قضايا وآراء

إلى أين تأخذنا الفاشية والشعبوية والتوافقات الانتهازية؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
في عهد الترويكا، ذكر الرئيس التونسي المناضل محمد منصف المرزوقي في إحدى خطبه "السافرات" باعتبارهن اللاتي لا تضعن النقاب، أي اللاتي تشكفن وحوههن سواء أكن محجبات أم غير محجبات. وقد كان ذكرهن في إطار خطاب حقوقي يؤسس للتسوية بين جميع النساء بصرف النظر عن مضافهن الاجتماعي (اللباس، الأيديولوجيا..).

ولكنّ تلك الكلمة كانت مرتكزا لحملة شعواء على الرئيس (باعتباره الهدف المتاح رغم علمانيته ويساريته ونضاله الحقوقي) وعلى حركة النهضة (باعتبارها الهدف المقصود بحكم مرجعيتها الإسلامية وبحكم ثقلها العددي في المجلس التأسيسي). ومع اتخاذ الهجمة على الرئيس بعدا نسقيا كان من الصعب على أي مراقب منصف للشأن التونسي أن يعتبر الأمر مجرد "سوء فهم" عفوي، وليس عملية شيطنة و"وصم" مقصودة لأغراض تتجاوز الانحياز للحقيقة أو الدفاع عن المرأة.

لقد كانت تلك الحادثة مجرد مثال من جملة عشرات الأمثلة التي تعكس تمكّن "نظام التفاهة" - في شكله "المُتَونَس" - من عقول أغلب مؤسّسي الجمهورية الثانية، كما كانت تجسيدا لعنصر بنيوي في الحقل العام التونسي، وهو عنصر تمكن صياغته في القاعدة التالية: كلما انتشرت الخطابات السفسطائية واستراتيجيات التزييف ومنطق الصراع الوجودي؛ عظمت حظوظ "التوافقات النفعية الهشة" (وكثرت معها الأزمات الدورية لمنظومة الحكم التي ما زلنا نعيشها إلى حدود هذه اللحظة)، وضمرت حظوظ التوافقات العقلانية الصلبة والمؤسسة للمشترك المواطني الاجتماعي (وقلّت بالتالي إمكانية بناء مشروع تحرري سيادي أو ظهور كتلة تاريخية تقطع مع وضعية التخلف والتبعية والخضوع لمافيات الداخل وإملاءات الخارج).
كلما انتشرت الخطابات السفسطائية واستراتيجيات التزييف ومنطق الصراع الوجودي؛ عظمت حظوظ "التوافقات النفعية الهشة"

"المجازات الميتة" أو الثقب الأسود المهدد للثورة

لعلّ من أهم الصعوبات التي تواجهها أية مقاربة موضوعية للشأن التونسي هي تلك المتمثلة في "ضبط" المصطلحات المتداولة، والتحقق من مدى مطابقتها لموضوعها بعيدا عن فتنة الادعاء الذاتي أو سلطة الوصم. ففي دولة يكاد كل ما فيها أن يكون "مجازات ميتة" لا محصول تحتها واقعيا (مجاز الاستقلال، مجاز الوحدة الوطنية، مجاز التقدمية، مجاز الاستثناء التونسي، مجاز العروبة والإسلام، مجاز السيادة، مجاز الحداثة، مجاز الحريات العامة الخ) كانت أغلب الأطراف المهيمنة على المشهد العام بعد رحيل المخلوع - وما زالت - تسعى إلى إلحاق الثورة نفسها بهذه المنظومة من المجازات الميتة التي لا يمكن لاستراتيجيات النواة الصلبة لمنظومة القديمة - استراتيجيات استعادة التوازن وإعادة التوسع والانتشار - أن تنجح إلا بها، ومن خلال "التعامد الخفي" (أي الاعتماد المتبادل وظيفيا) بين أصناف الشعبوية والفاشية والتوافقات الانتهازية التي تسيطر على المشهد العام في بلادنا.

