كنت أعد العدة للكتابة عن زيارة الرئيس
التونسي قيس سعيد للقاهرة، قبل أن أراه على الشاشة يخطب في قيادات جيش بلاده،
بخطاب حربي، اعتقدت معه أنه في حالة تعبئة لحرب التحرير الكبرى، وهو يخاطبهم بعبارات التفخيم، وهي عبارات مرتبطة بإعلان الحروب، ولا يستخدمها حتى الرؤساء- الجنرالات في الأحوال العادية!
وإذ تابعت ردة فعل مسؤولين تونسيين على هذا اللقاء، فقد بدا لي أن الهدف منه هو تنصيب قيس سعيد ذاته بذاته، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولم يبق له إلا أن يرتدي ملابس الحرب ليعلن صيحتها الكبرى: إلى الأمام.. دار دار.. زنقة زنقة! فالحرب داخلية وليست خارجية، والاستدعاء لمواجهة تحديات على التراب التونسي وليس على الحدود، والمشهد لا يخفى على لبيب، فالمهيب الركن قيس سعيد يستقوي بالجيش على الشعب وإرادته!
إذ تابعت ردة فعل مسؤولين تونسيين على هذا اللقاء، فقد بدا لي أن الهدف منه هو تنصيب قيس سعيد ذاته بذاته، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولم يبق له إلا أن يرتدي ملابس الحرب
وبعد تفكير، لم أجد زيارة قيس سعيد للقاهرة منبتة الصلة بهذا اللقاء، فالرجل يشعر أنه "غريق"، وكما ورد في الأمثال، فإن الغريق يتعلق ولو في قشاية.. (عامية قشة)، وقد ذهب للقاهرة لعل الجنرال يملك القدرة على تعويمه، ثم عاد لتونس فواصل فتنة كان قد بدأها منذ الأسابيع الأولى له في الحكم، وهو يستدعي الجيش ليقوم بمهمة تعويمه. ولم يكن ساعتها وهو الرئيس المنتخب بأغلبية التونسيين، يعاني الغرق، لكنه مجرد الإحساس بأنه غريق تبدو أنامله نعوشاً (كما يقول الحلاج بتصرف)، وهو الإحساس الذي أثر على طبيعة أدائه إلى أن أغرق نفسه بنفسه، وكانت الفرصة متاحة أمامه ليكون الحكم بين السلطات، والحكم بين الأحزاب في ما اختلفوا فيه، لكن خالفه التوفيق، لأنه يعيش في جو خلقه حوله من الدسائس والمؤامرات، ولمن يستخدمونه أداة في تصفية حسابات مع خصومهم السياسيين الذين لم يكونوا خصوماً له.
ليس في
الدستور التونسي نص يفيد أن رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو أمر منصوص عليه في الدساتير
المصرية المتعاقبة، لكن في الفصل (77) منه نص على أنه ضمن مهام رئيس الجمهورية، أن يتولى القيادة العامة للقوات المسلحة، فعندما يفتعل هو صفة "القائد الأعلى للقوات المسلحة"، ويعيد فيها ويزيد في خطابه، فيمكن لنا القول إنها رسالة في بطن الشاعر!
يخرق السفينة:
والشاعر لم يتوقف أبداً عن استدعاء
القوات المسلحة لمهمة تعويمه، ولتكون له سنداً وظهيرا وقد بدأ يستشعر أنه وحده بدون جماهير، فلا مانع لديه من أن يخرق السفينة، وبدت تونس وقد انقسمت إلى قسمين لا ثالث لهما: حزب حركة النهضة والدولة القديمة، وبدت الأطراف الأخرى سواء التي تنتمي للثورة أو لليسار ليست أكثر من أقلية؛ بعضها يمارس الصخب السياسي، وبعضها يحاول أن يثبت وجوده بالأداء الجاد. وقد رأى الرئيس أنه بلا حزب، أو ظهير خالص له، فأبى إلا أن يكون جزءاً من الأداء الصاخب، الذي يستهدف التعويق، وتمثل عبير موسي النموذج الصارخ له، وهي في كل "طلعاتها الجوية" لا تتحرك إلا بعدد قليل من الأنفار، لا يمكن أبداً أن يكونوا تمثيلاً حقيقيا لحزب التجمع الدستوري، أو للدولة القديمة!
وإذا كان قيس سعيد قد جاء من المجهول السياسي، فلا تاريخ ولا حزب أو تيارا، إلا أننا إذا حسبنا الجولة الأولى من الانتخابات، فقد وقف معه تيار شبابي غير مؤدلج، مكنه من أن ينتصر على المؤدلجين أصحاب التاريخ السياسي، ليقفز للقمة منافساً في جولة الإعادة. وكان عليه أن يتعامل مع من أوصلوه للقمة من المجهول على أنهم ظهير سياسي معتبر، بدلاً من هذا الشعور بالوحدة الذي تمكن منه. وإذا كان فوزه - في النهاية - بسبب عوامل عدة؛ منها الملف المالي والقضائي لمنافسه، وكثير ممن وقفوا معه في جولة الإعادة لم يصوتوا حباً في زيد، ولكن كراهية في عمرو، وكثير منهم من تيار النهضة، فقد تسبب له في عقدة نفسية، بدلاً من أن يستوعب هذه اللحظة فيواصل كسبهم في صفه، بأن يكون رئيساً تهرع إليه كل مؤسسات الدولة عندما يشتد بينها الخلاف، بالأحرى أن يكون كما أراد السادات وفشل "كبير العائلة"!
