هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أثار رد الدكتور يوسف القرضاوي على التهنئة التي وجهها له رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور أحمد الريسوني، ردود فعل كبيرة في الساحة الإسلامية، حيث جاءت رسالة الشيخ القرضاوي بمثابة رسالة وداع، بالنظر إلى تقدمه في السن، لكنه كان متماسكا ومسترسلا في حديثه عن واقع وحال الأمة.
"عربي21"، تفتح ملفا عن فكر الشيخ القرضاوي، وإسهاماته في قراءة وفهم الفكر الديني في المشهد الديني المعاصر..
اليوم يسلط الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار الضوء في تقرير خاص بـ "عربي21"، على إسهامات الشيخ يوسف القرضاوي في تطوير الخطاب الإسلامي في الجزائر خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
ترك بصمة واضحة في الجزائر
إذا ما استثنينا الأدوار المحورية والأساسية التي لعبها علماء الجزائر من أمثال الشيوخ عبد الحميد ابن باديس والبشير الإبراهيمي والعربي التبسي وأحمد سحنون والمفكر مالك بن نبي، في صناعة صحوة إسلامية هائلة في الجزائر في نصف القرن الأخير، فإن إسهامات الشيخ يوسف القرضاوي من غير الجزائريين في هذا الجهد لا يدانيه أحد مشرقا أو مغربا، سوى ما كان من جهد عبقري بذله أيضا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
لقد ترك الشيخ القرضاوي أكثر من بصمة في الوجدان الاسلامي الجزائري، ليس لأنه كان الجناح الثاني إلى جانب الشيخ الغزالي في تحليق طائر الصحوة والتجديد في الخطاب الحركي والدعوي، وإنما لأنه تميز عبر ما أتيحت له من منابر واسعة في الجزائر خاصة سنوات الثمانينيات، جراء الزيارات المكوكية التي قاد بها الشيخ للجزائر، بل واستقراره بها لسنوات عديدة، والمحاضرات الغنية التي كان يلقيها سواء في الجامعات أو حتىى في التلفزيون الحكومي، من بث الوعي الحركي الذي حرر الإسلاميين من عقدة ممارسة السياسة، وفق الضوابط الشرعية، وهو الدور الذي لم يكن باستطاعة أحد أن يلعبه إلا إذا كان فقيها وسياسيا في نفس الوقت، الأمر الذي مكنه بهذه الثنائية من صناعة جيل قادر بدوره على مواجهة ثنائية الاستبداد والتكفير.
صناعة الوعي الحركي الإسلامي
يقر الإعلامي عبد الحميد عثماني أن العلامة يوسف القرضاوي يعد من المرجعيات الفكرية الأساسية التي أسست للصحوة والحركة الإسلامية في الجزائر منذ نهاية السبعينيات من القرن الفائت، خاصة لدى جناحها الإخواني بشقيّه الدولي والإقليمي. ذلك أنّ الرجل من أبرز أعلام الفقه الوسطي والفكر المعتدل في العالم الإسلامي، فضلا عن أنه من الرموز التنظيريّة والدعوية في "جماعة الإخوان المسلمين" منذ الخمسينيات، زيادة على مساره الأكاديمي العالي في حقل العلوم الشرعيّة بمختلف فروعها.
هذه المؤهلات الكبيرة وشبه الاستثنائية التي اجتمعت في رجل واحد، يضيف عبد الحميد عثماني، جعلت من الشيخ القرضاوي، إلى جانب المرحوم محمد الغزالي، بمثابة الأب الروحي للتيار الإسلامي في الجزائر، وزاد من تأثيره حالة الفراغ الثقافية الفكرية الإسلاميّة في البلاد خلال عقود الاستقلال الأولى، إلا ما كان من آثار جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي ظهرت في سياق الردّ على الاحتلال أو أفكار مالك بن نبيّ النخبويّة، لذلك تربّعت مؤلفات الرجل على صدارة المراجع الموجهة للخطاب الدعوي الإسلامي الجزائري في مواجهة موجات الإلحاد والقومية العرقيّة والعلمانية والتطرف الديني والغلو الفقهي والتنطع المذهبي، ولا أدلّ على ذلك من حجم الاستدلال من الأئمة والدعاة ورموز العمل الإسلامي الجزائري قبل "العشرية السوداء" بكتابات وأفكار القرضاوي.
