قضايا وآراء

الحركة الإسلامية وإعادة بناء الذات: الابتعاد عن الطوباوية والرغبوية السياسية (7)

محمد العودات
1300x600
1300x600

الطوباوية السياسية

 

يمكن تعريف الطوباوية أو الطوبائية السياسية بأنها: تصور فكري مثالي خيالي لا توجد فيه شرور ولا أمراض ولا جهل، ويوجد فيه العدل المطلق والحاكم العادل والمجتمع الفاضل المثالي المترفع عن كل صفات النقص والصغائر.

الفكر الطوباوي له تاريخ قديم منذ العصر اليوناني، إذ يعتبر أفلاطون منظر الفكر الطوباوي السياسي في كتاب "الجمهورية" الذي تحدث فيه عن مفهوم العدالة والإنسان العادل المطلق، والنظام العادل المطلق، وطبقات المجتمع التي تفرز الإنسان الفيلسوف العادل ليحكم البلاد. كما تحدث عن الفكر الطوباوي الفارابيُ في كتابه "المدينة الفاضلة" التي كان يرى أن الاجتماع فيها هو الاجتماع الفاضل، وهي التي يتم التعاون فيها على الأشياء التي تنال بها السعادة الإنسانية، ويرى أن المدينة الفاضلة مثل الجسد الصحيح تعمل كل أعضائه بشكل صحيح لتتم وتستمر الحياة.

معالم الخطاب الطوباوي في فكر جماعة الإخوان المسلمين

- الإسلام هو الحل: يكاد يكون هذا الشعار هو أبرز إفرازات الفكر الطوباوي في فكر جماعة الإخوان المسلمين، فمجرد طرح هذا الشعار يهيئ للسامع أن الإسلام يملك تصورا كاملا عن حل مشاكل الحياة وتعقيداتها.

نعم صحيح الإسلام يملك خطوطا وقيما عامة عن تصوره للسعادة الإنسانية، فمثلا تحدث عن الشورى كمبدأ عام وتحدث عن العدل والعدالة كمبدأ عام وتحدث عن الحرية كمبدأ عام، إلا أن هذا القيم والمبادئ العامة لم يأت بها نظم تفصيلية قابلة للتطبيق الواقعي وتركها للإنسان ليجتهد فيها، بما يحقق له السعادة والنهوض في الدنيا.

طرح هذا الشعار دون طرح النظم التفصيلية في معالجة المشاكل الحياتية هو أبرز إشكال وإفرازات الفكر الطوباوي لدى الحركة الإسلامية، والذي يجب أن تتخلى عنه لأنه عند أول تجربة سوف يكتشف الإخوان أنهم كانوا يبيعون لأنفسهم ولغيرهم الوهم الجميل والحلم اللا واقعي، مما يستدعي منهم التخلي عما كانوا ينادوا به.

- استخدام النماذج تاريخية وفقا لأسلوب الحجب والتمرير: يستخدم الإخوان مجموعة من الأمثلة العامة والأحداث التاريخية على طريقة الحجب والتمرير في اجتزاء قصاصات من التاريخ لتصوير الأمور بشكل طوباوي. فمثلا يتم استخدام صورة سيدنا عمر الفاروق رضي الله عنه وهو يحمل الطحين وينفخ تحت النار ليطعم المرأة المسلمة كدليل على الاهتمام بالرعية، ويتم استخدام وتصوير زهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز في ترفع الحكام عن المال العام، ويتم استخدام مقولة هارون الرشيد وهو يخاطب السحابة: امطري، حيث شئت فإن خراجك عندي، ويتم استخدام عبارة وامعصتماه للدلالة على عزة الدولة الإسلامية، ويتم استخدام صورة صلاح الدين في تحرير البلاد الإسلامية من الحملة الصليبية.. يتم اجتزاء تلك الأمثلة المكرورة من تاريخ يصل إلى أكثر من 1400 سنة على طريقة الاجتزاء والحجب والتمرير لرسم صورة طوباوية لطريقة الحكم التي يبشرون بها، فتتكون لدى المجتمع وخصوصا طبقة الضعفاء والفقراء أشواق إلى تلك النماذج المجتزأة من تاريخي واقعي يربو على 1400 سنة؛ ليس بالمثالية التي يصورونها على الإطلاق.