قد يمني النفس بأن يكون سيسي جديدا في المنطقة، فيحكم بقوة السلاح، ويستولي على كل السلطات، مثل حليفه الجديد في القاهرة
بيد أنه ترك ما في يده ليبحث عما في جيبه، فبدأ في عملية استدعاء الجيش، ولم يكن لقاء الأحد (18 نيسان/ أبريل) هو الأول من نوعه الذي يعطي إشارات بأن الرجل يتمنى أن يؤوب الجيش معه، ليكون ظهيره السياسي، وقد يمني النفس بأن يكون سيسي جديدا في المنطقة، فيحكم بقوة السلاح، ويستولي على كل السلطات، مثل حليفه الجديد في القاهرة.
قدرة الجيش:
منذ عدة شهور قال إن عدداً من الوزراء (لم يسمهم) طلبوا منه السماح بتدخل الجيش للمساعدة في تسيير قطاعات مدنية كالصحة والتعليم، باعتبار الجيش هو الأسرع والأنجع!
وإذا كان للجيش المصري تجارب في البناء والتشييد، حولها جدل وفي الجملة لا تجعل منه شركة عملاقة كالمقاولين العرب أو مختار إبراهيم، إلا أن هذه التجارب قد تغري بمطالب منافقة من هذا النوع، فما هي خبرة الجيش التونسي وما هي تجاربه في تسيير قطاعات مدنية كالصحة والتعليم؟ والسؤال: من هم هؤلاء الوزراء ثكلتهم أمهاتهم؟!
ما هي خبرة الجيش التونسي وما هي تجاربه في تسيير قطاعات مدنية كالصحة والتعليم؟ والسؤال: من هم هؤلاء الوزراء ثكلتهم أمهاتهم؟!
وفي أيار/ مايو الماضي كان يفتتح مستشفى عسكريا بالجنوب التونسي، عندما أعلن إمكانية سحب الشعب الوكالة من نواب في البرلمان. وإعلان هذا من موقع عسكري له دلالته الخاصة التي هي أيضاً في بطن الشاعر!
وفي تموز/ يوليو الماضي قال الشاعر أثناء زيارة ليلية لفيلق القوات الخاصة إن الجيش قادر على التصدي للمؤامرات الخارجية والداخلية والمتربصين بالشرعية.
وإذا كان التصدي للمؤامرات الخارجية من المهام الطبيعية للجيوش، فإن رسالة المؤامرات الداخلية والمتربصين بالشرعية واضحة، بعد أن أثبتت الأيام أنه لا يقصد إرادة الصندوق التونسي إلا في ما يخصه، فهو هنا كان يتحدث عن شرعيته هو!
وفي الخطاب الأخير لم يتحدث عن مؤامرة خارجية، إنما اندفع يتكلم عن أن الجيش مطالب بتطبيق القانون على كل إنسان كائناً من كان، وعاد وزاد وكرر "كائناً من كان"، لتصل الرسالة إلى الجميع، ويصل هدفه للجيش!
إن نجاح الثورة التونسية وفشل الثورة المصرية لا يرجع إلى ذكاء قادة حركة النهضة وغباء قادة الإخوان المسلمين، ولكن لأن الجيش التونسي كان منذ تأسيسه بعيداً عن السياسة، وهذا من حسنات بورقيبة، لكن يبدو أن قيس سعيد لن يتوقف إلا بعد أن يجعل عاليها سافلها.
لقد ذهب الرئيس التونسي إلى العنوان الغلط، فحتى خبرة الجنرال المصري في الانقلابات العسكرية لم تكن أكثر من "ضربة حظ"، ويحلم قيس سعيد إن اعتقد قدرته على أن يكون الناجي الوحيد إذا وقع الانقلاب العسكري
ولعل زيارته لمصر كانت بهدف استلهام الدروس المهمة في هذا الإطار باعتبار السيسي صاحب تجارب ملهمة، فقد بدت الزيارة ارتجالية بدون جدول أعمال، فلم يوقع اتفاقية واحدة، وإنما شغل نفسه بالمكايدة السياسية، دون أن ينشغل بعقلية السيسي، فذهب لزيارة ضريح عبد الناصر
خصم الإخوان، ولم ينتبه إلى أن عبد الناصر عند السيسي ليس أكثر من صاحب هزيمتين: حرب اليمن وهزيمة حزيران/ يونيو، وقد حاولوا من قبل أن يستنطقوه ليقول كلاما طيبا عن عبد الناصر، فلم يجد ما يقوله إلا أنه كان محظوظا بإعلامه، يقصد تجربة التأميم!
فالسيسي عندما حلم رأى السادات في أربعة منامات، ولم يشغله عبد الناصر الذي شغل قيس سعيد، فذهب إلى ضريحه ليكيد للنهضة، فاته أن الأجيال الجديدة للإخوان تجاوزت الصراع الذي كان بين الجماعة وناصر، وليتهم لم يتجاوزوه، فلو ظل ماثلا في ذاكرتهم لأخذوا منه العبر والدروس، فلم يكرروا نفس الأخطاء مرة أخرى في العلاقة مع العسكر الجدد!
لقد ذهب الرئيس التونسي إلى العنوان الغلط، فحتى خبرة الجنرال المصري في الانقلابات العسكرية لم تكن أكثر من "ضربة حظ"، ويحلم قيس سعيد إن اعتقد قدرته على أن يكون الناجي الوحيد إذا وقع الانقلاب العسكري، فلا يدرك لقلة خبرته بالحياة وبالتاريخ أنه ليس كل من هو قادر على "تحضير العفريت" قادراً على صرفه!
إنه كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.
twitter.com/selimazouz1