قضايا وآراء

تونس بين السّيئ والأكثر سوءا: حتمية تاريخية أم خيارات لا وطنية؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
قد يسارع المؤمنون بمخرجات الدستور والراغبون في ضمان الحد الأدنى من الاستقرار السياسي؛ إلى اعتبار نجاح السيد هشام المشيشي في تمرير الأعضاء الجدد في حكومته أمام البرلمان نجاحا جديدا للانتقال الديمقراطي وتكريسا للقانون المنظم للسلطات، وقد يسارع غيرهم إلى الطعن في هذا "النجاح" واعتباره لحظة من لحظات هيمنة شبكات الفساد والزبونية وتشديد قبضتها على الحزام السياسي للمنظومة الحاكمة، نظرا إلى شبهات الفساد التي تحوم على الأقل حول أربعة من أعضاء الحكومة الجديدة.

ولا شك في أن التحيزات الماقبلية وما وراءها من مصالح مادية ورمزية هي التي توجه شبكات القراءة/ الدمغجة المتنافسة على تشكيل الرأي العام. إننا أمام حقل سياسي "معطوب" يتفق أقطابه على وجود الأزمة، ولكنهم يختلفون جذريا في توصيفها وتحديد أسبابها، كما يختلفون في تحديد السياسات الضرورية للخروج منها أو على الأقل التقليل من آثارها الكارثية على أكثر من صعيد.
إننا أمام حقل سياسي "معطوب" يتفق أقطابه على وجود الأزمة، ولكنهم يختلفون جذريا في توصيفها وتحديد أسبابها، كما يختلفون في تحديد السياسات الضرورية للخروج منها أو على الأقل التقليل من آثارها الكارثية على أكثر من صعيد

"العائلة الديمقراطية" أو الخطاب اللا وظيفي من منظور الثورة

يمكن لأي متابع للشأن التونسي بعد الثورة أن يلاحظ هيمنة خطابين سياسيين كبيرين؛ لا يمكن اعتبار كل الخطابات الجزئية المتنافسة على إدارة الشأن العام وهندسة المجتمع إلا خطابات مشتقة منهما. أما الخطاب السياسي الكبير الأول فهو خطاب أغلب مكوّنات ما يُسمى بـ"العائلة الديمقراطية" التي تتعرف ذاتيا بالتقابل مع الإسلام السياسي؛ أكثر مما تتعرف بالثقافة الديمقراطية خطابا وممارسة في عهد المخلوع أو بعد الثورة. وهو خطاب يحصر منظومة الحكم في "الحكومة" ويختزل الحكومات المتعاقبة - التي ينتمي أغلب أعضائها إلى المنظومة القديمة أو حلفائها في اليسار الثقافي - في هيمنة المكوّن النهضوي على الحياة السياسية بصرف النظر عن وزنه البرلماني غير الثابت.

ورغم أننا في حضرة خطاب متعدد من جهة مواضع التلفظ (مواضع سياسية ونقابية وإعلامية ومدنية)، فإننا أمام خطاب موحّد ومتناغم من جهة روحه ومفرداته وغاياته النهائيه. فهو يتميز في كل مواضع التلفظ بالمطابقة بين منظومة الحكم- التي تشمل واقعيا الحكومة ومعارضتها وشركاءها الاجتماعيين وغيرهم من الفاعلين الجماعيين - وبين الحكومة التي توصف بأنها "نهضوية"، دون أن يأبه لما في ذلك من تسطيح وتضليل معرفيين. كما أنه يتميز بتعميق المفاصلة مع النهضة من جهة أولى، والتطبيع بصور مختلفة مع ورثة المنظومة القديمة ومع نواتها الصلبة من جهة ثانية.

وقد يكون من نافلة القول أن نذكر أنّ هذا الخطاب يعتبر أن "النهضة" هي المسؤول "الحصري" عن الأزمة التونسية، وقد يكون من نافلة القول أيضا أن نقول إن هذه الصياغة - أي تحميل النهضة المسؤولية الكاملة دون غيرها، ومن باب أولى دون تحمل أية طرف آخر المسؤولية ولو جزئيا - هي صياغة مخاتلة لمسلمة أساسية من مسلمات "العائلة الديمقراطية": سبب الأزمة بعد الثورة هو دخول الإسلام السياسي مكوّنا قانونيا من مكوّنات الحقل السياسي وشريكا لا مهرب منه في إدارة الشأن العام وفي منظومة الحكم. وهو منطق لا يمكن أن يستقيم إلا بوجود شرطين: تبييض المنظومة السابقة، وترذيل الثورة والتشكيك في مخرجاتها الدستورية والسياسية، رغم مساهمة "العائلة الديمقراطية" في تلك المخرجات من مواقع مختلفة.
منطق لا يمكن أن يستقيم إلا بوجود شرطين: تبييض المنظومة السابقة، وترذيل الثورة والتشكيك في مخرجاتها الدستورية والسياسية، رغم مساهمة "العائلة الديمقراطية" في تلك المخرجات من مواقع مختلفة

