هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
شهدت الأسابيع الماضية إقبالاً فلسطينياً غير مسبوق للعبور نحو مدنهم المُحتلة عام 1948 وخصوصاً المدن الواقعة على شاطى البحر الأبيض، حيث استغل الفلسطينيون الثغرات في السياج الأمني وعبروا أفراداً وجماعات في رحل عائلية ومتنوعة ليعيشوا أجمل أوقاتهم على ضفاف الساحل المحرومين منه بفعل الاحتلال.
تحت عين جيش الاحتلال فتحت ثغرات في السياج الفاصل، ذلك السياج الذي لعب دوراً أمنياً في الانتفاضة الثانية معززاً الفصل بين الضفة الغربية والمناطق المحتلة عام 1948، ومُشكلا نقطة تحول في التعامل مع الفلسطينيين، حيث استخدمت دولة الاحتلال قوتها المفرطة لمنع اختراق السياج أو الاقتراب منه. الأمر الذي تغير مع تفشي وباء كورونا، فصار الدخول للبلاد من غير (تصريح أمني) أو موافقة الاحتلال مُتاحا لمن يرغب بهذه المغامرة، ما دفع مئات الآلاف خلال الأسابيع الماضية ليعبروا نحو الأراضي المحتلة، فقصد أغلبهم وجهة واحدة هي البحر، فنزلوا على ساحل يافا وحيفا وعكا آتين بأطباقهم ومأكولاتهم وأجوائهم العائلية.
لم يأذن الاحتلال بفتح هذه الثغرات في السياج، وحاول أحياناً إغلاق بعضها ومنع التسلل من خلالها، أو ضبط العبور من خلالها بصيغة أدق، وخصوصاً بعد تداول الموضوع في الإعلام الصهيوني، لكن الجيش وبتعليمات عُليا أغمض نصف عينه وأغض الطرف عن ثغرات السياج، وخفف إجراءاته في الداخل المحتل، فصار التنقل بين المدن الفلسطينية على طول الساحل المحتل متاحاً دون الخوف من ملاحقة الشرطة، الأمر الذي يتضح أنه لم يأت نتيجة التداعيات الاقتصادية لأزمة كورونا فحسب وإنما جاء في سياق واعٍ ومدروس من قبل المؤسسة الأمنية الصهيونية.
التسلل للبلاد مسموح و"على عينك يا تاجر" من (الفتحات) أو عبر بعض الحواجز الرسمية منذ نهاية تموز/ يوليو الماضي طالما أنه مضبوط ويسهم في التخفيف من الضغط في الضفة الغربية الناتج عن الأزمات الاقتصادية وفشل المشروع السياسي، وطالما أنه يُسهم بتنشيط اقتصاد الاحتلال المُتعثر بفعل أزمة كورونا، وفوق ذلك أنه يُحقق هدفاً خفياً في إدارة العلاقة بين الاحتلال والفلسطينيين بعيداً عن الوسيط الرسمي (السلطة)، خصوصاً بعد وصول مشروع التسوية لطريق مسدود، وظهور المنسق الأمني للاحتلال على الفيسبوك كفاعل أساسي في التعامل المباشر مع الفلسطينين، والأهم من كل ذلك أن هذه (الفتحات) لم تأت بفعل مُقاوم يستوجب إقفالها والتشديد في الإجراءات على الساحل وفي المدن المحتلة، وهو الأمر الأهم بالنسبة للاحتلال في سياسات التعامل مع الفلسطينيين.
حلقة في سلسلة
يشير الباحث الفلسطيني أحمد أسعد في دراسته عن "سياسات (إسرائيل) تجاه العمال الفلسطينيين: ثالوث العنصرية، والفيروس، والجوع" إلى أن سلطات الاحتلال بدأت هذا التساهل في العام 2019 في محافظة طولكرم، حيث تغاضت عن الفتحات في السلك الشائك في شهري آذار ـ نيسان، ثم فتحت بعض البوابات في شهر أيلول (سبتمبر) من ذات العام، وسمحت للعمال بالدخول والخروج دون حسيب أو رقيب.
وبحسب الباحث أسعد: "ربما كان عدم إغلاق تلك الفتحات، مُحاولة لدراسة وتقييم أمني (إسرائيلي) لدخول الفلسطينيين بدون تصريح؛ أي أن العملية كانت لدراسة السلوك الفلسطيني من أجل بناء سياسات إسرائيلية لاحقة"، ويضيف الباحث أسعد: "لقد شكلت تلك الحادثة مختبرًا ميدانيًا إسرائيليًا لتقييم نتائج فتح البوابات أو السماح بعمليات تهريب العمال وقياس أثر التهريب على الأمن الإسرائيلي".
