الحرب الأهلية الإسبانية في ثلاثينيات القرن العشرين كانت شديدة التكثف، إذ التقت فيها صراعات إسبانية معقدة بين القديم والجديد، مضافة إليها صراعات أخرى دولية.
أصبحت إسبانيا مسرح حرب عالمية مصغرة ومبكرة بين منظومة رأس المال والملاكين الكبار الملكيين عموما، والمنظومة اليسارية "الجمهورية" بتنويعاتها الشيوعية والفوضوية. ولأنها بذلك التكثف والتعقيد، أنتجت الحرب الأهلية الإسبانية دراما حقيقية، انتعش فيها رواة كبار مثل أرنست هيمينغواي، وتم فيها إبداع مصطلحات جديدة، ومنها مثلا "الطابور الخامس" (quinta columna).
القصة تقول، وهي قصة لأنه ليس لدينا تحديدا أصل ثابت وموثق لمصطلح "الطابور الخامس"، إن جنرالات في حكومة فرانكو اليمينية تحدثوا عن أن في جيشهم أربعة طوابير، ولكن هناك آخر خامس يستعد للغدر خلف خط المعركة، داخل صفوف الحكومة الجمهورية اليسارية. أصبح منذ ذلك الحين "الطابور الخامس" رديفا للأطراف التي تتموقع في موقع الغدر والدور الوظيفي لطرف آخر خارج إطارها الاجتماعي والسياسي.
في السياق
التونسي، نحن بصدد اكتشاف وضع جديد هو "الطابور السادس"، ذراع الطابور الخامس.
تذكرت كل ذلك وأنا أطالع خبر الأسبوع: "خلال حضورها في برنامج "متابعات" على القناة الوطنية، الأولى تهربت رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي من سؤال يتعلق بإعلان
الإمارات تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني، حيث اعتبرت أن ذلك أمر داخلي يخص الإمارات فقط، حيث أن الدبلوماسية التونسية قائمة تاريخيا على الحياد حسب تعبيرها" (خبر نقلته مواقع مختلفة مثل باب نت، واستمعت إليه في تسجيلات لاحقة).
موسى وجماعتها بنوا خطابهم الذي يزايد بالوطنية والمعادي للثورة والديمقراطية على أساس أن ما حصل في تونس جزء مما تسميه هي "الربيع العبري"، في إشارة إلى أن
الثورة مؤامرة
إسرائيلية أمريكية... منذ أسبوع استشهدت كما أي مستهلك للإشاعات و"الفيك نيوز" بمذكرات مفبركة ووهمية منسوبة لهيلاري كلينتون، للتأكيد على نفس الكذبة، أي أن الثورة في تونس قامت بها قوى أجنبية... كل ذلك للدفاع عن نظام ابن علي، وأنه لم يكن هناك مبرر للثورة.
الآن، عندما أعلنت الإمارات أنها مجرد طابور خامس لدى إسرائيل، بل لدى أكثر أجنحة الصهيونية تطرفا، أحجمت موسى عن التعليق في البداية (عكس أغلب الأحزاب التونسية التي نددت بذلك، كما أعلن رئيس الجمهورية قيس سعيد رفضه الضمني للقرار الإماراتي في تصريح خلال مقابلته السفير الفلسطيني في تونس)، والآن تعتبر أن الأمر "شأن داخلي" إماراتي!
هذا الاختبار في الاستقلالية الذي فشلت فيه موسي (كما هو متوقع) لا يكشف نفاقها فحسب، بل يكشف أيضا رعاتها ومموليها!
ولنكن واضحين، ليست موسى أمرا استثنائيا، هي فعلا سليلة منظومة تعتبر "
التطبيع" اجتهادا واقعيا مقبولا، ووجهة نظر. سبق أن كتبت مرارا، خاصة قبل الثورة باسم مستعار حينها "الطاهر الأسود"، أن من ثوابت نظام بورقيبة/ ابن علي التموقع في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، ومن ثمة التموقع في أي مبادرات سرية أو علنية للتطبيع مع وضع إسرائيل، وذلك منذ تأسيس دولة الاستقلال بناء على معطيات أرشيفية بعيدا عن المؤامراتية الفجة، وردت خاصة في مؤلف للمؤرخ الإسرائيلي مايكل لاسكيار، صادر في سنة 2004 عن دار النشر التابعة لجامعة ولاية فلوريدا، والمعنون بـ"إسرائيل وبلاد المغرب: من إقامة الدولة إلى أوسلو" (Israel and the Maghreb: From Statehood to Oslo).
