قضايا وآراء

"الديمقراطية" و"الاستثناء الإسلامي" (2)

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
في خاتمة الجزء الأول من المقال، كنا قد طرحنا جملة من الإشكاليات التي يمكن اختزالها في قضية "الآفات" أو "العوائق" التي تمنع الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء من تجاوز المأزق النطري والسياسي الذي يرهن علاقتهم بعضهم ببعض من جهة أولى، وباستحقاقات الثورة وانتظارات عموم المواطنين من جهة ثانية. وكنا قد طرحنا أيضا مسألة "الاستثناء الإسلامي" باعتبارها جزءا جوهريا من أزمة بنيوية يعيشها العقل السياسي التونسي (بل العربي) سواء في علاقته بالإسلام أو في علاقته بالفلسفة المؤسسة للانتظام السياسي في الدولة- الأمة أو ما يِسمى بـ"الدولة الوطنية"، خاصة فيما أسماه أحد الباحثين بـ"النموذج الكمالي"، نسبةً إلى كمال أتاتورك، كما هو الشأن بالنسبة لتونس.

وجها الاستئصال والرهان الديمقراطي

ولو أردنا أن نعيد صياغة عنوان المقال بصورة إشكالية تتجاوز علاقة العطف أو "الترصيف" بين الديمقراطية والاستثناء الإسلامي، فإننا سنطرح السؤال التالي: إذا كان من الصعب على القوى العلمانية أن تقبل ببناء ديمقراطية "مع" الإسلاميين باعتبارهم "شركاء" لا غنى عنهم في المشروع الديمقراطي، فهل يمكن بناء تلك الديمقراطية "دون" الإسلاميين بمنطق الاستئصال الناعم (عدم اعتماد الحل الأمني، لكن مع الانقلاب على نتائج الانتخابات، أو حتى التحالف مع ورثة المنظومة القديمة لتحييد الإسلاميين ولترسيخ استبعادهم من مراكز القرار السياسية والإدارية، بدعوى منع "أخونة الدولة" والدفاع عن "النمط المجتمعي التونسي")، أو بمنطق الاستئصال الصلب (اعتماد المقاربة الأمنية أو "الحل النهائي" القائم على اعتبار الإسلاميين جسما غيرَ سياسي هو أقرب إلى "التنظيم الإرهابي" الذي يجب اجتثاثه، مهما كانت كلفة ذلك بشريا أو اقتصاديا)؟

المستبد الذي يخترق ضديده

لعل من أهم الآثار غير المنبثقة (أي غير المقصودة) للاستبداد هو أنه لا يطبع البنية الذهنية لمناصريه والمستفيدين منه فحسب، بل يخترق البنية الذهنية لخصومه بصورة تجعلهم (كما تشهد على ذلك العديد من التجارب) يعيدون إنتاج خطاباته وممارساته بعد وصولهم إلى السلطة.

ولا شك في أن تونس بعد هروب المخلوع (وانطلاقا من المرحلة التأسيسية مرورا بمرحلة التوافق وانتهاء بانتخابات 2019) لم تستطع الخروج من هذه القاعدة، بحيث وجد المواطنون أنفسهم في "ديمقراطية صورية" لم تستطع، رغم ادعاءات أغلب المستفيدين منها، أن تعدل إلا القليل في فلسفة "ما دون المواطنة"، أو "المواطنة المشروطة" التي حكمت تونس قبل الثورة خلال اللحظتين الدستورية والتجمعية.

هل تصلح البورقيبية لإدارة الجمهورية الثانية؟

منذ أن توافقت النخب السياسية التونسية بإسلامييها وعلمانيينها وعلمانييها على اعتماد البورقيبية لإدارة الثورة ومأسستها (وهو ما أظهر عجزها عن بناء سردية الثورة التي لا تكون بالضرورة قطعا مطلقا مع ما سبقها، ولكنها بالضروروة لا تكون إلاّ تجاوزا جدليا له)، لم يعد من الممكن طرح أية مراجعات مكلفة، داخليا وخارجيا) لمدى قدرة البورقيبية (باعتبارها أيديولوجيا كمالية لائكية) على بناء الجمهورية الثانية بصورة لا تتحول معها إلى مجرد لحظة مستأنفة في الجمهورية الأولى، ولم يعد من الممكن أيضا التفاوض الجماعي حول صلاحية الفكر البورقيبي على تنظيم العلاقات السياسية وهندسة الفضاء العمومي، في سياق مختلف جذريا عن سياقاته الأصلية التي كرست التحديث القسري والجهوية والزبونية والاغتراب الثقافي؛ في إطار "الدولة- الأمة" باعتبارها نقيضا فكريا لكل انتظام/ مشروع سياسي يتجاوز الحدود الجغرافية لـ"الأمة التونسية"، ولأساطيرها التأسيسية التي كرّسها "المجاهد الأكبر" والجنرال المخلوع الذي انقلب عليه سنة 1987.

في ضرورة تجاوز الأوهام وتكسير الأصنام

إن طرح قضية الديمقراطية وعلاقتها بمقولة الاستثناء الإسلامي لا يمكن أن ينفصل عن طرح قضية علاقة البورقيبية (ومَن ورثها من التجمعيين وحلفائهم في اليسار الثقافي المدجن من طرف الدولة أو حتى المعادي لها) بالديمقراطية تنظيرا وممارسةً، كما لا ينفصل عن طرح غياب المشروع الوطني الجامع (أو الكلمة السواء) الذي يمكن أت تتوافق عليه القوى العلمانية والإسلامية دون أن تتخلى بالضرورة عن هوياتها الخاصة، أو حتى عن علاقاتها التنافسية لإدارة الشأن العا، لكن دون بلوغ مرحلة التنافي والصراع الوجودي.

ولكن ذلك كله لا يجب أن ينسينا ما على الإسلاميين القيام به من مراجعات فكرية (في علاقتهم بالثورة واستحقاق الجمهورية الثانية أساسا)، أي مراجعات تتجاوز مفهوم "التَّونسة" البائس الذي هو مجرد خضوع للنخب الفرنكفونية المعلمنة، أو مجرد بحث عن "التطبيع" مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة للحصول على دور ما في إدارة التخلف والتبعية والفساد وإعادة إنتاج شروطهم.

هل سيفوتون علينا هذه الفرصة التاريخية؟

ختاما، لفهم الواقع التونسي بصورة أقرب إلى الدقة، قد يكون علينا أن نستبدل مقولة "الاستثناء الإسلامي" بمقولة "الاستثناء العربي"، وذلك لأن دولا إسلامية معروفة (مثل إندونيسيا وتركيا وماليزيا) قد فنّدت واقعيا مقولة الاستثناء الإسلامي، بينما عجزت كل الدول العربية (بدرجات متفاوتة) عن فعل ذلك.

ورغم كل ما تقدم من وصف لمظاهر المأزق الفكري والسياسي الذي تعيشه النخب التونسية (بعلمانييها وإسلامييها)، فإننا على يقين من أنها هي الأقدر على تفنيد "الاستثناء العربي"، وبناء تفاهمات أو تسويات تاريخية تكون مدخلا لمشروع وطني جامع قادر على مواجهة التحديات الكبرى التي تعرفها بلادنا في مختلف مناحي الحياة الأمنية والسياسية والاقتصادية.

وليس هذا الحكم من باب "حديث الأماني"، بل هو حكم يستند على سوابق تاريخية أثبتت فيها الكثير من النخب التونسية قدرتها على تجاوز ميراث التنافي والدوغمائيات القاتلة المنذرة بسقوط سقف الوطن على كل من فيه، بلا تمييز ولا استثناء.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)