- لن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح أولها: هذه الفكرة أو المقولة قد تكون أكثر الأفكار استخداما في تعميق النظرة المثالية اللا واقعية، فيتم تصوير أن حالة النهوض والصلاح لحال الأمة أو الدولة المتردي يكون بمجرد العودة إلى تكرار النموذج النبوي الكريم في تربية الجيل، وتكون نواة مؤمنة صلبة لتقود حالة التحول.

هذه الفكرة كانت تمتلك على سيد قطب كل تفكيره، فعبر عنها في كتابه "المعالم" تحت عنوان "جيل قرآني فريد". سيد رحمه الله كان يؤمن بأن النهوض يقوم على الانخلاع من الجاهلية المجتمعية على حد وصفه، وتكوين النظرية الإصلاحية وفقا لما سار عليه السلف بمثاليتها المرسومة في مخيلته. وبعد ذلك تكون النواة المسلّمة الجديدة، وبعد ذلك تكون النهضة التي تقوم على العزة والأنَفة ورفض النظم الغربية الحديثة، وإحياء المُثل الإسلامية، ورفض الاستقراض الحضاري على حد وصفهم.

الطوبائية السياسية تظهر بشكل أعمق في الفكر السلفي وفكر حزب التحرير وفكر الجماعات التكفيرية الجهادية، إذ استطاعت بهذا الخطاب الطوباوي أن تجذب الشباب المتحمس وخصوصا الشباب الغربي الذي سحره التصوير الطوباوي في الفكر الداعشي، فانجذب إلى سوريا بدون تفكير ليصطدم بالواقع المر بعد قدومه.

إفرازات الفكر الطوبائي

على الرغم من الإيجابيات التي يحققها الفكر الطوباوي لجماعة الإخوان المسلمين من خلال دعم تماسك التنظيم وتمسك أفراده به، والشعور بسمو الهدف وبذل المزيد من الجهود في سبيله، وسهولة جذب الأعضاء الجدد والأنصار، إلا أنه ينطوي بالمحصلة على مجموعة من المخاطر السياسية تتمثل في:

- إيهام الذات: الأفكار الطوبائية اللا واقعية تنشئ حالة ممتعة من إيهام الذات والعيش خارج الزمان أو المكان، فتقوم نظرية منفصلة عن الواقع لا يمكن تطبيقها أو العمل على ميلادها على أرض الواقع.

- إهدار الأوقات والجهود: النظرية الطوباوية التي ترسم الأهداف والوسائل المثالية اللا واقعية تستهلك مزيدا من الجهود والأموال والأوقات، وهذه الجهود المخلصة المتفانية تصل بالنهاية إلى مرحلة العدم في الواقع.

- ازدياد التضحيات: الفكر الطوباوي ينشئ حالة من المثالية التي تشكل حالة من السمو الروحي لدى جماعة الإخوان، فتقوم حالة لصيقة للقدرة على تقديم المزيد من التضحيات من أجل إنجاح هذه الحالة المثالية المنشودة، فيندفع الأخ المسلم إلى تقديم التضحيات ومزيد من الألم المرغوب تحت حالة من النشوة والفوقية على الواقع الذي يعيشه، لكنه عندما يستيقظ من حلمه يكون قد وصل إلى حالة من الردة على تلك الحالة، وأحيانا الانقلاب إلى النقطة النقيضة تماما.

- الفشل في تحقيق الأهداف: تفشل الأهداف المبنية على النظرية المثالية، حيث إن عدم الواقعية تجعل تحقيق هذه الأهداف غير ممكنة رغم المزيد من الجهود والتضحيات المبذولة. فالعمل على تحقيق الأهداف المثالية ينتهي بالفشل، وهذا ما يجعل النظرية الإخوانية التي تقوم على فكرة الأممية والعدل المطلق عاجزة عن تحقيق أي هدف من أهدافها.

- الشغب على الأفكار والنظريات الواقعية: إذ لا يكتفي الفكر الطوباوي بإلحاق الأذى بنفسه، فهو أيضا يشغب على الفكر الواقعي ويشكك به ويقلل من صدقيته، وينظر إليه باستعلاء ونظرة نقص وازدراء على اعتبار أنه يمثل نصف الحلول والشيء غير المأمول، فالفكر الطوبائي ضرره متعد لذاته وإلحاق الضرر بغيره.

