكستان، وهو ما يبدو أنّه
يمضي قدماً، وعلاقات قوية
مع كل من أنقرة والقاهرة، فكل من هاتين الدولتين الكبيرتين لا يسعدهما أن تتمدد
إيران في فضاء طالما اعتُبر الحديقة الخلفية لهما؟
إن
إعادة التموضع السعودي ليست أمراً مستحيلاً أو مستبعداً تماماً، فالسعودية تمتلك -
دون شك - عناصر قوة عديدة تمكنها من ذلك إن هي أرادت، فهي فضلاً عن كونها من أغنى
دول العالم، لديها تأثير هائل في العالم الإسلامي عبر مراكمتها لقوتها الناعمة
التي بنتها خلال فترة الحرب الباردة، وباعتبارها - إلى حد بعيد - مصدر المشروعية
الإسلامية التي ينشدها العديد من زعماء الدول الإسلامية، بحكم وجود الحرمين
الشريفين ومهبط الوحي في أرضها، وهي أكثر دولة مؤثرة في منظمة التعاون الإسلامي،
وهي كذلك تقع في واحدة من أهم المناطق في العالم من الناحية الجيواستراتيجية،
وباستطاعتها إن هي وظفت عناصر القوة هذه، أن تقود سياسة مستقلة وفق أجندة وطنية
وإسلامية، تؤمنّ لها الأمن والاستقرار والرخاء دون الحاجة لأي من أمريكا أو
إسرائيل.
ولقد
رأينا كيف تورّطت السعودية خلال الفترة الماضية بصراعات شبه عبثية في كل من اليمن
وسوريا، استنزفت المقدرات السعودية دون تحقيق أي مردود فعلي، كما دخلت في مواجهة
مجانية مع كل من تركيا وقطر، مما ترك أبلغ الضرر على مصالحها وصورتها، ومع ذلك
فيبدو أنّها اليوم على مفترق طرق وتحاول أن تتلمس طريقاً جديداً. فهل ستستمر في
القيام بمغامرات غير محسوبة وذات نتائج مدمرة للذات، أم ستمضي باتجاه تغيير حقيقي
في سياستها الخارجية؟
إنّ
التآكل في الدور الأمريكي والإقبال الصيني على المنطقة، يمثّل فرصة تاريخية كي
تعيد المملكة العربية السعودية ضبط سياستها الخارجية بالكامل، وأن تتجه إلى وضع
تكون فيه أكثر راحة مع جوارها، وأكثر انسجاماً مع هويتها الإسلامية، حيث تضع
مصالحها الذاتية ومصالح الأمّة الإسلامية في بؤرة اهتمامها، بعيداً عن الضغوظ
الخارجية أو إكراهات الشراكة الأمريكية.