صور انطباعية سلبية تراكمت في الذاكرة
الفلسطينية والعربية عن ذلك الجندي القاتل الذي يصوب سلاحه صوب طفل فلسطيني فيرديه قتيلا، ومستوطن غاصب مدجج بالسلاح يحرق بيتا ويقتلع أشجارا مثمرة ويعذب طفلا حتى الموت.. مشاهد الصواريخ التي تلقيها الطائرات
الإسرائيلية تدق بها بيوتا تحولها خرابا وتسوي صروحا بالأرض.. تلك الصور كانت حاضرة في الذاكرة حتى حرب غزة عام 2014، لكن هل ظلت تلك الصور ذاتها بعد سنوات من تلك الحرب؟؟
يُلحظ في السنوات الماضية تحول لافت لكنه ليس جديدا في استراتيجية الاحتلال في تعامله مع الشعب الفلسطيني والشعوب العربية عموما، يغلب عليه الدفع بقوة تجاه تحسين الصور الذهنية للكيان لدى الفئات المختلفة وبشتى الوسائل المتاحة، موظفا أفضل ما لديه من إمكانات العلاقات العامة ومستفيدا من تقنيات
الإعلام الرقمي، حتى باتت أيامنا حبلى بكل جديد، فأصبحنا نترقب خطوات ومبادرات ومفاجآت تطبيعية في كل لحظة ومن أطراف غير متوقعة. بل إن وتيرة المفاجآت ستتواصل إذا ما استمر التعاطي الاحترافي الإسرائيلي بهذه الوتيرة مقابل عدم الاكتراث الرسمي الفلسطيني والعربي.
لم يكن خروج المنسق "الإسرائيلي" للجمهور الفلسطيني والعربي عبر صفحته على فيسبوك بالابتسامة العريضة على محياه؛ مهنئا إياهم بمناسباتهم وأعيادهم، بل وجالسا على مائدة الإفطار الرمضانية منتظرا الأذان ومبتهلا إلى الله بالدعاء، وسلوكيات كثيرة من هذا القبيل شاهدها الكثيرون؛ ليست سوى دلالة واضحة على فهم هؤلاء لكيفية تشكيل الرأي العام وصناعة العقلية الجديدة لجيل ناشئ يتماهى مع ما يريدون.
غرسٌ للصور الذهنية لدى الجيل الجديد عن الإسرائيلي في سياق الصور الإنسانية المتعاطفة معه والحضارية التي يفقدها في بيئته العربية والإسلامية. فقلما تجد في القوات الأمنية العربية والفلسطينية، فضلا عن غيرها من المؤسسات المدنية، من يخرج للجمهور بهذه الصورة الطيبة ويبث الإيجابية ويفتح أبوابه لحل مشكلاتهم؛ كما يفعل ذلك الجندي الإسرائيلي المسمى بالمنسق!!
ست سنوات على آخر حرب إسرائيلية، تجنبت بعدها وخلال تولي بنيامين نتنياهو الحكومة اليمينية الدخول في حروب جديدة.. فترة تستحق دراسة عميقة للنهج الإسرائيلي الجديد، لكن في هذا المقال نجمل بعجالة بعض المواقف.
فالإدارة المدنية باتت تلعب دورا خدماتيا مهما في حياة الفلسطينيين، فأصبحت بوابة الرحمة التي يتلقون منها تصاريحهم للدخول للقدس والمناطق المحتلة عام48، والتي باتت تغدق عليهم التصاريح بكل سخاء، بل وتفتح باب "التوبة" على مصراعيه لمن شاء طي صفحات الماضي وفتح صفحة جديدة!! فمن أرد السفر والعلاج والعمل، يمكنه ذلك بزيارة تلك المكاتب المنظمة، فضلا عن استخدام التطبيقات الالكترونية التي خصصت لذلك. بل وفي فترة انتشار وباء كورونا سجلت الشرطة الإسرائيلية مخالفات بحق غير الملتزمين بالإجراءات، فباتت تلعب دورا إنسانيا في إلغاء تلك المخالفات لمن يتقدم بطلب لها.