اعتمد الكاتب ضمن مصادره تقارير لشخصيات رئيسية شاركت في أحداث تتعلق بالفترة الزمنية الخاصة بالوثائق سابقة الذكر. ويتعلق الأمر مثلا بتقارير كتبها ألكس ايسترمن (Alex Easterman)، مدير المكتب السياسي لـ"الموتمر اليهودي العالمي" في لندن، عن حوارات ومقابلات أجراها مع مسؤولين تونسيين (مثلا الرئيس بورقيبة ووزير الخارجية بورقيبة الابن سنة 1966 في تونس)، والتي نشرها كاملة ضمن ملحق خاص.
يأتي في هذا الإطار لقاء مهم جدا بالنسبة لصياغة رؤية بورقيبة للسياسة الخارجية التي يجب أن تلعبها تونس في المستقبل وهي على أبواب إنهاء الاحتلال العسكري الفرنسي. ففي شهر شباط/ فبراير 1956 وخلال المفاوضات الدائرة في فرنسا حول الاستقلال، التقى بورقيبة بالسفير الإسرائيلي بباريس ياكوف تسور (Yaakuf Tsur)، وبعد سماعه ملاحظات عديدة لبورقيبة تتلخص في "كرهه" لعبد الناصر وسياسته في المنطقة، نصح السفير الإسرائيلي بورقيبة بأن عليه "ضمان دعم اليهود الأمريكيين للحصول على دعم اقتصادي أمريكي".
وتلاحظ الوثائق الإسرائيلية في هذا الإطار أن موافقتها على الاستجابة للمطالب الأمريكية كان في إطار أملها أن تساهم الحكومة التونسية في تشجيع حكومات عربية "معتدلة" أخرى؛ من أجل "إفشال أو تخريب الجهود المصرية والسورية للوحدة العربية".
وخلال نفس الفترة أقام الطرفان خلية اتصال دائمة من خلال سفيريهما في باريس: السفير التونسي محمد المصمودي والسفير الإسرائيلي والتر إيتان (Walter Eytan)، وذلك بحضور الموساد الإسرائيلي. كما التقى المصمودي مرة على الأقل بوزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك أبا إيبان (Abba Eban)، وذلك بمنزل البارون دي روتشيلد. هذا بالإضافة إلى وجود قناة اتصال أخرى من خلال ايسترمن، والذي كانت له علاقة قديمة ببورقيبة كما أشرنا إلى ذلك سابقا.
ومن أهم النقاط التي يمكن التأكيد عليها في علاقة بالنقاشات التي تمت عبر قنوات الاتصال هذه؛ الطلب التونسي من خلال محمد المصمودي (مثلا في لقاء يوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1966 بين الإخير وإيسترمن) لدعم اليهود في الغرب لتونس ماليا واقتصاديا عموما، وذلك لتجنب علاقة مباشرة ومكشوفة بين الطرفين، وهو الأمر الممكن في حالة الاعتماد على يهود يحملون جنسيات أخرى غير إسرائيلية.
وورد أيضا في ذات الوثائق الأرشيفية اضطرار مدير المكتب السياسي لـ"الموتمر اليهودي العالمي" الكس إيسترمن؛ للبقاء حبيس غرفته في أحد فنادق العاصمة التونسية، في زيارة سنة 1966 دعاه إليها الرئيس بورقيبة، حيث ماطله الرئيس قبل لقائه في سرية مطلقة. وقد تم تكرار رغبة الرئيس التونسي في الحفاظ على المحادثات في إطار من السرية الكاملة، وهو ما اضطر إيسترمن لتقديم ضمانات واضحة في هذا الشأن.
وهكذا كان حال التقارب المخفي بين الطرفين منذ بدايته، أي منذ بداية الخمسينيات. وبشكل عام كان ذلك التقارب شديد الخفاء حتى يفعل أثره.
لن نضيع الوقت أكثر في الدور الذي لعبه نظام ابن علي في "ترويض" منظمة التحرير خلال المفاوضات السرية بين السفير الأمريكي في تونس وقيادة المنظمة أواخر ثمانينيات القرن العشرين. أيضا دوره في ترتيبات أوسلو- أريحا، ومبادرته لإقامة مكتبي "اتصال" مع إسرائيل في تونس وتل ابيب.
موسى مجرد مثال على وضع دائم ويتمثل فيما يلي: كلما بالغ البعض في الوطنية والمزايدة بها؛ كلما وجب علينا التحري إن كانت تلك المزايدة الوطنجية شكلا من أشكال الخيانة أم لا.
نعم، هناك مؤامرة عبرية إسرائيلية على العرب، وهي تلك التي تستهدف حقهم في الحرية والديمقراطية... الإمارات طابور خامس في هذه المؤامرة وموسى طابور سادس خلف الإمارات!
twitter.com/t_kahlaoui