هل تستمر الفوضى العالمية؟

تميّز عهد إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالفوضى التي ضربت النظام الدولي وتعقيد العلاقات بين مكوناته، منظمات ودولا، وعودة الجغرافيا والتاريخ والأيديولوجيات كمحركات للتنافس والصراع العالمي، الذي تجلى في عودة التفكير بمنطق الفضاءات الحيوية للقوى الإقليمية والدولية، وحق هذه القوى في الحصول على حصص مناسبة لأوزان قوتها في النفوذ والسيطرة.

وقد بدأ هذا النهج يتأسس، وإن على استحياء، في زمن إدارتي الرئيس باراك أوباما الأولى والثانية، حينما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، الخارجة من حربين منهكتين في العراق وأفغانستان، تقيس خطواتها تحت وقع فوبيا الحروب الخارجية المكلفة، وتعتقد أن كل ابتعاد عن الصدامات والتدخلات الخارجية هو غنيمة بحد ذاته أيا تكن النتائج الجيواستراتيجية. بل إنها رأت إن توريط القوى الأخرى في حروب وصراعات خارجية من شأنه إعادة التوازن للقوّة الأمريكية، دون دفع تكاليف لإضعاف تلك القوى التي بدأت في تحد القوة الأمريكية.

السؤال المطروح اليوم بقوّة: كيف ستتصرف إدارة جو بايدن لضبط التفلت العالمي وإعادة الدور الأمريكي المفقود؟ وكيف يمكن استعادة دور الدولة المسيطرة والضابطة لتوازنات القوّة في النظام العالمي والموزعة للأدوار؟

 

كيف ستتصرف إدارة جو بايدن لضبط التفلت العالمي وإعادة الدور الأمريكي المفقود؟ وكيف يمكن استعادة دور الدولة المسيطرة والضابطة لتوازنات القوّة في النظام العالمي والموزعة للأدوار؟

ربما، ما يشجع إدارة بايدن على الخوض في هذا المسار أنه مقابل تراجع الدور الأمريكي لم تظهر على الساحة الدولية قوّة حاسمة في انتزاع المكانة الأولى في القيادة العالمية، وأن ما حصل أن جميع القوى الناشئة لم تظهر سوى اهتمامات إقليمية، بمعنى السعي لتحصيل سيطرة إقليمية على مناطق مجاورة دون الرغبة، أو القدرة، على توسيع بيكار سيطرتها ليشمل مناطق بعيدة عنها، وذلك عائد لعدم تطوير هذه القوى لأدوات السيطرة العالمية، مثل الأساطيل البحرية الجوالة والجيوش الكبيرة والأسلحة ذات التقنيات البعيدة المدى، بالنظر للتكاليف الهائلة التي ينطوي عليها مثل هذا الأمر، في ظل تراجع القوّة الاقتصادية العالمية.

لكن الحاصل في المشهد العالمي، وفي مسارحه الإقليمية، يبدو أكثر تعقيداً من اختزاله بعدم وجود منافس مكافئ للقوّة الأمريكية، ذلك أن بروز خصوم كثر لأمريكا يعني تشتيت قوتها وإضعاف تركيزها على خصم محدّد، ما يجعل بيئة النظام الدولي أكثر تعقيداً وتداخلاً، مقابل ضعف الأدوات الأمريكية في تفكيك هذا المشهد المعقّد وإعادة المنظومة العالمية للعمل تحت هيمنة أمريكا ووفق تصوراتها ورؤاها.

 

الحاصل في المشهد العالمي، وفي مسارحه الإقليمية، يبدو أكثر تعقيداً من اختزاله بعدم وجود منافس مكافئ للقوّة الأمريكية، ذلك أن بروز خصوم كثر لأمريكا يعني تشتيت قوتها وإضعاف تركيزها على خصم محدّد، ما يجعل بيئة النظام الدولي أكثر تعقيداً وتداخلاً

ستواجه إدارة بايدن أزمات متفجرة في أكثر من بقعة، ولن يمتلك بايدن العصا السحرية لحل هذه الأزمات وتبريدها، فقد مضى وقت طويل على تفجرها وكثرت أيادي المتدخلين فيها، كما أن لهذه الأزمات محركات ذاتية لن يكون من السهل معالجة جذورها وأسبابها.