غياب المشروع الوطني وهيمنة الأيديولوجيات الوظيفية

بحكم صعوبة الحديث عن هويات سياسية أو إيديولوجية "صافية"، فإن وصم أي فاعل جماعي بالشعبوية أو الفاشية أو التوافقية الانتهازية دون غيره يصبح أمرا في غاية الصعوبة، اللهم إلا على محترفي المجهود الذهني الأدنى من أصحاب الأجندات السياسية ومنتحلي الصفات. فبغياب مشروع وطني جامع، ونظرا لحرف الصراع عن مداراته الأصلية صوب المدارات الهووية الثقافوية، يستحيل على أي خطاب سياسي - مهما كانت مرجعيته الأيديولوجية - أن يسلم من آفات الشعبوية والفاشية والتوافقية الانتهازية اللازمة كلها للفاعلية السياسية والتجييش الانتخابي من جهة أولى، والضرورية - من جهة ثانية - للمحافظة على الهوية الجماعية الحقيقية أو المتخيلة، كما يستحيل على أي "خطاب واصف" أن يكتسب أية شرعية عند جميع أشياع "الخطابات الموصوفة"، لأن أولئك الأشياع لا يطيقون رؤية ذواتهم إلا في ما يعيد إليهم أوهامهم ومقدساتهم، سواء أكانت دينية أم علمانية، ويعتبرون كل نقد تهديدا وجوديا يجب مواجهته بالعنف (في شكليه الرمزي والمادي).

هل يوجد أي حل في المدى المنظور؟

بناء على ما تقدم، ليس من الغريب أن تصل تونس إلى أزمتها السياسية الحالية، بل قد لا يكون من التشاؤم أن نتوقع ظهور أزمات دورية قادمة مهما كان المخرج البراغماتي والهش من الأزمة الحالية بين الرئاسات الثلاث.
في بلد هذا شأنه قد يكون البحث عن مخرج من الأزمة بوجود هذه الأطراف - الرافضة لأي مراجعات أو نقد ذاتي - ضربا من العبث، وقد لا يقل عبثا عن ذلك أن ننتظر منها أداء مختلفا يُفقدها علّة وجودها ذاتها، أو أن ننتظر ظهور "كتلة تاريخية" تعيد هندسة المشهد العام على الأقل في المدى المنظور

ففي بلد يصبح فيه ورثة المخلوع سلطة قضائية وتنفيذية موازية (مهاجمة مقر الاتحاد العالمي المسلمين والعبث بمحتوياته رغم وجود قرارين قضائيين لفائدة الاتحاد)، وفي بلد يتحدث رئيسه عن استعداده لدخول "ساحات الوغى" ضد بعض شركائه في الوطن، ويطعن في شرعية الحكومة من جهة أدائها رغم رصيده الصفري في ملفي العلاقات الخارجية (خاصة الديبلوماسية الاقتصادية) والأمن القومي، وفي بلد يفاخر رئيس برلمانه وزعيم أكبر كتلة نيابية فيه بأنه من كان وراء سقوط قانون العزل السياسي، ثم يدافع بحماسة عن "توافق انتهازي" يتمثل سقفه الأعلى في إعادة تدوير الميراث البشري للمخلوع وتأبيد وضعية التخلف والتبعية والقبول بوضعية شاهد الزور؛ كي تعترف به المنظومة القديمة وتطبّع معه جزئيا، وفي بلد تضيق "خيمته الكبرى" (الاتحاد العام التونسي للشغل)، إلا على من كان يساريا أو قوميا أو من ورثة الشُّعب المهنية أو "مبايعا" للاتحاد بوصفه "المحرك الذي لا يتحرك، والسائل الذي لا يُسأل عمّا يفعل، وفي بلد أصبح فيه الإعلام آلة كبرى للتزييف ولتبيض المشبوهين والانحياز المفضوح لأطراف أيديولوجية معروفة.. في بلد هذا شأنه قد يكون البحث عن مخرج من الأزمة بوجود هذه الأطراف - الرافضة لأي مراجعات أو نقد ذاتي - ضربا من العبث، وقد لا يقل عبثا عن ذلك أن ننتظر منها أداء مختلفا يُفقدها علّة وجودها ذاتها، أو أن ننتظر ظهور "كتلة تاريخية" تعيد هندسة المشهد العام على الأقل في المدى المنظور.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)