ومن المنطقي أن يعتبر هذا المنطق الذي يجد جذوره في الفلسفة السياسية اللائكية الفرنسية، تلك الفلسفة التي تذيب كل الاختلافات الفكرية بين أصحاب السرديات العلمانية من اليساريين والقوميين والتجمعيين، أن وجود النهضة ذاتها – سواء داخل الحكومة أو حتى في المعارضة - هو الفرضية الأسوأ بين كل الفرضيات التي يمكن أن تعرفها تونس.

فالنهضة جسم غريب عن "النمط المجتمعي التونسي"، وهي تشكيلة سياسية تنتمي بمرجعياتها إلى زمن ما قبل المواطنة. أما ورثة التجمع فقد يكونون سيئين، ولكنّ سوءهم سيكون أمرا مقبولا بقدر ابتعادهم عن النهضة والمساهمة في تعميق العداء الأيديولوجي لها، لا بقدر ابتعادهم عن تمثيل مصالح النواة الصلبة للمنظومة القديمة وتأبيد خياراتها اللاوطنية المكرسة للفساد والتخلف والتبعية.

إن "ورثة" المنظومة القديمة هم - بهذا المنطق - جزء أساسي في "العائلة الديمقراطية" ما داموا على "مسافة أمان" من النهضة، فإذا اقتربوا منها صار مشكوكا في "ديمقراطيتهم" وحداثتهم، بل صاروا جزءا من "الرجعية" في شكليها الديني والبرجوازي.

الخطاب النهضوي أو الوجه الآخر لمنطق اليسار الثقافي ووظيفته
ورثة" المنظومة القديمة هم - بهذا المنطق - جزء أساسي في "العائلة الديمقراطية" ما داموا على "مسافة أمان" من النهضة، فإذا اقتربوا منها صار مشكوكا في "ديمقراطيتهم" وحداثتهم، بل صاروا جزءا من "الرجعية" في شكليها الديني والبرجوازي

أما الخطاب السياسي الكبير الثاني فهو الخطاب النهضوي أو خطاب التوافق بشروط المنظومة القديمة، ذلك التوافق الذي يعكس "ظاهريا" تحول حركة النهضة من خطاب البديل إلى خطاب الشريك من منظور استحقاقات الثورة والتأسيس للجمهورية الثانية، ولكنه يعكس في العمق قبول النهضة أن تختزل دورها السياسي إلى ما يشبه دور "الوطد" وكل اليسار الثقافي أيام المخلوع وبعده: "الحراسة الأيديولوجية" لمنظومة الحكم، والاكتفاء بمرتبة "الشريك الصغير" للنواة الصلبة لمنظومة الحكم المكرسة للتبعية والتخلف والمتغنية بـ"الاستثناء التونسي"- ذكاء الإنسان وفقر الأرض - لإخفاء واقع نهب الثروات والتوزيع غير العادل للثروة والسلطة منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.

وبصرف النظر عن الأنساق الحجاجية التي يعتمدها العقل السياسي النهضوي لتبرير التوافق، كاعتباره ضرورة أملاها الخوف من الاستئصال أو من فشل الانتقال الديمقراطي، أو خيارا فكريا يعود إلي وحدة الأصل بين "الدساترة" والإسلاميين في شخص الثعالبي والحزب الدستوري القديم، فإن هذا الخيار الذي يعكس التوجه الاستراتيجي للحركة قصد دخول الدولة والتصالح معها - لا مواجهتها في الشارع أو في مركز صنع القرار السياسي - قد كان ذا كلفة كبيرة سواء من جهة القاعدة الانتخابية للحركة - أي مصدر قوتها التفاوضي - أو من جهة محصوله واقعيا، خاصة في مستوى الأداء الكارثي للحكومات المتعاقبة التي زكّتها النهضة وشاركت فيها بأحجام مختلفة.

