هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يَكثر في الحوارات الدينية بين أتباع الاتجاهات الإسلامية المختلفة استخدام مصطلحي المحكم والمتشابه، استنادا إلى ما قررته آيات سورة آل عمران من أن الكتاب الذي أنزله الله على رسوله (مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..)، وعادة ما يتم استدعاء المحكم باعتباره معيارا حاكما لفهم المتشابه برده إليه وعرضه عليه.
ومع أن أقوال العلماء تعددت في تعريف المحكم والمتشابه، إلا أن أكثرها تداولا وظهورا تعريف المحكم بأنه "ما لا يحتمل إلا معنى واحدا، كقوله تعالى (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)، و (مائة جلدة) فلفظ المائة لا يحتمل غيره.. أما المتشابه فهو ما اشتبه بغيره ومعناه فصار محتملا وهو على رتب" بحسب عميد كلية الفقه المالكي بجامعة العلوم الإسلامية العالمية في الأردن، الدكتور وليد الشاويش.
وأوضح الشاويش أن"المحكم يكون محكما بنفسه ويكون محكما بغيره كذلك، ومنه المحكم بجمع الأدلة" مناقشا ما قد يقال من أن دلالة النصوص قليلة، والظاهر المحتمل هو الأكثر في أدلة الشريعة، بما يعني أن أدلة الشريعة محتملة" ليجيب "إن الدليل محتمل في نفسه حينما يكون منفردا، ولكن لو ضمت إليه بقية الأدلة لتظاهرت كلها على معنى بعينه، كتكاثر الأدلة على وجوب النية في العبادات، واعتبار العادات صحيحة دون نية، وأن الكفر يكون بالجحود والعناد وليس بالذنوب، ويكون تكاثر هذه الأدلة على معنى واحد في رتبة النص".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ومما يزيل الاحتمال عمل الأمة المتواتر كالصلاة مثلا فقد اجتمع فيها البيان بالقول والعمل ونقلت بالتواتر، كعمل الأمة على شرط الوضوء مع أن دلالة الأمر تدل على الوجوب وتحتمل الندب، فيكون عمل الأمة على الوجوب رافعا لاحتمال الندب، وعليه إن احتملت الأدلة في نفسها وبمفردها، إلا أن الاحتمال يزول بتظاهر الأدلة، وهنا تكون المحجة البيضاء قاطعة بمجموع أدلة الشريعة لا بالمتشابه المنفرد، وتظاهر الأدلة على معنى واحد يجعلها في رتبة النص".
وتابع الشاويش مبينا أنواع المتشابه فمنه ما يكون متشابها حقيقيا وهو "ما لا سبيل إلى معرفته من جهة الوضع اللغوي، ولم يبينها الشارع، ولا تعلم من جهة القياس، كدلالة كلمة الله على الذات العلية فلا سبيل إلى معرفة حقيقة الذات وماهيتها، وكقوله تعالى (طسم)، (كهيعص).
وأشار إلى أن المتشابه الإضافي ما يتعلق بظاهر النص وله معنيان، معنى راجح متبادر للذهن، ولكنه يحتمل معنى آخر مرجوحا، كالعام يحتمل التخصيص، والمطلق يحتمل التقييد.. ومنه المجمل وهو ما ليس واضحا في نفسه كقوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) لم يتضح المراد منهما من حيث الدليل منفردا عن غيره من الأدلة، ولكن بينها النبي عليه الصلاة والسلام قولا وعملا فارتفع الإجمال بالبيان، ومنه كذلك المشترك وهو استعمال للفظ في أكثر من معنى في الوضع اللغوي كقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فيبحث المجتهدون عن تعيين المعنى المراد منه بحسب طرق الاجتهاد وقواعده".
وأكدّ الشاويش "وجود اتفاق على المحكمات بين يدي المجتهدين، إنما تحدث الآفة من جهة طريقة الرد إليها عند غير المجتهدين، الذين تسوروا محراب الاجتهاد، وتشابهت عليهم أدلة الشريعة.. فالمحكمات تمثل القواعد والأعمدة التي لا يجوز المساس بها، والمتشابهات تعطي المجتهد قدرا من النظر، بحيث يتمكن من تقسيم البيت إلى تقسيمات مختلفة بشرط عدم المساس بالقواعد والجسور والأعمدة، وهي تعطي فرصة لساكني المبنى أن يتصرفوا في تقسيمه بحسب القواعد والأعمدة، ومصالح معاشهم في دنياهم".
ولفت إلى أن "المجتهد له قدرة على الجمع بين الأدلة والترجيح بينها وفق المنهج الأصولي، وقد أثمرت الأدلة الظنية المحتملة أربعة مذاهب فقهية محررة متبوعة من الصين إلى الأطلسي، وقد كتبت هذه المذاهب فقهها بنصوص مقننة بدلالة القطع في المتون الفقهية أدق من القانون، لأن المجتهد قادر على رد الظني المتشابه للمحكم.