ستواجة إدارة بايدن أيضاً، قوى، دولية وإقليمية، أخذت مساحة كبيرة من أدوار أمريكا، وقطعت شوطاً واسعاً في النفوذ وتموضعت في ساحات عديدة لم يعد ممكنا تراجعها أو تنازلها عما حصلت عليه، ولن تستطيع الولايات المتحدة إعلان الحرب على هذه الأطراف، لأن ذلك عدا عن لا منطقيته وافتقاده للمبررات اللازمة، فإن تكاليفه كبيرة ومخاطره عالية قد تصل إلى الانزلاق إلى حروب كبرى لا تحبذها إدارة بايدن التي تميل أكثر للتهدئة وللسياسات الناعمة في إدارة الشؤون العالمية.

المعضلة التي ستواجهها إدارة بايدن تتمثل في الورشة الضخمة التي ستستنزف قدراتها الدبلوماسية في إصلاح العلاقات مع المنظمات الدولية، والقوى الإقليمية والدولية (الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران)، التي عمدت إدارة ترامب إما الى تخريب العلاقات معها، أو السكوت عن تمدّد نفوذها في ما تعتبره ساحات مصالحها الحيوية، وتحوّلها إلى عنصر من عناصر حل أو تأزيم الملفات التي انخرطت فيها تلك الأطراف والقوى، وبات نزع تأثيرها من هذه الملفات يحتاج عملاً جراحياً مؤلماً، وربما مميتاً.

في المقابل، من المقدّر أن تستهلك إدارة بايدن قوتها وفعاليتها في الإصلاحات الداخلية، بعد أن عملت إدارة ترامب على خلط الأوراق بشدة في الداخل الأمريكي، حيث تنتظر إدارة بايدن الكثير من الملفات، كالخروج من الانقسام الذي سببته سياسات ترامب والتناقضات الهائلة داخل المجتمعات الأمريكية، وزيادة الضرائب على الأجور المرتفعة، وإصلاح الرعاية الصحية، وتعزيز برامج التعليم، وزيادة أجور المدرّسين، وفرض إجازة أمومة مدتها 12 أسبوعاً، وقبل كل شيء إطلاق خطة إنعاش لإنقاذ الاقتصاد.

 

ستضطر إدارة بايدن الى الدخول في مواجهات صعبة لتمرير أي من إصلاحاتها، حيث لا يزال الجمهوريون يسيطرون على مجلس الشيوخ، كما أن السلطة القضائية التي تقرّر الإصلاحات هي بيد الجمهوريين

ستضطر إدارة بايدن الى الدخول في مواجهات صعبة لتمرير أي من إصلاحاتها، حيث لا يزال الجمهوريون يسيطرون على مجلس الشيوخ، كما أن السلطة القضائية التي تقرّر الإصلاحات هي بيد الجمهوريين. فقد تم تعيين أكثر من 220 قاضياً جمهورياً لمحاكم الاستئناف في عهد ترامب، ويهيمن الجمهوريون على المحكمة العليا بواقع ستة قضاة في مقابل ثلاثة للديمقراطيين.

من غير المتوقع أن يكون بمقدور إدارة بايدن لملمة الفوضى العالمية التي تأسست في عهود الإدارات الأخيرة، طالما ستغرق هذه الإدارة في إصلاح الخراب الداخلي الذي صنعه ترامب، والأرجح أن العالم سيسير أكثر إلى الفوضى في عهد بايدن "الناعس" الذي سيحاذر من الانخراط بشكل كبير في الأزمات العالمية المتفجرة على الطريقة الأوبامية.

twitter.com/ghazidahman1