برزت مؤخراً وفي أعقاب رواج تطبيقات
التواصل الاجتماعي؛ أنماط جديدة من المساهمات الثقافية في هذه الفضاءات، فما إن بدأت أشكال التأثير ضمن هذه الفضاءات بالتبلور مع تبلور مقاييسها ومعاييرها العامة؛ حتى ظهرت إلى الواجهة أسئلة تتعلق بطبيعة التغييرات التي طرأت على مضمون المحتوى الذي يقدمه المؤثرون من
المثقفين في المجال العام، وفقاً لتغير المعايير التي تتبع في الفضاء الاجتماعي الافتراضي العام والتي تقيس درجة حضور وتأثير شخصية ثقافية ما. اللافت أن هذه المعايير تنحصر بالآتي:
أولاً: معيار المتابعات: مدى حصول الشخصية الثقافية على أعداد متابعين في فضاء التواصل العام الاجتماعي، فتحول هذا المعيار لأداة قياس درجة تأثير أي شخصية ثقافية على الجماهير، فهناك من راح يقيّم أهمية مشاريع ثقافية بأكملها على أساس درجة رواجها بين العامة ومدى حظوتها بانتباه ومتابعات الجماهير، فهناك جمهوريات فيسبوكية وتويترية لبعض الشخصيات الثقافية جعلتها محط الأضواء.
ثانياً: معيار القبول الاجتماعي: والذي يتمحور حول مدى انسجام الفكر والمشروع الثقافي الذي يطرحه أحدهم مع ما تقوم عليه المجتمعات، والتي غالباً ترحب بعدم المساس بما ترثه عن آبائها وأجدادها.
ثالثا: معيار القبول السياسي لدى القاعدة الشعبية، ويتلخص هذا المعيار بكون الشخصية الثقافية الحاضرة في المجال العام الافتراضي تمثل جهة حزبية في مجتمعاتها، مما يجعل مشروعها الثقافي محميا من قبل هذه المجموعة التي ترحب وتهلل للمحتوى الفكري الذي تقدمه هذه الشخصية في الفضاء العام، بغض النظر عن إخضاعها للمحاكمات النقدية.
رابعاً: معيار القبول السياسي لدى النخب الحاكمة والتي غالباً ما تكون ديكتاتورية قمعية، وتعكف على شن هجومها الافتراضي وتوظيف الذباب الالكتروني أو الرقابة الأمنية؛ للهجوم على كل ما يصدر إلى العلن من أفكار تسعى لزعزعة النظام السياسي القائم.
خامساً: معيار القبول الديني في المجتمعات التي تطبعت بطابع ديني، والتي في المحصلة تميل للاستماع إلى كل ما يتجنب الحديث الفكري الديني، وذلك لأنها في معظمها تحرص على التقليد الديني المتوارث وعدم المساس بمكوناته في أي سياق فكري كان. ويندرج تحت هذا المعيار أيضاً القبول الديني للشخصية الثقافية بناء على ما تطرح نفسها من نواحي المظهر أو الجوهر بشكل مطابق للموروثات التقليدية الدينية.
إن هذه المعايير التي حددت درجة قبول الشخصيات الثقافية في المجال الاجتماعي العام تسببت في الكثير من الأزمات لدى المثقفين العرب؛ الذين لديهم شهوة الحضور في المجال الاجتماعي العام الافتراضي. وأذكر منها:
أولاً: أزمة تراجع المضمون والمحتوى الفكري كي يتطابق مع توجهات الجماهير التي تحدد مدى انتشار المثقف في أوساطها، لذلك هنالك من التقط رسالة الجمهوريات الافتراضية في الفضاء العام وراح ينتج فكرياً وثقافياً، ما يغازل تلك الجمهوريات ويبتعد عن الاشتباك مع القضايا الملحة فكرياً واجتماعياً وسياسياً وإنسانياً، وكل هذا كي لا يساهم الإسهام الجدي بتلك القضايا في تقنين استهلاك المحتوى الثقافي الهامشي الذي يقدمه أحدهم إرضاء للجماهير. فهنالك من يقولها علانية بأنه يكتب كي يحصد المتابعات، لا كي يواجه أمراض المجتمعات التي تنتظر منه كمثقف دوراً جوهرياً في الفتك بها حتى لو أنه حورب في البدايات. فكل المؤثرين فكرياً في المجتمعات القديمة نبذتهم مجتمعاتهم لأن آراءهم بدت غريبة عليهم، ومنهم من قال بكروية الأرض فكان مصيره المقصلة، ولا ننسى ما تعرض له ابن رشد والغزالي من حروب اجتماعية ووجودية ضدهما في سبيل تنوير المجتمعات.
