العدو.. ما لا بد وما ليس منه بد

تمثل أمريكا لإيران وإيران لأمريكا أهمية استراتيجية كبيرة انطلاقا من فكرة "العدو الخطر"؛ الذي إن لم يكن موجودا فعلينا البحث عن طرق لإيجاده. أمريكا ومن نهاية الحرب العالمية الثانية ولها في العالم كله عدو ما وفي الشرق الأوسط تحديدا، سنجد أنه طوال العقود الخمسة الأخيرة من القرن السابق دائما كان هناك عدو أو حالة تصنيع عدو، من مصر ناصر إلى ليبيا القذافي إلى عراق صدام إلى إيران الخميني.

والمدهش أنك ستجد أنه في جميع هذه الحالات ما هو فوق الطاولة من عداء يكاد يقترب من حالة تحارُب، إلى ما هو تحت الطاولة من تفاهم يكاد يقترب من حالة تحالف، لكن في كل الأحوال لا بد من عدو. الطرفان يحققان مصلحة حيوية وهامة من هذه الحالة، مع فارق كبير بالطبع في تعريف تلك المصلحة ومدى أهميتها، فهي بالنسبة لأمريكا مصلحة تتصل بالسيطرة والنفوذ العالمي ودنيا المال والسلاح والأفكار. لكن على الطرف الآخر ستجدها محصورة في أمن النظام الذي يحكم فقط وإن زادت أو نقصت قليلا أو كثيرا.. ففقط بمقدار ما تحتاجه "الطبخة".

لكن الحقيقة التي نبعت منها الفكرة هي في الأصل حقيقة وجودية تتصل بوجود الانسان، والأهم بطبيعة هذا الإنسان الإحساس بالخطر، سنتذكر وصف القرأن للسفينة التي حمل عليها سيدنا نوح طلائع الحياة الجديدة على أرض ما بعد الطوفان تقول الأية الكريمة في سورة هود (وهي تجري بهم في موج كالجبال..). قطعا هناك أهمية للإشارة إلى وصف الموج بأنه كالجبال في علوه وارتفاعه، ما يجعل الخيال يرى المشهد كأن السفينة تكاد تلقي بمن عليها في عباب هذا الموج المرعب. الإحساس بالخطر إذن مهم للإنسان كي يظل موصولا وصلا صلبا صحيحا بكل ما يوفر له الأمان.

فيلسوف المثالية، الألماني الشهير فريدريش هيجل (1770- 1831م) يقول حول ذلك: إنه دون احتمال الحرب والتضحيات التي تتطلبها هذه الحرب سيصبح الإنسان ليّن العريكة ومستغرقاً في شهواته وسيتدهور المجتمع ويصبح مستنقعا للملذات.. وهذا الكلام صحيح تماما، لكن تطبيقاته من الممكن أن تكون أقل عنفا وشراسة مما هي عليه الآن، بالأحرى مما طبقها به الغرب.

مارتن هيدجر (1889- 1976م) صاحب الكتاب الشهير "الوجود والزمان" وأحد من حدثنا عنهم كثيرا أستاذنا العظيم د. عبد الوهاب المسيرب.. هايدجر يقول في هذا المعنى (العدو/ الحرب): الإنسان يجب عليه أن يخلق لنفسه عدوه الذاتي، كي لا يسقط في العطالة، وكل ما هو موجود في الحياة يخضع لمبدأ الصراع، وحيث لا وجود للصراع والهيمنة هناك تفسخ وتحلل وانهيار في المجتمع.