وأضاف: "بخلاف اقتحام المتسورين محراب الاجتهاد فتشابهت عليهم الأدلة، لأنهم عاجزون عن الجمع بينها، فيظهر اضطرابهم، وتظهر بذلك رتبة الراسخين في العلم، ويتمايزون عمّن زلت أقدامهم في المتشابه، ولولا المتشابه لجمدت الشريعة جمود القانون، ولم تعد قادرة على الخروج من القرن الأول، ولألغيت كما يلغى القانون الجامد بعد سنين من التعديلات، ولولا المحكم لصارت الشريعة لغزا، لا يعرف منها مراد الشارع، وهذا هو الميزان الذي ينتظم أدلة الشريعة جميعها" على حد قوله.
من جهته ذكر الأمين العام لرابطة علماء أهل السنة بتركيا، الدكتور جمال عبد الستار أن "المفسرين اختلفوا في تأويل المحكم والمتشابه على ثمانية أقوال، أحدها أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ، والثاني أن المحكم ما أَحكم الله بيان حلاله وحرامه فلم تشتبه معانيه، والثالث: المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها.. مرجحا تعريف المحكم منها بأنه "المشكوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال، والمتشابه ما يتعارض فيه الاحتمال، وتتعدد فيه الرؤى".
وردا على سؤال "عربي21" لماذا لم يكن القرآن كله محكما، قال عبد الستار: "لعدة أمور منها: استيعاب مستجدات كل العصور ليكون القرآن مهيمنا دائما في كل الأزمنة، ولتحريك العقول لتبحث وتجتهد، وتدرس وتستنبط، ولا تركن إلى الدعة والكسل العقلي، ولحث المسلمين على تدبر القرآن بعمق، والتطلع إلى الظفر بنفحاته وتجلياته".
وأضاف: "ومنها كذلك مراعاة طبيعة البشر، وتنوع أصنافهم، ففيهم الظاهري الذي يقف عند حرفية النص، وفيهم الذي يهتم بروح النص، ولا يكتفي بظاهره، وفيهم من يُسَّلم، وفيهم من يؤول،وفيهم العقلاني وفيهم الوجداني، ولأن الخطاب القرآني للناس جميعا اقتضت حكمة الله أن يسعهم خطابه، وأن يودعه من البينات والدلائل ما يرشدهم إلى الصواب، ولكن بعد بحث وجهد، حتى يرتقوا في الدنيا، ويثابوا في الآخرة".
وفي السياق ذاته قال الأكاديمي المغربي، الباحث في الفكر الإسلامي الدكتور فؤاد هراجه: "إن مبحث المحكم والمتشابه في علوم القرآن هو مما يتوجب أن يعلم بالضرورة، فالآيات المحكمة قطعية الدلالة ولا تحتمل أكثر من معنى، أما الآيات المتشابهة فظنية الدلالة وألفاظها تحتمل وجوها عدة من الفهم، وكل ظني يكون محط خلاف ولا يمكن الحسم فيه، لأن ألفاظه تنتظم في سلم الحقيقة والمجاز، والمجمل والمفصل، والمشكل.. وبالتالي فإن التعامل مع آي القرآن يقع في مستويات، منها التفسير والتأويل والتدبر".
أما ثمرة ضبط هذا المبحث وفق ما قاله هراجة لـ"عربي21"، فـ "تتلخص في الحرص على اجتناب التعصب للرأي استنادا إلى النصوص الدينية، خاصة في مجال السياسية والتدبير والتنظير، والتقرير في النوازل المستجدة، والحرص على فتح باب الاجتهاد لفهم النصوص المتشابهة وفق ما يتطلبه العصر، وبآليات عابرة للتخصصات".
وتابع: "ومن ثمراته كذلك الحرص على تحصين المحكم من القرآن بالإجماع على أحكامه العقائدية والتشريعية، والحرص على إحياء سُنَّة التدبر في آي القرآن عن طريق المدارسة، وعدم التهيب المفرط الذي يضيع العمل بقوله تعالى (أفلا يتدبرون القرآن)".
وختم كلامه لافتا إلى أن التدقيق في هذا الموضوع "يُظهر أن مشيئة الله شاءت أن يكون أكثر القرآن متشابها، لأن خطابه عابر للزمان والمكان، ومستحضر لأطوار تقدم البشرية، وبما أن القرآن رسالة خاتمة ستبقى نصوصه المتشابهة مفتوحة ومرنة أمام الآيات الآفاقية والأنفسية التي يكتشفها عقل الإنسان"، على حد تعبيره.