ثانياً: خلقت هذه الأنماط والمعايير في التأثير في المجال الاجتماعي الافتراضي؛ حالة من التناقض الأخلاقي والفكري بين ما يكون عليه المثقف وما يصدره من أفكار لاستهلاك المجتمعات، فسادت حالة من الغبن في هذه الفضاءات، بالذات حين يغازل الكاتب أو المثقف مجاميع المتابعين بما ينسجم مع تطلعاتهم الأخلاقية المثالية، وما يتطابق مع التقليد في الكثير من الموضوعات كي يحصد إعجاب وتقدير الجماهير. في المقابل، تعيش تلك الشخصيات حالة مختلفة تماماً عما تطرحه، مما يسبب حالة من الارتباك للجمهور المثقف النوعي الذي يثق بالدور الفكري والثقافي الذي يؤديه أحدهم.
ثالثاً: أزمة الرقيب الذاتي الداخلي السياسي، والذي جعل الكثير من الأفكار يتم قصها وتشذيبها وإلغاؤها أو تخفيفها كي تتناسب مع معايير أنظمة الحكم القمعي أو المستبد. ففي فترة ربيع الثورات العربية شهدنا حالة فرز حاد بين من قرر الالتزام بدوره المؤثر بمسؤولية عالية؛ ومن اختار من المثقفين التقوقع والاختباء في جلباب الديكتاتوريات والتزام جانبها والذود عنها فكرياً وثقافياً، وشراء قاعدتها الجماهيرية عن طريق قلب الحقائق أو إنكارها بشكل تام.
رابعاً: أزمة الرقيب الداخلي الاقتصادي، وهذه الأزمة تأتي بطابع حاد بالذات للشخصيات الفكرية والثقافية التي تعز الجوائز التي تقدمها الديكتاتوريات والتي في معظمها ذات قيمة مادية عالية، فراحت تلك النخب الثقافية تكتب وتهندس كتاباتها بما يتوافق مع مانحي تلك الجوائز ومعاييرهم، والتي غالباً تتطابق مع معايير أنظمة الحكم
الديكتاتورية التي ترعاها، فيتحول المثقف طالب الجوائز بشكل تدريجي لبوق لتلك الأنظمة؛ حتى لا يخالف معاييرها وحتى لا يخسر القاعدة الشعبية التي قد تمنحه إياها مجتمعات تحتفل بمثقف يحمل جائزة دون التدقيق بمصدرها، ودون إعطاء البال لمقدار التنازلات الفكرية التي قدمتها تلك الشخصية الثقافية كي تتنعم بامتيازات المانح للجائزة؛ من فتح منصات الإعلام والترويج لشخص المثقف علاوة على القيمة المادية.
خامساً: أزمة شهوة الحضور على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي في غالبها سببت حالة من تضحم الأنا الثقافية والفكرية لشخص الكاتب، فراح لا يجد نفسه خارج دوامة التقدير الاجتماعي المشروط بأن يكون نتاج الكاتب؛ يطبطب على علاّته ويحتفل بالوضع القائم رغبة منه بتلقي المديح العام على صنائعه الفكرية التي ترسخ ما هو قائم وتمتدح المجتمعات، ولا تهزها كي تستيقظ على واقع ترتيبها بين الأمم.
سادساً: أزمة الفراغ الفكري والنقدي الذي حل في المشهد الثقافي بعد أن اعتلت منصات التأثير شخصيات هامشية تحظى بمقبولية سياسية ودينية واجتماعية، فكانت حالة الاستخفاف بكل من يقدم أدوارا فكرية وثقافية جادة بعيداً عن محاولات تملق المقبولية لدى الجماهير.
إن الأساس في الحضور في المجال الثقافي الافتراضي العام هو أن يحتفظ المثقف بأدواره الجدية في كونه ناقدا للأوضاع القائمة وممهدا لتصويبها أخلاقياً، وبما يتماشى مع دوره في الاستنهاض الفكري، لكن حصول العكس وامتثال المثقف لإملاءات المقبولية الآنفة الذكر في المجال الافتراضي العام جعل المثقف ينحدر في نتاجه، ليكون جزءا من الأنظمة الشعبوية ويكون راعيا للديكتاتوريات بكافة أشكالها.
فهنالك من باع قلمه وأدواره وريشته على مائدة الديكتاتوريات تارة وتارة أخرى على موائد المقبولية الإجتماعية التي تتبنى معايير محدودة، وهنالك من باع مواقفه الصريحة مقابل حفنة من الإعجابات والمتابعات على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا نذير خراب في الأدوار الأصيلة التي يؤديها المثقف في نطاق مجتمعاته، فمن كاتب لأجل التغيير وعملية دفع عجلة تطور المجتمعات يتم استبداله تدريجياً بكاتب البلاط أو كاتب الشعبويات.
لذلك القارئ النوعي لن يهتم بمقدار رواج المثثقف ضمن تلك المعايير، وإنما سيتلمس عيوب هذه الوقائع في العالم الافتراضي التي تشوه ملامح الحركة الثقافية وتجعلها تدور في دوائر لم تُخلق الحركة الفكرية والثقافية لتجعل غايتها نيل إعجابها أو الحصول على شرعية منها. فمحاكمة النتاجات الفكرية والثقافية لأصحابها بمقدار جماهيريتها وحصولها على القبول الاجتماعي؛ يتنافى أصلاً مع أهداف الحركة الثقافية ودور المثقف المشتبِك عبر تاريخ المجتمعات.