بذل الاحتلال جهده ليستمثر هذا العبور الجماعي للفلسطينين إلى الأراضي المحتلة عام 1948، متغاضياً عن طبيعة الأشخاص الذين يتسللون طالما أن أمنه مستتب، الأمر الذي يعيه كُثرٌ ممن وقف على شاطئ البحر في الأسابيع الماضية. غير أن رهاننا يبقى على متانة العلاقة بين الفلسطيني وبلاده،
وإذا كان الأمر على هذه الحالة فإن ما تلا ذلك من تداعيات اقتصادية وسياسية ناتجة عن أزمة كورونا وإغلاق الضفة الغربية بسبب إعلان حالة الطوارئ للحد من انتشار الفيروس، ومطالبة العمال العرب بتجنب التوجه للعمل في الأراضي المحتلة تجنباً لإصابتهم بالفايروس، أو نقل العدى لذويهم، جعل الاحتلال يذهب بخطوة أخرى في هذه الاجراءات، فسمح للعمال بالدخول والمبيت لأسابيع، ثم تغاضى عن مافيات التهريب التي شحنت العمال (غير القانونين) حسب تصنيفه ـ وهم الذين لا يملكون تصاريح للدخول للأراضي المحتلة ـ، وأدخلتهم لسوق العمل دون ملاحقة كالمعتاد.
وبذا ظلت الأهداف (الإسرائيلية) من هذا التغاضي عن الفتحات والدخول من غير تصريح مُتحققة، فالأمر الذي كان يُعتبر (غير قانوني) يتم بموجبه اعتقال العمال وسجنهم وفرض غرامات مالية عليهم، أصبح الآن مُباحاً وضرورياً ويتم تنفيذه أمام عين دولة الاحتلال.
العبور الجماعي
لقد تعامل الفلسطينيون مع ظاهرة التسلل من ثغرات السياج برؤى مختلفة رغم وعي بعضهم لمسألة التسلل وفوائد الاحتلال الاقتصادية والسياسية، لكن إيمانهم بضرورة استغلال الفرصة والذهاب لرؤية بلادهم التي أخرجوا منها وحرموا من التعرف عليها كان غالباً عليهم، وخصوصاً أن كُثراً من الفلسطينيين ممنوعون أمنياً من الوصول لهذه المناطق بحكم نشاطهم السياسي أو الوطني.
كانت مشاهد العائلات العربية الآتية من كل مناطق الضفة الغربية تعكس حجم التعطش لرؤية البلاد والشعور بالانتماء لها، فاندفعوا في جولات جماعية وفردية لزيارة البحر والمعالم التاريخية والأثرية والأسواق القديمة في المدن والبلدات المحتلة، وكان واضحاً حجم النهم المعرفي لبلادهم التي يجهلون منها أكثر مما يعرفون بحكم المنع من الوصول إليها بعد أن طردوا منها وصارت لغيرهم.
وعلى الرغم من تحذير وزارة الصحة الفلسطينية من أثر هذه الزيارات في نقل فايروس كورونا، إلا أن الناس تعاملت مع الأمر بأنه فرصة لا يُمكن تضييعها أو تأجيلها، فما نستطيع فعله اليوم قد يعود الاحتلال لمنعنا منه غداً، ولذا بقيت الرحل وخصوصاً يوم الجمعة تُشكل عبوراً جماعياً نحو جنة البلاد وأجمل ما فيها، مراعين شروط السلامة بالحد الأدنى وهو لبس الكمامات.
وككل الظواهر الاجتماعية، انعكست ظاهرة العبور نحو البلاد من خلال الفتحات، على مواقع التواصل الاجتماعي من خلال النكات والملاحظات التي تداولوها حول ذلك، فأحدهم ويسكن مدينة رام الله كتب:" من كثر ما نزلت هالاسبوع ع يافا، اذا امي طلبت كيلو عدس بنزل بجبلها اياه من يافا".
وبدأ آخرون يؤكدون على أهمية المحافظة على نظافة البحر والمناطق التي يرتادها الأهالي، في حين أكد آخرون على أن البلاد لهم وسيحتفلون بوجودهم بها كما يحلو لهم، بلا ضوابط جمالية، فقد سلبت منهم بدون أخلاق وجمالية أيضاً.
كان من اللطيف رؤية العائلات العربية آتية معها بما لذ وطاب من مأكولات وأطباقهم التقليدية كالمقلوبة وورق الدوالي، وفوق ذلك وصل الأمر بباعة المشروبات الشعبية كالخروب والتمر هندي ليلتحقوا بغيرهم من قاصدي جنة البلاد المُحتلة حاملين معهم مشروباتهم ومنادين عليها على شاطئ البحر، وكان هذا أيضاً بابا للتندر من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، فكتبوا:" بلدية نتانيا بتبلغكم الي ناسي طناجر طبيخ على البحر ييجي يستلمهن على مفرق كفار سابا".
الوعي المنتصر
بذل الاحتلال جهده ليستمثر هذا العبور الجماعي للفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة عام 1948، متغاضياً عن طبيعة الأشخاص الذين يتسللون طالما أن أمنه مستتب، الأمر الذي يعيه كُثرٌ ممن وقفوا على شاطئ البحر في الأسابيع الماضية. غير أن رهاننا يبقى على متانة العلاقة بين الفلسطيني وبلاده، وعلى هذا الشعور الدافئ الذي نكسبه كلما وصلنا مناطق مُحتلة من بلادنا، إذ نحتاج إلى المعرفة فمن لا يعرف بلاده كيف له أن يحبها.