لقد كانت مقاربات الشيخ القرضاوي بالنسبة لعبد الحميد عثماني، بارزة في صناعة الوعي الحركي الإسلامي في الجزائر، فيما يتعلق بضرورات الفقه السياسي وأولويات الحركة الإسلامية في ظل التحديات التي واجهتها خلال مرحلة توسعها البنائي والتنظيمي في نهاية الثمانينيات، ثم تعاملها مع السلطة ومكونات المشهد الوطني لاحقا، وهو ما تجسّد خاصة في خطاب وممارسة "حركة المجتمع الإسلامي"، وهي الذراع الإخوانية محليّا في الجزائر، وكذلك جماعة "النهضة" الجزائرية التاريخية، حيث قامت تجربتهما، مع اختلاف المواقف السياسية، على الأدبيات التي كرّس لها يوسف القرضاوي الكثير من أعماله الفكرية، ومن يقرأ مؤلفات الشيخ محفوظ نحناح، رحمه الله، والشيخ عبد الله جاب الله، سيقف على مدى تأثير الرجل في صياغة فكرهما.
وتعتبر مشاركات الشيخ يوسف القرضاوي خلال عقد الثمانينيات بصفة منتظمة في "ملتقيات الفكر الإسلامي" السنوية التي كانت برعاية الدولة الجزائرية، ناهيك عن ندوات أخرى خاصّة مع مطلع التسعينيات، من أهم المحطات التي زرعت أفكاره في الجزائر وسط النخبة الدعوية والإسلامية، فقد عرفته الجماهير خلالها محاضرا ومتدخلا ومشاركا فاعلاً يطرح فكرا واعيا ومتقدمًا في الفكر الإسلامي.
كما كان لتوزيع وانتشار مؤلفات القرضاوي الغزيرة في معارض الكتاب، التي كانت من أبرز نشاطات الإسلاميين في سنوات الصحوة الدينية الأولى، تأثير عميق في صقل العقل الإسلامي الجزائري وعموم المنتسبين للحركة الإسلامية.
ويخلص الإعلامي عبد الحميد عثماني في ختام حديثه لـ "عربي21"، إلى أن الحضور العلمي للشيخ القرضاوي كأستاذ زائر بالجامعة الإسلامية في قسنطينة وعضوا بمجلسها العلمي منذ 1985 إلى 1992 سيبقى من الفرص الرئيسة التي سمحت بتكوين "جيل نخبوي" حامل لمشروع الرجل الفكري والدعوي التجديدي في الجزائر.
رمز الصحوة ومرشدها
ويعتبر الدكتور عبد الرزاق مقري، رئيس حركة مجتمع السلم، كبرى الحركات الإخوانية في الجزائر، أن الشيخ القرضاوي يعد شيخ الصحوة الإسلامية لأجيال عديدة، ورمزها ومرشدها، وكان هو والشيخ محمد الغزالي رحمه من أكبر العلماء الذين تطرقوا إلى تجديد الرؤى والخطط والخطاب الإسلامي، وقد قام بذلك على أساس علمي أصيل، وتوجهات فكرية استشرافية عميقة، أثرت في قادة الصحوة في كل أنحاء العالم، ومن البلدان التي تأثرت بعلم وفكر الشيخ القرضاوي الجزائر، ومن الحركات التي تأثرت كثيرا بشخصية الشيخ وعطائه الإبداعي لصالح الإسلام والمسلمين حركة مجتمع السلم.
ويضيف الدكتور مقري: "سبق لي أن كتبت كتيبا عن الشيخ القرضاوي تحت إشراف مركز الحضارة للبحوث والدراسات بمناسبة بلوغ فضيلته سن التسعين، وقد تشرفت باتصال من فضيلة الشيخ نفسه يدعوني للمساهمة في إعداد الكتاب، أعطاه الله الصحة والعافية وجزاه الله عنا وعن الأمة خيرا كثيرا".
ويؤكد الدكتور عبد الرزاق مقري في حديثه لـ "عربي21"، أن الشيخ القرضاوي كان من المشاركين الدائمين في ملتقى الفكر الإسلامي بالجزائر الذي كان الأستاذ مالك بن نبي من مؤسسيه ثم رعته الدولة باسم وزارة الشؤون الدينية، فكان يزور الجزائر كثيرا، ثم استقر فيها سنوات حيث أفادت منه الجامعة الإسلامية الأمير عبد القادر بقسنطينة، وكانت له برامج تلفزيونية ثابتة والمشاركة في الندوات والمؤتمرات والمحاضرات وغير ذلك من الأنشطة العلمية والفكرية.
إلا أن كل ذلك برأي الدكتور مقري، فإنه بقدر ما فرح بوجوده أغلب الجزائريين وأهل العلم والفكر، حقد عليه بعض العلمانيين وخصوم الصحوة الإسلامية وبقي مرور الشيخ الغزالي والشيخ القرضاوي غصة في حلقهم إذ يعتبرونهما من أهم عوامل نشر الصحوة في الجزائر.
إقرأ أيضا: القرضاوي والمشروع الإسلامي المعاصر.. المرتكزات والسياق