ورغم مسؤولية النهضة جزئيا عن أزمة الحقل السياسي التونسي بعد الثورة، فإن الإعلام التونسي الخاضع للخطاب السياسي الكبير الأول نجح إلى حد كبير في أن يقنع الرأي العام بأن فشل الحكومات المختلفة هو فشل نهضوي خالص، وليس فشلا لمنظومة الحكم بأكملها، أي برئاساتها الثلاث وحكوماتها ومعارضتها وشركائها الاجتماعيين. ولا شك في أن هذا التسطيح للأزمة هو في التحليل الأخير تعميق لها، ولا يمكن أن يكون عاملا مساعدا على تجاوزها.
رغم مسؤولية النهضة جزئيا عن أزمة الحقل السياسي التونسي بعد الثورة، فإن الإعلام التونسي الخاضع للخطاب السياسي الكبير الأول نجح إلى حد كبير في أن يقنع الرأي العام بأن فشل الحكومات المختلفة هو فشل نهضوي خالص، وليس فشلا لمنظومة الحكم بأكملها

باعتمادها منطق التناقض الثانوي والتناقض الرئيس في صيغة "مؤسلمة" (اعتبار التناقض مع التجمعيين تناقضا ثانويا والتناقض مع اليسار تناقضا رئيسا) وبتهميشها لمحور الصراع مع الخيارات اللاوطنية للمنظومة القديمة، كان من الطبيعي أن ترى حركة النهضة أن التطبيع مع المنظومة القديمة بمكوّناتها البراغماتية (المتحررة جزئيا من الهاجس الأيديولوجي) هو خيار سيئ، ولكنه الخيار المتاح بحكم غياب أية قاعدة لبناء "تسويات" تاريخية مع مكونات اليسار. كما كان من الطبيعي أن تعتبر حركة النهضة أن "التوافق" - بما هو شكل من أشكال إعادة التوازن للمنظومة القديمة مع بعض التعديلات الشكلية - يبقى الخيار الأقل كلفة لمواجهة الخطاب السياسي الكبير الأول، ذلك الخطاب القائم على التناقض المطلق والنهائي وغير القابل للحل مع الإسلام السياسي.

وبصرف النظر عن صوابية هذا المنطق السياسي، فإن المستفيد الأكبر منه – كما هو الحال في خطاب "العائلة الديمقراطية" - يبقى هو ورثة المنظومة القديمة ومن يقف وراءهم من اللوبيات وشبكات الحماية المتبادلة التي كانت وما زالت في خدمة العائلات الكبرى المهيمنة على أكثر من تسعين في المائة من ثروات البلاد، تلك الهيمنة التي تتم بصورة مقننة في الاقتصاد الريعي الذي حكم تونس قبل الثورة، ولا يبدو أن من أولويات السياسيين ضرب مركزاته التشريعية حتى بعد عشر سنوات من الثورة.

هل يمكن تجاوز الخطابين الكبيرين دون "كتلة تاريخية"؟

رغم التناقض الظاهر بين الخطابين السياسيين الكبيرين المهيمنين على الفضاء العمومي التونسي، فإنهما يشتركان في المقدمات (استحالة القطع مع المنظومة القديمة وممثليها) و في الغايات (إعادة التوازن للمنظومة القديمة دون القطع الصريح مع السردية الثورية أو الإصلاحية). وفي ظل حرص الفاعلين الكبار على منع انبثاق أي مشروع لبناء كتلة تاريخية أو للتوافق على الأقل حول مشروع وطني جامع، من المؤكد أن الصراع بين الخطابين سيبقى صراعا مفتوحا على كل الممكنات التي قد تبلغ حد الاحتراب الأهلي باعتباره نتيجة متوقعة للعنف المكثف في مستوى الرمزي.

وقد يكون على كل الفاعلين الجماعيين بمختلف مواقعهم في السلطة الحاكمة أو خارجها أن يتواضعوا قليلا وأن يقروا بفشل المقاربات التقليدية لقراءة الأزمة أو إدارتها في أفق إصلاحي. فمهما اختلفنا في تحديد مقدار مسؤولية كل طرف، فإن "الجميع" مسؤولون – بحكم مواقعهم في منظومة الحكم التي لا يمكن أن تتطابق بحال مع الحكومة - عن الأزمة الحالية وعمّا مهّد لها من خيارات كبرى منذ رحيل المخلوع وتركيز المجلس التأسيسي.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)