قضايا وآراء

ترامب وحصاد السنين الأربع

إياد خالد الشوربجي
1300x600
1300x600
عبر سنوات ترامب الأربع التي حكم خلالها البيت الأبيض؛ حدثت تغيرات ملحوظة في الحياة السياسية الأمريكية، كيف ولا والطبيعة الأمريكية طبيعة تغييرية تحولية جُبلت على التجديد، والتي من أمثلتها البارزة تحول المزاج الشعبي الأمريكي بشكل تعاقبي سريع بين الحزبين الرئيسين اللذين يتبادلان السلطة في الولايات المتحدة، في حين من النادر أن يمكث حزب لأكثر من ولايتين متعاقبتين، حتى يقرر الشعب التحول إلى الحزب الآخر في عملية تكاد تكون تبادلية رتيبة، تنم عن رغبة تغييرية لا تنسجم مع النمطية والجمود.

وإن كانت هذه هي حال الديمقراطيات عادة، فهي ملحوظة في المجتمع الأمريكي بشكل أخص، بحيث تنسحب على نواح ثقافية واجتماعية فضلاً عن النواحي السياسية. وإذا قيل إن التغير والتطور المجتمعي بأبعاده الثقافية والأيديولوجية هو طبيعة إنسانية، فهذا صحيح، لكنه يختلف من حيث السرعة والعمق من مجتمع لآخر، مرتبطاً بجملة من العوامل والدوافع التي تعطيه درجة وحدَّة التغيرات الديناميكية.

يمكن القول إن السنوات الأربع لحكم ترامب قد حدثت فيها جملة من التغيرات في الحياة السياسية الأمريكية، على المستوى الداخلي وعلى المستوى الخارجي.

فعلى المستوى الداخلي، برزت ظاهرة الشعبوية بشكل متصاعد والتي اعتمد عليها ترامب بشكل كبير خلال حملته الانتخابية ومن ثم وصوله لمقعد الرئاسة، كما تصاعد الخطاب اليميني بشكل واضح، صحيح أن الظاهرة اليمينية انتشرت في أنحاء عديدة من دول العالم، لكنها كانت أكثر صخباً في الولايات المتحدة. في الوقت ذاته برزت العديد من الجماعات المسلحة التي جابت باستعراضاتها بعض المدن الأمريكية، في مشاهد غريبة عن الشارع الأمريكي، تحاكي السلوك السائد في ما يسمى بجمهوريات الموز!

كما شهدت سنوات ترامب انخفاض منسوب التعاطي الدبلوماسي في الخطاب السياسي، وارتفاع وتيرة الخطاب الديماغوجي. وعلى صعيد الحكم وإدارة البلاد، كان البعد الشخصي بادياً للعيان في اختيار الفريق الإداري من المقربين الشخصيين ومن تفضيل الطاعة على المهنية، وإبعاد غير المتطابقة رؤاهم مع رؤى ترامب، وبرزت طريقة جديدة في تنحية غير المنسجمين معه من المسؤولين عبر منصة تويتر، في شكل لا يخلو من الإهانة.

كما تصاعدت حدة الاستقطاب الداخلي لدرجة لم نعهدها في العقود الأخيرة، دفعت ترامب للتلويح بعدم قبوله لنتائج الانتخابات حال فوز خصمه جوزيف بايدن، وعدم قبوله بالتداول السلمي للسلطة، حتى باتت التجهيزات الأمنية والاحترازية ملحوظة، والتي تهدف لمواجهة أي اضطرابات أو احتجاجات متوقعة من قبل أنصار ترامب حال خسارته.

واتسعت الهوة بين السود والبيض، حيث انفجرت موجات احتجاج من قبل السود لم تحدث منذ السبعينيات من القرن الماضي، على خلفية سلوك البيض العنصرية تجاههم، حيث تصاعدت حدة الخطاب العنصري الناتج عن خلفية الاعتقاد بتفوق العنصر الأبيض، في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات المعادية للمهاجرين، والمنادية بوقف الهجرة والتضييق على المهاجرين. كما تصاعد بروز التيار الإنجيلي والمحافظين الجدد والصهيونية المسيحية، حيث شكلت هذه المكونات العمود الفقري في إدارة ترامب.