تلك الصور التي بنتها الإدارة المدنية تقابلها في الذاكرة الفلسطينية والعربية صور الأنظمة العربية الحاكمة التي لم تع خطورة ما تقوم به الماكينة الإعلامية الإسرائيلية. ففي الوقت الذي تغلق فيه السلطة الفلسطينية المناطق الخاضعة لها كإجراءات وقائية وتتعطل عجلة الاقتصاد ويصل الكثيرون حد العوز، تفتح حكومة الاحتلال مدنها وتواصل عجلة الإنتاج والعمل. وفي الوقت الذي تغلق دور العبادة ويحد من التنقل، تفتح دولة الاحتلال أبوابها مشرعة أمام السياحة الفلسطينية للدخول لكافة المدن والتمتع بأجواء البحر صيفا، حتى إن حواجز إسرائيلية سمحت للسيارات الفلسطينية بالدخول ومن غير تصاريح.. صور متناقضة لسلطتين؛ صورة المنع والتضييق والملاحقة والعقوبات، وصور الحرية والاستمتاع والتسامح!
الحالة التي شكلتها الصور المرسومة بدقة في المخيلة الفلسطينية وتراكميتها على مدار سنوات؛ باتت تشكل خطرا على جيل كامل من الفلسطينيين الذين فتحت أعينهم على هذه المشاهد، الأمر الذي لمست آثاره في حجم التعاطي الشعبي مع التوجهات الرسمية والفصائلية في محطات كصفقة القرن والضم وغيرها. لكن الموضوع بات أكثر خطورة مما يُعتقد، فالصور الإيجابية تبث يوميا مع عدم اكتراث السلطة بأجهزتها الأمنية والمدنية لأهمية الإيجابية التي ينبغي أن تبث منها لجمهورها الفلسطيني في ظل المنافسة الإسرائيلية لها، وفي ظل الحالة الصعبة التي يعيشها الفلسطيني، مع ضرورة أن تدرك حقيقة أن شعارات الصبر والبعد الوطني الذي عولت عليه الفصائل والسلطة سابقا؛ لم تعد تجدي في ظل الواقع الجديد، ولا ينبغي الركون إليه كثيرا، والأجدى هي العودة للشعب وانتهاج سياسة جديدة قبل الوقوع.
حالة
التطبيع العربي التي نشهدها ليست وليدة اللحظة، بل هي نتاج تهيئة الشارع العربي منذ سنوات وبوتيرة مدروسة تعتمد هندسة الجمهور بأساليب علمية دقيقة، وصولا لحالة الرضى وعدم الانزعاج من تلك العلاقات. وسواء كانت صناعة الصور الذهنية الإيجابية لإسرائيل بمساعدة الحكومات أو باحترافية الاحتلال وحده، فكله أنتج في نهاية المطاف شرائح اجتماعية ليس لديها مشكلة مع "إسرائيل"، فلا تجد حرجا من زيارتها وتبادل الضحكات مع بنيامين نتنياهو على الأشهاد، بل إن مشكلتها مع أنظمتها التي تقتلها وتدك مدنها وقراها بالبراميل المتفجرة أكبر بكثير، ومع من يضيق عليها حياتها، وليس من يخرج لها مبتسما ويسهل لها ما يمنع عنها ويفتح مطاراته ومستشفياته وشواطئه لها. فباتت المسلسلات التطبيعية وجهة فنانين عرب، ودولة الاحتلال محط سياح عرب، وفضائيات عربية بوابة لإسرائيليين يطلون منها على الجهور العربي. وليس بعد هذه الحالة سوى مزيد من العلاقات التي ستتكشف تباعا، ومزيد من الأثمان الكبيرة التي ينتظر دفعها على حساب هويتنا وانتمائنا وحقوقنا إن لم نُولِ الرأي العام حقه ونهتم بوعيه.