".. إنه عقار قوي لبقاء الدولة أو المجتمع ولاستمرارية نظام ما، وهو من أنجح العوامل التي تبلور الهوية القومية، هكذا يقول "بيار كونيسا"، المستشار السابق في وزارة الدفاع الفرنسية في التسعينيات في كتابه "صنع العدو" (ترجمة أ. نبيل عجان) والذي يرى أيضا أن العدو يقدم خدمات جليلة، يعمل مهدئا لقلقنا الجماعي الذي لا بد من تهدئته بإيجاد عدو حقيقي أو خيالي، كما أنه ضروري من أجل صهر الأمة وشد أجزائها إلى بعضها البعض إزاء خطر خارجي، وبذلك يتحقق تجاوز التناقضات الداخلية المهيأة في كل وقت للانفجار، ويؤدي دوراً اقتصاديا هاما لأنه يقوم بتشغيل ماكينة الصناعات العسكرية والعلمية وتفريغ فائض القوة والإنتاج لديها. لكنه في الأنظمة الاستبدادية الشمولية التي تواجه مصاعب داخلية وأخرى في بنية النظام يكون ضرورة استراتيجية كبرى لها، كونه يمثل مخرجا من تلك الأزمات، لأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

يقول "كونيسا": بعد تفكك الاتحاد السوفييتي أصبحنا من دون عدو، ومع غياب العدو إما أن تصرف موظفيك وإما أن تصنع عدوا جديدا!.. ويضيف: عملية صنع العدو تتم عبر مراحل عدة تبدأ ببناء أيديولوجيا استراتيجية محددة وخطاب قوى ومثير وصناع رأي وآليات صعود نحو العنف، والتي هي أصلا بدون أسباب موضوعية في معظم الأوقات. ويضرب مثلاً بـ11 أيلول/ سبتمبر 2001 حين حول فريق عمل الرئيس الامريكي الأسبق بوش الأنظار إلى العدو الإيراني والعراقي وكوريا الشمالية!! لينتقم منهم أجمعين، مع العلم أن هذه الدول لم تكن لها علاقة بما جرى.

الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشة (1844- 1900م)، أستاذ أساتذة الخطر والعيش في الخطر، يقول أيضا حول هذا المعنى كلاما خطيرا أشبه بمقدمة سيناريو الأفلام: من يحيا على محاربة عدوه فمن مصلحته أن يدعه يعيش، فيجب أن لا يكون العدو مستهدفا بالقتل دائما وفي كل الأوقات، ذاك أن من مصلحة القاتل أن يبقي في عدوه رمقا يستمد منه حياته وحيويته ومبرر وجوده وبنائه العسكري والسياسي والأيديولوجي!

لا بد أيضا من الإشارة إلى ذاك العدو الذي أصبح يمثل قاسما مشتركا لدى كل من يبحث عن عدو، بغض النظر عما سيفعله بهذا العدو!.. وأعني به "الإرهاب". أصبح الإرهاب العدو ذا الملامح الكونية العريضة الذي أصبح يدندن به الجميع أجمعون، سواء داخل الحدود أم خارج الحدود أم عبر المحيطات والقارات.

أذكر أنني أول مرة سمعت فيها هذا المصطلح على النحو الذي شاع بعدها، كان في محاضرة بمعرض الكتاب الدولي في القاهرة سنة 1990م للأستاذ لطفي الخولي (1929- 1999م)، عراب كوبنهاجن واليساري المصري ذي التاريخ متعدد المحطات، أخذ الرجل يتحدث يومها عن خطر عالمي - دون أن يسميه في المقدمة - ويعدد في تأثيراته المهولة، لدرجة أنني أعطيته كل انتباهي وآذاني الصاغية، وإذا به يقول: إنه الإرهاب!! فتلفتت عيني على الأطلال سائلا: إرهاب؟ وعالمي؟.. ومن أين له العلم بهذا التجهيز المبكر جدا لهذه الملحمة التي عاشها ويعيشها العالم كله طوال هذه العقود الماضية؟ بعدها عرفت الكثير مما ينبغي أن يعرف حول هذا الملف الملفوف بكثير من الأسرار والأخبار والتنظيمات والمؤامرات والألاعيب والسراديب، والذي أصبح صناعة قائمة بذاتها لها كل مكونات الإعداد والتصنيع والتسويق، وذلك حتى يطوي التاريخ مطوياته القائمة ويتم اختراع مطوية جديدة لعدو جديد وخطر جديد.

twitter.com/helhamamy