الرغبوية السياسية


الرغبوية السياسية: يمكن تعريف الرغبوية السياسية بأنها أيديولوجيا سياسية تدفع أصحابها إلى رؤية المستقبل، وفقا لما يرغبون ويحبون ويتمنون، لا وفقا للواقع والظروف الموضوعية.

يمكن أن يطلق على الفكر الرغبوي الفكر بالتمني، كما يمكن تعريف التفكير الرغبوي بتكوين القناعات والاعتقادات حول قضية معينة وفقا للرغبة والأمنيات، وتصور الواقع والمستقبل وفقا لهذه الرغبات والأمنيات.

يميل أصحاب الفكر الرغبوي عادة إلى تصديق ما يتوافق مع رغباتهم وأمنياتهم، فالشخص الرغبوي يحب أن يستمع إلى ما يرغب به ويتمناه، لذلك تجده ينظر بطريقة مشرقة مندفعة إلى ما يرغب، ويتمنى دون أن ينتبه إلى موضوعية هذا التفكير وواقعتيه.

يحاول المؤمن بالفكر الرغبوي الالتفات عن كل الأسئلة الملحة التي يطرحها الغير، حتى التي يطرحها على نفسه والتي تتعارض مع التفسيرات التي يرغب في حصولها والوصول إليها.

المؤمن بالفكر الرغبوي دائما يبني أفكاره وتصوراته على فكرة المعجزة أو الصدفة الحسنة، ويستخدم الإسقاطات الدينية والتاريخية في استحضار المعجزة، لكنه يصطدم بالواقع وسنن الله النافذة في الواقع عندما لا تحضره المعجزة أو الصدفة الحسنة والجميلة التي يتمناها.

الغارق بالفكر الرغبوي يحاول تجنب أي دراسة أو تحليل موضوعي يقدمه أهل الاختصاص في العلوم السياسية، ويذهب إلى بعض الآراء الشاذة غير المدعومة بالأرقام والوقائع على الأرض.

ضحايا الفكر الرغبوي دائما لا يرون العوائق، وعندما يصطدمون بالواقع لا يعترفون بالخطأ ويؤكدون على سلامة المسير، ويطلبون من الأتباع إعادة تكرار التجربة؛ لأن الخطأ في نية الشخص وإخلاصه الذي يستلزم إعادة التربية مرة أخرى وفقا لهذا التفسير.

ضحايا الفكر الرغبوي عادة يبالغون في توقع النتائج الجيدة، ويلتفتون عن أي نتائج يمكن أن تقع بخلاف ما يرغبونه ويتنمونه، لكن الواقع دائما يفاجئهم ويحصلون على أسوأ النتائج، ويقعون في أسوأ الظروف والتي عادة ما يبررونها بأنها راجعة لأسباب لم يكونوا يتوقعونها، لكن في الحقيقة أنهم لم يكونوا يريدون أن يتوقعوها.

بلا شك أن التفكير الرغبوي عامل مهم من عوامل التقدم والنمو والبحث، لكن هذا الدافع يكون جيدا عندما يكون مبنيا على الواقع وحقائقه، وبذل المزيد الجهود لتحسين الظروف وتحقيق الأهداف وتحقيق الحلم المنشودة.

نعم حقائق اليوم كانت أحلام الأمس وأحلام اليوم الموضوعية؛ ستكون حقائق الغد إذا ما بذلنا عليها الجهود العملية لتحقيقها.

تجليات الفكر الرغبوي قد تكون موجودة في مدرسة الحركة الإسلامية في كل مفاصلها، في أهدافها مثل أستاذية العالم، في مشاريعها مثل بناء التنظيمات السرية ونجاحها في السيطرة على مقاليد الحكم، في الوسائل.

لا تقل النتائج الكارثية للفكر الرغبوي عن النتائج الكارثية للشعبوية السياسية أو الطوباوية السياسية، لكن أخطر ما في الفكر الرغبوي أن ضحاياه يذهبون إلى المحرقة وهم في أوج حماسهم واندفاعهم.

التعليقات (1)
حبيب
الأحد، 24-10-2021 09:51 ص
شكرا على التنوير و لنا في حب المعرفة رغبة