هذا المشهد عند تجميع صوره المتناثرة؛ يعيد إلى الذاكرة أجواء الاستقطاب والتناقض الداخلي الذي أدى لاندلاع الحرب الأهلية الأمريكية قبل أكثر من قرن ونصف من الزمان!

أما على المستوى الخارجي المتعلق بالسياسة الخارجية، فقد لاحظنا الاندفاع الرهيب لإدارة ترامب في دعم وتأييد الكيان الصهيوني، والإمعان في التطرف في المواقف المعادية لحقوق الشعب الفلسطيني، بحيث فاق عنصرية وتطرف اليمين الصهيوني. وقام ترامب بتنفيذ قرارات صعبة، حافظ فيها أسلافه على حدٍ معين من التوازن بين الأطراف المختلفة ضمن دائرة الصراع، مثل نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وضم الضفة لكيان الاحتلال وأطروحات ما يسمى بصفقة القرن..

كما كان الاقتراب من الدكتاتوريات وحمايتها والتغطية عليها مظهرا لافت لسياسته، على الرغم من أن سلوك هذه الدكتاتوريات وصل إلى حد الفضيحة في كثير من الأحيان. ‏أما عن ضحالة الخطاب الدبلوماسي ‏والتعامل بعقلية الكاوبوي مع الأصدقاء والحلفاء فضلاً عن المناوئين؛ فحدِّث ولا حرج.

ولم تغب عقلية التاجر الجشع الذي لا يرى العالم سوى من المنظور النفعي المادي. وإن كانت هذه الصفة ملازمة للعقلية الرأسمالية الغربية وللحضارة المادية، فقد برزت في عهد ترامب وفي سياسته بصورة أكثر فجاجة وصفاقة، من خلال ابتزاز حلفائه أو محمياته بدفع المال بصورة مهينة مقابل الحماية.

‏ أما على صعيد النظام الدولي، فقد زادت حدة القطبية الأحادية من خلال العقلية التفردية التي أدار بها ترامب السياسة الخارجية، وقزّم من دور الأمم المتحدة وازدراها، وقلص من النفوذ الأوروبي على المسرح الدولي، وتآكل الدور الأخلاقي للولايات المتحدة لدى شعوب ودول العالم.

‏وقد تم التنصل من اتفاقات دولية مثل الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن الاتفاق النووي مع إيران، ومن منظمة الصحة العالمية، وفرض عقوبات على المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، في مشهد فوضوي لا يخلو من العبثية. واعتمد ترامب في علاقته مع بعض الأقطاب الدولية مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية على الشكل الثنائي، بعيداً عن العمل التشاركي تحت مظلات وأطر دولية، ما قزّم دور الأمم المتحدة والتكتلات الدولية الأخرى التي لم ينسجم معها.

فهل ستبقى هذه التغيرات ضمن المستوى الطبيعي لأي حراك مجتمعي، وتبقى ضمن سيطرة النُظم والمبادئ الحاكمة للحياة السياسية الأمريكية، المضبوطة مؤسساتياً وقيمياً؛ أم إنها ستشكل مقدمات معتبرة لتحولات جذرية في بنية المجتمع الأمريكي ثقافياً وسياسياً بما يدفع البلاد لجولة من إعادة التشكُّل من التفكيك والتركيب، كمرحلة من مراحل صعود وهبوط الحضارات والأمم؟

هذا ما لا يمكن الجزم به ضمن الفترة والمعطيات المتوفرة، ويحتاج لوقت أطول للتأكد من طبيعته واتجاهاته، غير أن الثابت الوحيد في السياسة هو التغير ضمن السنن والنواميس الناظمة لهذا العالم، وصيرورة التغيير ستنسحب على الجميع دون استثناء، المهم أن الذي يحدد اتجاهات ومستويات هذا التغيير هو حجم ونوعية الفعل، وليس الجمود في مربع الانتظارية والاعتمادية.
التعليقات (0)